رحيل محمود رضا «أسطورة الرقص الشعبي» في مصر

طاف بفرقته الشهيرة مسارح العالم على مدار عقود

محمود رضا في فيلم «غرام في الكرنك»
محمود رضا في فيلم «غرام في الكرنك»
TT

رحيل محمود رضا «أسطورة الرقص الشعبي» في مصر

محمود رضا في فيلم «غرام في الكرنك»
محمود رضا في فيلم «غرام في الكرنك»

غيّب الموت، أمس، الفنان المصري الكبير محمود رضا «أسطورة الرقص الشعبي المصري»، ومؤسس «فرقة رضا للفنون الشعبية» العريقة، بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز 90 عاماً، تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من الأعمال الاستعراضية والسينمائية، ليسجل اسمه بحروف ذهبية بارزة في سجلات «كبار المبدعين المصريين».
رحلات رضا الاستقصائية في صعيد ودلتا مصر، التي كان يفتش خلالها عن أصول الفنون الشعبية والتراثية بالقرى الريفية والمدن الساحلية في خمسينيات القرن الماضي، منحته ميزة استثنائية وقدرة كبيرة على التجديد، بل كانت هذه الزيارات سر نجاحه وتفوق فرقته الشهيرة التي اقترنت باسمه على مدار 6 عقود، استطاعت خلالها رسم صورة واقعية ومبهجة عن الفن المصري الأصيل، داخل وخارج البلاد، بجانب مساهمتها في حفظ تراث مصر الشعبي الذي يجري الاستعانة به حالياً لإعادة إحياء الفلكلور المصري بالمناسبات العامة، وعلى شاشات التلفزيون.
وجددت وفاة الفنان محمود رضا المولود بحي الظاهر بقلب القاهرة عام 1930، حالة الحزن بالوسط الفني المصري، عقب أيام قليلة من وفاة الفنانة رجاء الجداوي، ونعاه عدد كبير من الفنانين، من بينهم خالد النبوي الذي قال على صفحته الرسمية على «تويتر»: «الفنان محمود رضا الذي أمتعنا وأعطى لنا البهجة زمنا طويلاً... ربنا يرحمك».
وكتب الفنان أحمد وفيق عبر «فيسبوك»، «رحل الفنان الكبير والموهبة العظيمة... رائد الفنون الشعبية، وباعث تراث مصر الحركي الرائع محمود رضا... هذا الرجل واحد من الذين جعلوني أتعلق بالفن وداعاً أيها الجميل».
ونعاه الفنان محمد صبحي، قائلاً عبر صفحته الرسمية على «فيسبوك»: «رحل اليوم فنان نادر ومبدع ورائد للفنون الشعبية، الذي كان من الأوائل الذين اهتموا وحافظوا على التراث الشعبي... محمود رضا حبيبي الرائع سافر بفرقته فرقة رضا كل دول العالم ما عدا القطبين... كان سفيراً هو والرائعة فريدة فهمي أطال الله في عمرها... كانا سفيرين مُرحب بهما أينما ذهبا ورفعا هامة مصر عالياً»، ونعته الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة المصرية قائلة: «إن الراحل واحد من أساطير الفنون الشعبية وعبرت تصميماته عن الروح المميزة للفنون الاستعراضية المصرية، كما نجح في الوصول للعالمية بالفرقة التي باتت سفيراً لقوى مصر الناعمة».
محمود رضا خريج كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1954، وصاحب الترتيب الثامن بين أشقائه التسع، تزوج من السيدة نديدة فهمي «خديجة»، شقيقة فريدة فهمي بطلة فرقة رضا، ولكنها توفيت، ثم تزوج اليوغسلافية روزا، وأنجب منها الفنانة شيرين رضا. وبدأ رضا مشواره بالسينما في عام 1949، حيث قدم دور «راقص» في فيلم «أحبك أنت»، وبعدها شارك في فيلم «بابا أمين» للمخرج يوسف شاهين، ولعب دور راقص في الكباريه، الذي كانت تعمل به فاتن حمامة. وشارك الفنان الراحل أيضاً في أفلام «أغلى من عينيه»، و«قلوب حائرة»، و«فتى أحلامي»، و«ساحر النساء»، و«نور عيوني»، و«غريبة»، و«عفريت سمارة»، وفي عام 1967، قدم «غرام في الكرنك» الذي يعد فيلمه الأشهر، وسبب شهرته الواسعة، وفق نقاد مصريين. فيما كان آخر أعماله مسلسل «قمر 14» في عام 2008.
على مدار 60 عاماً، طافت «فرقة رضا للفنون الشعبية»، التي فتحت الباب لتأسيس 25 فرقة أخرى تقدم الفنون الشعبية المصرية، أنحاء العالم، وتنقلت بين مسارح نيويورك بالولايات المتحدة، و«مسرح الأولمبيا» بباريس، في فرنسا، ومسرح «قاعة ألبرت هول» في لندن، معبرين عن التراث الشعبي والفني المصري برؤية دقيقة ومبهجة ومثيرة للإعجاب.
واكتشف الفنان الكبير الراحل عدداً كبيراً من المواهب الفنية، وضمها إلى فرقته التي قدمت منذ تأسيسها وحتى الآن أكثر من 3 آلاف عرض عالمي في أهم وأعرق المسارح العالمية. واحتفلت الفرقة التي اشتهرت باستعراضات «حلاوة شمسنا»، و«الأقصر بلدنا»، و«رقصة اللمونة»، و«الفلاحين»، و«الإسكندراني»، و«التنورة»، و«التحطيب»، و«الكرنبة والنوبة»، العام الماضي بعيد ميلادها الستين، عبر احتفالية رعتها وزارة الثقافة المصرية، على مدار أسبوعين، تقديراً لدورها في نشر الفنون الشعبية والتراث المصري.
«فرقة رضا» التي تتبع وزارة الثقافة المصرية منذ عام 1961، بلغ عدد أعضائها عند التأسيس نحو 13 فرداً، واستمرت في الزيادة حتى وصل عدد أفرادها خلال سبعينيات القرن الماضي عشرات الفنانين، ما اضطر رضا إلى تقسيم الفرقة إلى ثلاثة أقسام، قبل إنشاء مدرسة «فرقة رضا للمواهب الجديدة»، لكن بسبب وقف تعيين راقصين جدد بالفرقة الرائدة، وفق توجهات حكومية، تقلص عدد أعضائها حالياً ليصل إلى 22 راقصاً وراقصة.
وفي نهاية العام الماضي، غيّب الموت الفنان المصري حسن عفيفي، مصمم الاستعراضات وعضو فرقة رضا للفنون الشعبية، سابقاً، عن عمر يناهز 77 عاماً بعد صراع مع المرض.
وحصل محمود رضا على الجائزة الأولى والميدالية الذهبية في مهرجان جوهانسبرغ 1995، كما حصلت الفرقة على العديد من الشهادات التقديرية في جميع العروض الداخلية والخارجية، حاملة معها اسم مؤسس الفرقة الذي غيبه الموت أمس، لتخلد اسمه في قائمة المبدعين المصريين الذين لا يحرمهم الموت من البقاء في سجلات الأساطير الفنية التي أثرت مصر والعالم العربي بعروضها المميزة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)