قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
TT

قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)

تتلاحق التهم التي تلاحق بها أجهزة استخبارات الغرب ووسائل إعلامه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتلتقي هذه التهم مع مخاوف قادة غربيين من تعزيز بوتين قبضته على الكرملين لسنوات طويلة مقبلة. مرة يُتهم بوتين بأنه يتدخل في انتخابات البيت الأبيض، ومرة بأنه حقق انتصاراً على الاتحاد الأوروبي عندما دعم فريق بريطانيا الساعي إلى الخروج. وكانت السفارة الروسية في لندن شريكة في حملة أنصار «بريكست». وفي مرة ثالثة مؤخراً عندما ذكرت تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية أن بوتين دفع أموالاً لعناصر مرتبطة بحركة «طالبان» لقتل جنود أميركيين وبريطانيين في أفغانستان.
وتذكر معلومات رسمية أميركية تم تداولها مع مسؤولين بريطانيين، أن «الوحدة رقم 29155» في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، هي التي وعدت بدفع الأموال لـ«طالبان». والمثير أن هذه الوحدة هي نفسها التي قام عنصران منها بمحاولة قتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال (الذي كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات العسكرية)، بغاز «نوفيتشوك» السام مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية في مارس (آذار) 2018. ورغم احتجاج رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في ذلك الحين، وإقرار حزمة عقوبات بريطانية على روسيا، كان نفي بوتين قاطعاً: «لا علاقة لنا بالأمر».
وكما في كل مرة عندما يتعلق الأمر بالتدخل الروسي في الشأن الأميركي، تجد إدارة دونالد ترمب نفسها في مواجهة انتقادات التغطية على هذا التدخل. في قضية دفع أموال لـ«طالبان»، قال المنتقدون إن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يتهم بوتين كان موجوداً على مكتب ترمب قبل خمسة أشهر من كشف صحيفة «نيويورك تايمز» عنه في الشهر الماضي؛ لكن لم يُعر أحد في المكتب البيضاوي الأمر اهتماماً، إما لأن ترمب لا يريد إغضاب بوتين في فترة تسبق الانتخابات الرئاسية، وإما لأن معلومات خطيرة بحجم قيام عناصر من «طالبان» بقتل جنود أميركيين ستحبط خطة ترمب لإبرام اتفاق مع هذه الحركة.
في كل الأحوال يمضي فلاديمير بوتين في طريقه حاكماً مطلقاً لروسيا، ليدخل التاريخ منافساً للإمبراطورة كاترين الثانية التي حكمت روسيا 34 سنة (من 1762 إلى 1796) بينما سيتيح التعديل الدستوري الأخير لبوتين أن يتجاوزها بسنتين، إذا بقي متربعاً على عرش الكرملين إلى عام 2036 (أطال الله أعماركم) عندما يكون قد بلغ الرابعة والثمانين ويكون قد بقي في الحكم 36 سنة، متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وحاكماً فعلياً في كل الأحوال.
قال بوتين للروس عندما طلب منهم تعديل الدستور: «نحن لا نصوت على هذه التعديلات باعتبارها قواعد قانونية فقط؛ نحن نصوت من أجل البلد الذي نريد أن نعيش فيه والذي نريد توريثه لأولادنا وأحفادنا». إنه الشعور الذي يسيطر على بوتين منذ توليه قيادة روسيا: أن تلك البلاد سوف تصبح يتيمة، وسوف تعود إلى فترة الضعف التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي عندما يغيب هو عن المسرح.
هذا الشعور هو الذي يدفع بوتين إلى فرض هيمنة كاملة على مراكز القرار في الداخل، وقمع أي معارضة يمكن أن تظهر في وجهه؛ لكنه يدفعه أيضاً إلى محاولة اختراق مركز القرار في الدول الغربية، واستغلال اللعبة الديمقراطية فيها لخدمة المصالح الروسية.
في كتاب مهم بعنوان «رجال بوتين: كيف استعاد (الكا جي بي) روسيا وانطلق إلى الغرب»، للصحافية كاثرين بيلتون التي غطت شؤون روسيا لسنوات طويلة كمراسلة لصحيفة «الفايننشيال تايمز» وأقامت شبكة علاقات مع مسؤولين في الكرملين ودبلوماسيين روس وعناصر في الاستخبارات، تروي قصة صعود بوتين، وكيف شكَّل شبكة من الضباط السابقين في جهاز الاستخبارات (كا جي بي)؛ عرفت باسم «سيلوفيكي» للتمهيد لتوليه الحكم أولاً كرئيس للوزراء في آخر أيام الرئيس السابق بوريس يلتسين، ثم كخليفة ليلتسين بعدما استقال الأخير عام 2000. هذه الشبكة هي التي تربط عناصرها عقيدة مشتركة تهدف إلى استعادة قوة ونفوذ الإمبراطورية الروسية، وشعور مشترك بأن الغرب يسعى باستمرار إلى محاربة دور روسيا حول العالم. وجاءت الثورتان في جورجيا وأوكرانيا سنتي 2004 و2005 لتعززا مخاوف بوتين من أن الغرب يعمل على الانقلاب على سلطته، ومن هنا كان الرد الاستثنائي بالتدخل العسكري في شرقي أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم الذي نفذه رغم معارضة واسعة من المجتمع الدولي.
تروي كاثرين بيلتون أيضاً كيف يعمد نظام بوتين إلى دفع أموال لأحزاب غربية تتبنى أفكاراً متطرفة؛ سواء كانت يمينية أو يسارية، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا، وحركة «النجوم الخمس» في إيطاليا، وحزب «جوبيك» اليميني العنصري في هنغاريا، وجماعة «بريكست» في بريطانيا. وما يجمع هذه الأحزاب والحركات هو عداؤها للاتحاد الأوروبي ولحلف الأطلسي. وبالطبع فمصلحة روسيا واضحة في إضعاف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعدما فتحا الباب لدول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا) للانضمام إليهما. هذه الخطوة ضاعفت قلق السياسيين الروس وأجهزة استخباراتهم من التقدم الغربي إلى حدود «الإمبراطورية الروسية».
وكرد على ذلك، تجمع تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية، الأميركية والبريطانية خصوصاً، على محاولات التدخل الروسي في عمليات تبادل السلطة في الأنظمة الأوروبية، وهو ما عجز عنه الاتحاد السوفياتي في عز نفوذه، ورغم اتساع شبكة الأحزاب الشيوعية في الدول الأوروبية آنذاك، وعلى الأخص في إيطاليا وفرنسا.
من أبرز التقارير ما سربته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عن دور الكرملين في دعم حملة ترمب للفوز بالرئاسة سنة 2016، وهو المعروف بعدائه لنفوذ وتلاحم الاتحاد الأوروبي، وانتقاداته الدائمة لحلف الأطلسي. وفي بريطانيا كانت شهادة كريستوفر ستيل الذي كان يعمل في الجهاز الخارجي للاستخبارات البريطانية (MI6) أمام لجنة الأمن والاستخبارات في مجلس العموم البريطاني فاضحة؛ عندما تناول فيها دور روسيا في دعم رئاسة ترمب، وكذلك دعم حملة بوريس جونسون وأعوانه لكسب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي جرى سنة 2016. أعدت تلك اللجنة على أثر ذلك تقريراً يتناول الدور الروسي، وصار جاهزاً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ لكن جونسون رفض الكشف عنه، كي لا يؤثر - كما يقول معارضوه - على نتائج الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بأكثرية كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولا يزال هذا التقرير نائماً في أدراج «10 داوننغ ستريت» إلى اليوم.
من بين ما كشفت عنه شهادة كريستوفر ستيل، أن السفير الروسي في لندن ألكسندر ياكوفنكو (غادر لندن في العام الماضي بعدما عمل فيها سفيراً لثماني سنوات) شكل مجموعة من أعضاء حزب المحافظين أطلق عليها «أصدقاء روسيا في حزب المحافظين»، وضمت عدداً من النافذين في الحزب الداعمين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكانت من بينهم كاري سيمونز صديقة بوريس جونسون ووالدة طفله الأخير، ونايجل فاراج أبرز رموز حركة «vote leave» الذي كان رأس الحربة في حملة «بريكست».
«حرب» مفتوحة على النفوذ والمصالح بين روسيا والغرب، ليس فيها ما يشبه صراع العقائد الذي كان قائماً في زمن الاتحاد السوفياتي. في هذه «الحرب» تشكل قبضة بوتين القوية الممسكة بالداخل الروسي، سياسةً واقتصاداً، السلاح الأقوى في وجه غرب مفكك وعاجز عن رسم سياسة موحدة تواجه تلك القبضة.



ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟