ضربات خفيفة على الأوتار… خفيفة وبعيدة كما لو كانت آتية من عمق التاريخ… ثم صوت نسائي يصاحبها. قريب وعذب يصدح. تخاله يجول في الفضاء… صوت بلا كلمات.
هكذا تبدأ موسيقى فيلم «ذات مرة في الغرب» (Once Upon a Time in the West) كما كتبها إنيو موريكوني، الذي توفي عن 91 سنة يوم أول من أمس، لذلك الفيلم الذي أنجزه سيرجيو ليوني سنة 1968 كواحد من ثلاثية عكف على بطولتها كلينت ايستوود وشملت «حفنة دولارات» (1964) و«لأجل حفنة دولارات أكثر» (1965).
ليس أن تعاون موريكوني مع سيرجيو ليوني توقف عند هذه الثلاثية، لكن موسيقاه التي انسابت من أفلام هذه الثلاثية حولته إلى كاتب موسيقي ذائع الصيت علما بأنه كان قد كتب موسيقى عشرات الأفلام منذ العام 1961 عندما وضع أول مقطوعة موسيقية لفيلم في حياته.
عند الناقد البريطاني بيتر برادشو (ذَا غارديان) هو «السلف العظيم لموسيقى الأفلام الحديثة» وعند أوون غيلبرمان (ڤاراياتي) هو «أحد كبار الملحنين الرومانسيين للسينما». يمكن لهذا الناقد أن يُضيف أن موريكوني كان أكثر موسيقي منح الفيلم الذي يعمل عليه بعداً ثالثاً لجانب الصوت والصورة.
نعم الموسيقى في أي فيلم هي صوت، لكن عند البارعين وعظماء الملحنين للسينما، وموريكوني كان من أفضلهم، هي كيان مُضاف كما الحال في تلك المقدمة التي تنساب في مطلع «ذات مرة في الغرب».
ورث الموسيقى
وُلد في روما في العاشر من نوفمبر ، 1928. كان واحداً من خمسة أولاد ووالده كان لاعب ترومبت وهو الذي علمه كيف يعزف على عدد من الآلات الموسيقية وكيف يكتب ويقرأ النوتات. وحسب بعض المراجع الإيطالية كان في السادسة من العمر عندما كتب أول نوتة له وفي العقد الثاني من العمر عندما بدأ يعزف.
حين قامت الحرب العالمية الثانية هدأ عزفه ثم عاد حال انتهت فأخذ إنيو يكتب للإذاعة الإيطالية ولبعض مغني الأربعينات والخمسينات. في الستينات انحاز للعمل السينمائي وكتب، أول ما كتب، موسيقى لفيلم كوميدي ساخر بعنوان «الفاشيستي» للوكيانو سالسي (1961). مباشرة من بعده وجد موريكوني نفسه في خضم تأليف موسيقى للعديد من الأفلام التجارية العابرة. بعضها أكشن وبوليسي («الرصاص لا يجادل» لماريو شيانو)، وكوميدي («قلوب مليئة وجيوب خاوية» لكاميليو ماستروشنكيو) والدراما («الباسيليكس» للينا ڤرتمولر).
في العام 1964 كتب موسيقى فيلم «قبل الثورة» لبرناردو برتولوتشي وفي العام ذاته وضع موسيقى ثمانية أفلام أخرى من بينها «قبضة دولارات» لسيرجيو ليوني. حين سأله أحد الصحافيين ذات مرة عن السبب الذي من أجله ذاعت موسيقى ذلك الفيلم عالميا قال: «لا أدري. هذا أسوأ فيلم لليوني وأسوأ موسيقى كتبتها لفيلم».
وبعد عامين كتب موسيقى فيلم «معركة الجزائر» لجيلو بونتيكورڤو، الذي كان بدوره أحد أفضل المؤلفات الموسيقية له في تلك الفترة. الواقع، أن موريكوني كتب في تلك الستينات عشرات الأفلام بتنوع كبير ومعظم ما كتب كان لأفلام ليست ذات قيمة (من بينها فيلم جاسوسي بعنوان «العميل 505 فخ موت في بيروت» للألماني مانفرد كولر، 1966) أو لم تستطع أن تفوز بنجاح نقدي وتجاري كما حال «معركة الجزائر» و«الصقر والسنونو» لبيير باولو بازوليني وثلاثية ليوني.
بعد تلك الثلاثية خاض موريكوني درب النجاح مع ليوني في أفلامه اللاحقة: «ذات مرة في الغرب» (1968) و«اختبئ أيها المغفل» و«ذات مرة في أميركا» (1984).
تميز وتشابه
بناء على شهرته زاد الطلب عليه من قِبل مخرجين ومنتجين عالميي الطموحات. نراه يتعاون مع الإيطالي ماركو بيلوكيو في «الصين قريبة» (1967) ومورو بولينيني في «أرابيلا» (1967)، والفرنسي هنري فرنويل «مدافع سان سابستيان» (1968) والإيطاليين ليليانا كافاني («غاليليو») وبازوليني («تيوريما») وإليو بيتري («تحقيق حول مواطن فوق الشبهات»).
في سنة 1969 وحدها كتب موسيقى 23 فيلما متنوعا بينها «العصبة الصقلية» (فرنويل) و«أحرق» (بونتيكورفيو) و«موسم قصير» (رينالتو كاستيلاني).
في العام التالي (1970) التقى موريكوني - فنياً - مع كلينت ايستوود، بطل تلك الثلاثية الشهيرة لليوني، في فيلم دون سيغل «بغلان للأخت سارا» وانطلق منه صوب لتأليف موسيقى 15 فيلماً آخر في السنة ذاتها و21 فيلما في العام الذي تلاه.
من الطبيعي أن لا تكون كل تلك المقطوعات الموسيقية بجمال أعماله على أفلام ليوني وبونتيكورفو وبازوليني وهنري فرنويل أو مورو بولينيني. في الواقع وجدت اختلافاً قليلاً بين «دائرة حب» (لفولكو كويليشي)، لكن في غالب ما أتيح لي سماعه من أعماله فإن التشابه يكمن في نوعية التأليف الموسيقي وليس في اللحن بحد ذاته.
في السنوات الثلاثين الأخيرة استمعنا إلى موسيقاه في الفيلم السياسي الأميركي الساخر «بولوورث» (وورن بيتي، 1998) وفي «أسطورة 1900» (ثاني تعاون له مع الإيطالي جوزيبي تورناتوري بعد «سينما بإراديزو») وكتب فيلم الرعب «فانتوم الأوبرا» (نسخة داريو أرجنتو الإيطالية من الرواية الشهيرة، 1989) و«مهمة للمريخ» (برايان دي بالما، 2000) و«الثمانية الكارهون» (لكونتِن تارنتينو، 2015). لكن معظم أعماله حتى في تلك الآونة التي بات أسمه فيها أكثر شهرة من أسماء معظم مخرجي العالم، بقي محافظاً على علاقته بالسينما الإيطالية التي كتب لها معظم ما كتب. وكان معروفاً عنه إنه لا يغادر روما ولا يتحدث لأحد إلا باللغة الإيطالية.
وضع موريكوني نحو 420 موسيقى للسينما وأكثر من 90 موسيقى لأعمال تلفزيونية وهذا رقم لا يجاريه فيه أي من أترابه الموسيقيين. وهو كان يفكر موسيقى طوال ساعات صحوه وربما حتى خلال نومه. يقول: «تلعب الموسيقى في بالي أولاً ثم أكتبها أول ما أجد قلماً وورقة».
وفي حين أن أترابه من الموسيقيين كانوا يكتبون ألحان أفلامهم استلهاماً مما صور من الفيلم قبل ذهابه إلى آخر مراحل المزج والتوليف، كان موريكوني قادراً على أن يكتب الموسيقى عبر قراءة السيناريو أي قبل التصوير أو خلاله.
وفي حين كتب أترابه من الموسيقيين ألحانهم استلهاماً مما صُور من الفيلم قبل ذهابه إلى آخر مراحل المزج والتوليف، كان موريكوني قادراً على أن يكتب الموسيقى عبر قراءة السيناريو أي قبل التصوير أو خلاله.
كان لا بد لهذه الغزارة في الإنتاج أن تتجه بأعماله صوب قلة مميزة وكثرة أقل تميزاً. هناك من يقول إن معظم ما كتبه موريكوني كان مميزاً، وهذا لا بد من إثباته فيلماً وراد آخر، لكن حتى في هذا النطاق، يكفي موريكوني أنه ألتصق بالسينما خلال خمسين عقد أثرى فيها الأفلام بأكثر من 400 لحن واستحق مكانته عبرها كأحد أهم مؤلفي الموسيقى السينمائية حول العالم.
إنيو موريكوني منح الأفلام بعدها الثالث
ورحل عن 523 لحناً للسينما والتلفزيون
إنيو موريكوني منح الأفلام بعدها الثالث
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة