سكان فينيسيا يحلمون بسياحة تراعي البيئة بعد «كوفيد ـ 19»

في موسم الكرنفال يرتدي ملاحو «الجندول» الأقنعة المزركشة  (نيويورك تايمز)
في موسم الكرنفال يرتدي ملاحو «الجندول» الأقنعة المزركشة (نيويورك تايمز)
TT

سكان فينيسيا يحلمون بسياحة تراعي البيئة بعد «كوفيد ـ 19»

في موسم الكرنفال يرتدي ملاحو «الجندول» الأقنعة المزركشة  (نيويورك تايمز)
في موسم الكرنفال يرتدي ملاحو «الجندول» الأقنعة المزركشة (نيويورك تايمز)

قبل أن تصبح مدينة البندقية، الوجهة المفضلة لملايين المصطافين من مختلف دول العالم، بوقت طويل، كان السكان المحليون يهوون التسكع بلا هدف في ممراتها الضيقة، المسماة «كالي»، لا لشيء سوى الدردشة وتناول المشروبات مع المعارف في بعض الأحيان.
يبدو أن هذا التقليد قد عاد مرة أخرى بعد أن سحق الوباء صناعة السياحة، وقلص من جحافل الزائرين السنويين، ليعيد الصورة القديمة ذاتها، وأصبح من المألوف رؤية السكان، خصوصاً أولئك الذين تم تسريحهم من أعمالهم، وبات لديهم المزيد من الوقت والمساحة للاستمتاع بوتيرة الحياة البطيئة للمدينة العتيقة وجمالها الذابل. لكن قلة المال غالباً ما تقف حائلاً دون الاستمتاع بكل شيء آخر، واضطرت الحانات المحلية إلى البيع بالآجل، وقبول وعود المدفوعات المستقبلية.
تعليقاً على الحال الجديدة، قال ماتيو سيتشي، موظف خدمات فندقية عاطل عن العمل، إن «لسان حال الناس يقول: سأدفع لك في سبتمبر (أيلول) عندما يعود السياح. إذا لم نساعد بعضنا البعض، فمن سيفعل؟».
وقال سيتشي، مواطن من البندقية يعمل في السياحة منذ أن كان في المدرسة الثانوية قبل 30 عاماً، «كانت وظيفتي الأولى مرافقة السياح من الفنادق إلى متاجر جزيرة مورانو المتخصصة في صناعة الزجاج الملون. كانت السياحة هي اقتصادنا الوحيد، وكنا نظن أنها مورد لا ينفد».
لم تكن البندقية وحدها وجهة السياح، فقد نمت اقتصادات المدن الأوروبية الأخرى مثل برشلونة وبراغ وغيرها باعتمادها بشكل كبير على السياحة، مما جعلها الآن معرضة بشكل خاص للآثار الجانبية لوباء «كورونا».
لكن ثمة شعوراً جديداً يخالج العديد من المقيمين وشركات السفر المحلية هو أن الأزمة يمكن أن تخلق فرصة لجعل السفر المستقبلي إلى مدنهم ومناطقهم، وداخلها أكثر استدامة، وهي نقطة أثارت التفكير والنقاشات حول كيفية تخفيض الضرائب على البنية التحتية الحضرية السياحية، وعلى ما يدفعه السكان المحليون.
في البندقية، يأمل السكان والقادة المحليون في أن تتمكن مدينتهم من تطوير اقتصاد لا يستند بالكامل إلى السياحة؛ اقتصاد يجذب المستثمرين الدوليين، ويوسع من وجود جامعتين في المدينة، ويحول مبانيها الفارغة إلى مرافق أبحاث بيئية. في هذا الصدد، قال كلاوديو سكاربا، رئيس جمعية «فنزينيا البرغاتوري» التي تمثل 430 فندقاً في البندقية، «إن الوباء أغلق صناعة الفندقة في البندقية، لكنه يمثل أيضاً فرصة ثمينة لإعادة التفكير في السياحة»، مضيفاً أن «هذا هو الوقت المناسب لاستعادة هذه المدينة، وفي غضون عامين قد نعود للشكوى من السياحة المفرطة»، وهو الشعور ذاته الذي خالج العديد من سكان البندقية.
وفي السياق ذاته، قال باولو كوستا، عمدة مدينة البندقية السابق وأستاذ الاقتصاد الذي شغل أيضاً منصب رئيس جامعة «فورسكاري» في البندقية، «علينا أن نتحرك الآن قبل أن تعود السياحة الجماعية بكامل طاقتها، لأننا لن نحصل على فرصة ثانية».
قبل تفشي فيروس كورونا، كانت الفنادق في البندقية، وحولها، تستضيف 10.2 مليون سائح سنوياً، غالبيتهم من خارج إيطاليا، وفقاً لمكتب الإحصاءات الإيطالي. لكن هذا الرقم التقريبي لا يشمل الرحلات اليومية للسفن السياحية ومحطات القطار وجولات الحافلات. فحسب إحدى الدراسات، فإن العدد الفعلي للسياح يقدر بنحو 20 مليون سائح سنوياً، يتركز بشكل كبير في مساحة 2 ميل مربع وسط 50.000 من السكان، ينفقون نحو 3 مليارات يورو، ما يعادل 3.3 مليار دولار سنوياً. انتعشت السياحة الجماعية في العقود الأخيرة نتيجة للعولمة، ومنصات المشاركة المنزلية (تايم شير)، وتخفيضات تذاكر الطيران، وظهور الاقتصادات الناشئة، فقد بدأت شركات طيران مثل «إيزي جيب» و«ريان إير» وغيرها من الشركات منخفضة الكلفة بالتحليق إلى مطار «ماركو بولو»، فيما جلبت السفن السياحية وحدها 1.6 مليون زائر كل عام، وساعد تنامي القوة الاقتصادات الآسيوية للسياح الجدد بالانضمام إلى حشود الأوروبيين وأميركا الشمالية.
في موسم الذروة بين مايو (أيار) وأكتوبر (تشرين الأول)، وخلال الكرنفال في فبراير (شباط)، دائماً ما كانت البندقية مزدحمة بدرجة كبيرة، خصوصاً في ممراتها الضيقة «كالي»، الذي يبلغ عرضها المترين.
على سبيل المثال، عندما يزور ميسيلي، أستاذ الدراسات الحضرية، أخاه الذي يعيش في أحد أكثر شوارع المدينة السياحية ازدحاماً، لا يتمكن أحياناً من الخروج من الباب. ويصف الزحام بقوله، «إنه مثل الفيضان حرفياً. عليّ الانتظار لكي أخرج».
كانت الشرطة المحلية، من حين لآخر، تحدد السير في بعض الممرات في اتجاه واحد، وهو ما يؤيده ميسيلي بقوله: «أعتقد أن البندقية هي المكان الوحيد في العالم الذي تحتاج فيه إلى شوارع للمشاة باتجاه واحد».
كثيراً ما سارت كريستينا جيوساني، صاحبة محل لبيع الكتب، إلى منزلها محملة بالبقالة الثقيلة، لأن حافلات «فابوريتو» المائية العامة مكتظة بالسياح، وكانت تعتبر أن جسر ريالتو الشهير مغلق من الساعة 10 صباحاً حتى 5 مساءً، لأنه من المستحيل عبوره دون دفع الناس بالمرفقين».
غيرت السياحة من روح البحيرة، حيث تحولت محلات البقالة إلى متاجر للهدايا التذكارية، وأدى ارتفاع تكاليف الإسكان والنقص المتزايد في الخدمات إلى نزوح السكان خارجها. ومع وجود أكثر من 8000 شقة مدرجة على قائمة «آير بينب» لحجز الشقق والغرق الفندقية، فإن البندقية تعد صاحبة النسبة الأعلى في عدد الشقق المعروضة للإيجار في إيطاليا مقارنة بعدد السكان.
كان الموقع التاريخي للمدينة الذي يتألف من جزيرتين تضمان 175000 نسمة في ذروتها في خمسينيات القرن الماضي. وفي عام 2009، انخفض عدد السكان إلى أقل من 60.000، وهو الحد الأدنى لاعتبار المنطقة مدينة في إيطاليا. وللسخرية من الوضع الجديد، نظم سكان المدينة جنازة وهمية مع نعش ملفوف بعلم المدينة البالغة من العمر 1500 عام. واليوم يعيش في المدينة حوالي 50.000 نسمة.
قبل ستة أشهر، توقفت السياحة المنتعشة في البندقية فجأة، وانخفض عدد السياح في المدينة، وكانت المرة الأولى في نوفمبر (تشرين الثاني)، عندما حفزت سلسلة من حالات المد البحري المرتفع بشكل غير معتاد إلغاء الحجوزات. ثم اختفت السياحة تقريباً ابتداءً من أواخر شهر فبراير، عندما دفعت جائحة «كورونا» السلطات إلى إلغاء الكرنفال، وبعد فترة وجيزة أعلن عن إغلاق البلاد.
وفي هذا السياق، قال سكاربا، رئيس إدارة الفنادق، إن الانخفاض المفاجئ في السياحة قد يكلف المدينة أكثر من مليار يورو من العائدات، مضيفاً أن حوالي 10 آلاف من سكان البندقية يعملون في صناعة الفنادق وحدها، وأن الانتعاش سيكون بطيئاً، حيث تتوقع الفنادق ثلث العدد المعتاد من الزائرين في موسم الذروة العام الحالي.
منذ أن رفعت إيطاليا قيودها على الحركة في أوائل يونيو (حزيران)، لم تشهد المدينة الصغيرة سوى أعداد ضئيلة من الزوار، غالبيتهم العظمى يأتون يومياً من منطقة فينيتو المحيطة.
وحسب ميشيل بوجليسي، عميدة جامعة «فوسكاري»، أكبر جامعة في البندقية، فإن الأهم من ذلك كله أن الجامعتين التي تحتضنهما البندقية تعملان بدأب كبير على تنشيط سكان المدينة. ففي أواخر عام 2018، وبالشراكة مع المعهد الإيطالي للتكنولوجيا، دشنت «جامعة فوسكاري» مركزاً لتطبيق التقنيات للحفاظ على التراث الثقافي. وفي عام 2018 أيضاً، أسست الجامعة، بالتعاون مع المجلس القومي للبحوث في إيطاليا، برنامجاً لدراسة التغير المناخي. ومن المتوقع أن تتوسع الجامعة ابتداءً من الفصل الدراسي المقبل لتفتتح تخصصاً جديداً في العلوم الإنسانية البيئية باللغة الإنجليزية. كذلك قامت كلية «إيواف» الصغيرة للفنون العامة بتحويل أماكن المبيت والإفطار الخاوية إلى مساكن لنحو 4000 طالب، غالبيتهم ممن يسافرون إلى المدينة الصغيرة يومياً ذهاباً وإياباً.
ولأن تلك المشروعات الثلاثة وحدها لا تكفي لإعادة إعمار البندقية فإن بوجليسي، عميد الكلية، يعتقد أنها ستخلق نشاطاً تعود من خلاله المدينة إلى سابق عهدها. وتعد هذه هي المرة الأولى التي تشرع فيها مدينة البندقية في تبني مشروعات جديدة.
قريباً جداً، سيكون هناك العديد من المباني الخاوية في البندقية بعد أن يتعين عليها إغلاق بعض الفنادق، وقد حان الوقت للتفكير فيما يجب فعله بهذه المباني، حسب بوجليسي، مضيفاً: «قبل الوباء، كان على كل مشروع وكل فكرة أن تنتزع حصة من السياحة المفرطة، لكن الوضع اختلف الآن».

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

عالم الاعمال فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

أعلن فندق «شيراتون القاهرة»، وهو جزء من علامة «ماريوت» الدولية عن إعادة افتتاح البرج الشمالي للفندق.

الاقتصاد أشخاص يجلسون في مقهى بسيدي بو سعيد وهي مقصد سياحي شهير بالقرب من تونس العاصمة (رويترز)

عائدات السياحة التونسية تتجاوز 2.2 مليار دولار وسط توقعات قياسية

تجاوزت عائدات السياحة التونسية حتى شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 2.2 مليار دولار، وسط توقعات بتسجيل أرقام قياسية في عدد السياح الوافدين إلى البلاد.

«الشرق الأوسط» (تونس)
الاقتصاد أحمد الخطيب متحدثاً للحضور في المنتدى الاستثماري السعودي - الفرنسي بالرياض (الشرق الأوسط)

الخطيب: تطوير الشراكات السعودية - الفرنسية في المنظومة السياحية

قال وزير السياحة السعودي، أحمد الخطيب، الثلاثاء، إن السعودية تعمل على تطوير شراكات مع فرنسا لتبادل الخبرات والبيانات.

زينب علي (الرياض)
يوميات الشرق يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)

«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يشكل «ميدان الثقافة» الذي أطلقه برنامج جدة التاريخية التابع لوزارة الثقافة السعودية بوابة تربط بين الماضي والحاضر كمعلم حضاري كبير تحتضنه المدينة الساحلية جدة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق فنادق وكراسي الاستلقاء للتشمس بالقرب من شاطئ في بينيدورم بإسبانيا (شاتيرستوك)

إسبانيا تجبر السياح على كشف المعلومات الشخصية بموجب قانون جديد

تحذر بعض التقارير من مطالب «الأخ الأكبر»، بما في ذلك كشف الضيوف عن الأرصدة المصرفية، ولكن هذه المطالب تبدو غير مبررة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)