التكنولوجيا تحيي الأمل في إبصار أفضل

أجهزة تدمج تقنيات الواقع الافتراضي والبرامج الإلكترونية توفر الأمل لمن يعانون من ضعف البصر الشديد

جهاز يعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي والبرامج الإلكترونية لمن يعانون من ضعف البصر الشديد (نيويورك تايمز)
جهاز يعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي والبرامج الإلكترونية لمن يعانون من ضعف البصر الشديد (نيويورك تايمز)
TT

التكنولوجيا تحيي الأمل في إبصار أفضل

جهاز يعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي والبرامج الإلكترونية لمن يعانون من ضعف البصر الشديد (نيويورك تايمز)
جهاز يعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي والبرامج الإلكترونية لمن يعانون من ضعف البصر الشديد (نيويورك تايمز)

عندما انضم جيمي بلاكلي إلى القوات المسلحة لخدمة وطنه أثناء حرب فيتنام، كانت حالته الصحية وبصره في حالة ممتازة. ومع ذلك، فإنه لدى إنجازه الخدمة العسكرية عام 1971 كان بصره قد بدأ في التراجع على نحو حاد.
واكتشف الأطباء وجود آثار من «العامل البرتقالي» (مبيد حشري سام جرى استخدامه أثناء الحرب) في دمائه، وأخبروه أنه من المحتمل أن يتسبب في تراجع في حدة بصره. وعلى مر سنوات، خاض بلاكلي جراحة وعدة عمليات حقن للعينين، لكنه أصبح ضعيف البصر على نحو بالغ بحلول عام 1999، وبسبب ذلك، اضطر إلى الاستعانة بعدسات مكبرة فوق عدسات نظارته كي يتمكن من القراءة، واحتاج لأن يجلس على بعد قدمين من شاشة التلفزيون الخاص به البالغ حجمها 65 بوصة، الأمر الذي أصابه بإحباط شديد.
بعد ذلك، علم بلاكلي، البالغ اليوم 72 عاماً ويعيش في كوليدج ستيشن، بأمر «آيريس فيجن»، وهو جهاز يعتمد على هاتف ذكي وجهاز يوضع على الرأس خاص بالواقع الافتراضي وبرنامج لوغاريتمات لمعاونة أصحاب النظر الضعيف على الرؤية والقراءة بوضوح. ووجد بلاكلي في الجهاز تجربة غيرت مسار حياته.
وعن ذلك، قال: «شعرت بالانبهار. لقد شعرت وكأنني استعدت نظري في سن الـ19».
من بين الشركات التي تسعى لاستغلال التكنولوجيا في إيجاد حلول لمشكلات الإبصار، تعمل «آيريس فيجن» على التقدم خطوة عن الآخرين، ذلك أن الجهاز الذي ابتكرته، بجانب إسهامه في تحسين القدرة على الإبصار، من المتوقع أن يتمكن من تشخيص الحالات الصحية وإجراء اختبارات، بل وعلاج المرضى عن بعد في غضون عامين من الآن.
من ناحيته، قال جيروم ووجيك، مدير البرنامج وشؤون الموارد البحثية لدى «المعهد الوطني للعيون»، الذي يشكل جزءا من المعاهد الصحية الوطنية: «رغم أن مظهره قد لا يكون جذاباً، فإنه يقدم خدمات قيمة حقاً للأفراد. إننا في جوهرنا حيوانات بصرية. وإذا فقدت رؤيتك على الإبصار، فستفقد جزءا كبيراً من حياتك».
وأشار ووجيك إلى اعتقاده بأن الأجهزة التي تعتمد على الذكاء الصناعي في إجراء اختبارات وتشخيص وعلاج المرضى عن بعد هي المستقبل، ذلك أنها ستمكن أطباء العيون وغيرهم من علاج سكان المناطق الريفية والنائية.
ومن الممكن أن تصبح السوق المتاحة أمام هذه التكنولوجيا الجديدة هائلة. جدير بالذكر في هذا الصدد أن قرابة 6.4 مليون أميركي يعانون ضعف البصر على نحو يتعذر تصحيحه باستخدام النظارات أو العدسات اللاصقة، تبعاً لما ورد في تقرير أصدرته الأكاديمية الوطنية للعلوم عام 2016.
ومن بين هؤلاء 4.2 مليون نسمة تتجاوز أعمارهم الـ40 ومع تقدم أبناء الجيل الذي ولد بين عامي 1946 و1964 واشتهر بكثرة الإنجاب، في العمر من المتوقع أن تشهد البلاد ارتفاعاً شديداً في معدلات الأمراض والحالات الصحية المرتبطة بالعمر، مثل التنكس البقعي والغلوكوما واعتلال الشبكية السكري.
من ناحية أخرى، تسببت أزمة تفشي وباء فيروس «كورونا» في ازدياد الوضع صعوبة أمام أصحاب الإعاقات البصرية، ذلك أن أصحاب النظر الضعيف يعتمدون بشدة على اللمس والأصوات في التعرف على الأشياء والأشخاص. وقد يصبح هذا الأمر صعباً في وقت يلتزم المرء بتطهير يديه باستمرار وممارسات التباعد الاجتماعي والإنصات إلى الآخرين عبر أقنعة حماية الوجه، حسبما شرح الدكتور بيني روزنبلوم، مدير شؤون الأبحاث لدى «المؤسسة الأميركية للمكفوفين».
وأضاف روزنبلوم أن أصحاب النظر الضعيف قد يجدون أنفسهم معزولين بدرجة أكبر عن المعتاد لعجزهم عن استخدام تطبيق «زوم» والتكنولوجيات الأخرى التي تبقيهم على اتصال بآخرين.
على الجانب الآخر، تفتق ذهن فرنك ويربلين، أحد مؤسسي «آيريس فيجن» وأحد العلماء البارزين في الشركة وبروفسور علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي منذ أكثر عن 40 عاماً، عن فكرة ابتكار جهاز «آيريس فيجن» عام 2014 وأثناء حديثه أمام مؤتمر عقدته «مؤسسة محاربة فقدان البصر»، اقترب منه جيه. لين دوغان، أمين المجلس، وعرض عليه إمداده بالتمويل إذا ما تمكن ويربلين من ابتكار جهاز يمكن ارتداؤه بإمكانه معاونة ابنته التي تعاني إعاقة بصرية.
وقال ويربلين إنه لطالما شعر بالانبهار إزاء العلاقة بين المخ والأعصاب، وشبكية العين والقدرة على الإبصار، الأمر الذي دفعه بحماس إلى قبول التحدي.
وخلال المشروع، استعان ويلبرين بمطور بارع بمجال تطبيقات الهاتف يدعى عماد خان، كشريك له في المشروع. وعن هذا، قال خان: «تخيل فكرة بمقدورها إحداث تحول في حياة إنسان ما، كان ذلك أمرا شديد الجاذبية لي».
ومع تقديم دوغان 1.5 مليون دولار، وتوافر منحة بقيمة 1.5 مليون دولار أخرى من «المعهد الوطني للعيون»، وقرابة 4 ملايين دولار من مجموعة من المستثمرين الخيرين، انطلق العمل في المشروع. وتعاون القائمون على المشروع مع خبراء من جامعتي ستانفورد وجونز هوبكينز، ودخلوا في شراكة مع شركة «سامسونغ» التي وفرت الهاتف الذكي وتكنولوجيات الواقع المعزز والواقع الافتراضي والواقع المختلط، وكذلك منصة الذكاء الصناعي المتنقلة. وبحلول عام 2017 كان العمل قد انتهى في الجهاز.
من جهته، يسهم «آيريس فيجن» في استعادة الوظائف البصرية للأشخاص الذين يعانون حالات مثل التنكس البقعي واعتلال الشبكية السكري والتهاب الشبكية الصباغي ومرض ستارغاردت والضمور البصري ـ لكن ليس إعتام عدسة العين.
وبمقدور الجهاز معاونة شخص يعاني من انخفاض مستوى حدة البصر إلى 20 - 1000.
أما عن كيفية عمل الجهاز، فإنه يعين المخ على استخدام أجزاء العينين التي لا تزال تعمل بكفاءة. وتتولى كاميرا الهاتف الذكي التقاط صور ما، ثم يتولى جهاز الواقع الافتراضي الذي يجري ارتداؤه على الرأس مع برنامج اللوغاريتمات تعزيز الصورة من خلال توفير قدر كاف من المعلومات لسد الفجوات وإعادة رسم ملامح المشهد من أجل توفير صورة كاملة.
وفي وقت قريب، أضافت الشركة خدمة تحكم صوتي وبث فيديو مباشر و«أليكسا» وعددا من السمات التفاعلية الأخرى كي تتيح لمن يعانون ضعف البصر الوصول إلى الأخبار وتحديثات حالة الطقس وفيديوهات «يوتيوب» والبرامج التلفزيونية والتي يشاهدونها من خلال الجهاز الذي يجري ارتداؤه على الرأس. وبمقدور الشخص الذي يرتدي الجهاز تعديله من خلال إصدار أمر صوتي أو الضغط على زر، بحيث يقرب الصورة أو يعدل اللون أو يغير مستوى الإضاءة.
ورغم ذلك، تبقى هناك بعض أوجه القصور في الجهاز الجديد، أبرزها ضخامته وثقل وزنه وضرورة أن يبقى من يرتديه ثابتاً في مكانه كي يتمكن من استخدامه. كما أنه يتسم بارتفاع تكلفته، ذلك أن ثمنه يبلغ 2950 دولاراً.
- نيويورك تايمز


مقالات ذات صلة

«بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

عالم الاعمال «بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

«بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

تعود فعالية الأمن السيبراني الأبرز عالمياً «بلاك هات» في نسختها الثالثة إلى «مركز الرياض للمعارض والمؤتمرات» ببلدة ملهم شمال العاصمة السعودية الرياض.

تكنولوجيا «غوغل» تطلق النسخة الأولية من آندرويد 16 للمطورين مع ميزات جديدة لتعزيز الخصوصية ومشاركة البيانات الصحية (غوغل)

«غوغل» تطلق النسخة الأولية من آندرويد 16 للمطورين مع ميزات جديدة

أطلقت «غوغل» النسخة التجريبية الأولية من آندرويد 16 للمطورين، وهي خطوة تمهد الطريق للتحديثات الكبيرة المقبلة في هذا النظام.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
تكنولوجيا «أبل» تؤكد مشكلة اختفاء الملاحظات بسبب خلل بمزامنة (iCloud) وتوضح خطوات استعادتها مع توقع تحديث (iOS) قريب (أبل)

اختفاء الملاحظات في أجهزة آيفون... المشكلة والحلول

وفقاً لتقرير رسمي من «أبل»، فإن المشكلة تتعلق بإعدادات مزامنة الآيكلاود (iCloud).

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
تكنولوجيا تمكنك «دورا» من تصميم مواقع ثلاثية الأبعاد مذهلة بسهولة تامة باستخدام الذكاء الاصطناعي دون الحاجة لأي معرفة برمجية (دورا)

صمم موقعك ثلاثي الأبعاد بخطوات بسيطة ودون «كود»

تتيح «دورا» للمستخدمين إنشاء مواقع مخصصة باستخدام الذكاء الاصطناعي عبر إدخال وصف نصي بسيط.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص يحول الذكاء الاصطناعي الطابعات من مجرد خدمة بسيطة إلى أداة أكثر ذكاءً واستجابة لحاجات المستخدمين (أدوبي)

خاص كيف يجعل الذكاء الاصطناعي الطابعات أكثر ذكاءً؟

تلتقي «الشرق الأوسط» الرئيسة العامة ومديرة قسم الطباعة المنزلية في شركة «إتش بي» (HP) لفهم تأثير الذكاء الاصطناعي على عمل الطابعات ومستقبلها.

نسيم رمضان (بالو ألتو - كاليفورنيا)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)