المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

على مدى قرون كانوا يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة
TT

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

أشباح يحومون حول تاريخ النشر والبحث في الإنسانيات في فجر الحداثة الأوروبية: أشباح نحيلون شعث؛ إنهم المصححون، كما يسمون عادة، الذين كانوا يهيئون المخطوطات للطباعة، ويراجعون النسخ، وغالباً ما كانوا يضيفون مادة أصلية من عندهم. كانوا في كل مكان من عالم الطباعة، والإنسانويون الأوائل في العصر الحديث -وبينهم أسماء مألوفة اليوم- إما أثنوا على عملهم أو قللوا من شأنه.
ما الذي فعله إذن المصححون والقراء؟ دفاتر الحسابات لبعض المؤسسات الكبيرة ما تزال موجودة، وفيها دلائل مباشرة. فدفتر مؤسسات فوربن وإيبيسكوبولوس، مثلاً، يحتفظ بسجل لأجور الموظفين بين عامي 1557 و1564؛ كل قائمة من الموظفين تبدأ بمصحح أو ناقد متشدد: دليل واضح أن هؤلاء الموظفين العلماء الذين تظهر أسماؤهم قبل أسماء المنضدين وعمال الطباعة، قد حظوا بمكانة خاصة أعلى من مكانة أولئك الذين عملوا بأيديهم. وكل قائمة تتضمن أيضاً قارئاً يدفع له نصف ما يدفع للمصحح أو أقل من ذلك. وأحياناً تشير الوثيقة إلى أن مصححاً أو قارئاً بعينه كان يتسلم مبلغاً لقاء أعمال أخرى أيضاً. وفي مارس (آذار) 1563، دُفع لبارثولوميوس فارولي لقاء تصحيح نسخة من النص القانوني، كتاب غيوم ديوراند «مرآة القانون»، ولإنجازه فهرساً للعمل.
وقد قام المصححون بأشياء أخرى كثيرة أيضاً، فصححوا نسخة المؤلف والبروفات، وحددوا وصححوا الأخطاء الطباعية، وغيرها من الأخطاء، بأعلى ما لديهم من خبرات، ووزعوا النصوص إلى أقسام، ووفروا ما يعين القراء: صفحات عناوين، ومحتويات، وعناوين فصول، وفهارس. وبعض المصححين ألفوا نصوصاً ونصوصاً مصاحبة، توفر ما يمكن أن يشار إليه اليوم بمزودي المحتوى.
وأحياناً، كان المصححون يمارسون دور الوسطاء الخبيرين بين المؤلف والناشر. وقد بدا أن المصحح يمثل نوعاً اجتماعياً جديداً: ظاهرة دخلت عالم الطباعة، إلى جانب كونه ابناً مولوداً محلياً لمدينة الكتب الجديدة التي صنعتها الطباعة. ويبدو واضحاً أن الفن الجديد أوجد مهاماً جديدة. فقد واجه الطابع منافسين كثيرين في السوق، وكان عليه -أو عليها- أن يبين أن منتجاً محدداً كان متفوقاً على منتج المنافسين. وإحدى الطرق لفعل ذلك -كما قرر أصحاب المطابع ذلك بسرعة- كانت بالتركيز في «الكولوفون» (الإشارة في نهاية المخطوطة إلى اسم الناسخ، وزمان النسخ ومكانه)، أو فيما بعد، على صفحة الغلاف، أن علماء قد صححوا النص. وفي إيطاليا وألمانيا على حد سواء، وعدت الكتب المطبوعة في القرن الخامس عشر قراءها ليس فقط بنصوص، وإنما بنصوص «مصححة بإتقان»؛ أي أنها «صححت وروجعت بانتباه»، أو «روجعت بأقصى درجات الإتقان والدقة» من قبل دارسين معينين. وتوظيف شخص يصحح نصاً -أو الادعاء بفعل ذلك، كما فعل كثير من أصحاب المطابع مع أنهم لم يقوموا بذلك- مثّلَ طريقة عقلانية مؤثرة في الحصول على نصيب أكبر من السوق.
ومن أكثر الحقائق غرابة فيما يتعلق بالمصححين هي تلك التي كانت -وما تزال- مؤسفة: رغم كل الفائدة فيما عملوا، وجد المصححون أنفسهم عرضة للغضب والشفقة والسخرية أكثر منه لعدم العرفان بالجميل، حين وصف فيجيليوس زويكيموس، عام 1534، مطبعة هيرونيموس فوربنس، وذكر المصحح الرئيسي هناك، سيغيزموند غيلينيوس، ليتحدث فقط عن مدى الأسى الذي شعر به حين رآه موظفاً يقوم بتلك المهمة. وكان غيلينيوس، كما ذكر فيجيليوس «عالماً استثنائياً جديراً بأشياء أفضل بكثير»، وقد وافقه على ذلك الجميع تقريباً. وجيريماياه هونشوخ، المصحح المعتز بنفسه مؤلف كتاب مدرسي عن حرفة التصحيح، اعترف أنه هو نفسه دخل في المهنة ليتفادى مهنة أسوأ هي التعليم، وأن معظم زملائه، لو استطاعوا «سينطلقون كالرصاصة من الورشة ليكسبوا عيشهم بذكائهم وعلمهم لا بيديهم».
وكان لدى المصححين كل الأسباب التي تجعلهم يشعرون بأنهم لا يستفاد منهم على الوجه الصحيح؛ كان ما يدفع لهم قليلاً، أقل مما يدفع لأفضل المنضدين وعمال المطبعة.
«الكونكورديا»، وهي وثيقة أرشيفية تسجل اتفاق المصححين عام 1664 على عقد احتفال سنوي، تسجل أيضاً الهمسات، إن لم يكن الصرخات، التي كانت تمر بين المصححين حين يلتقون لتبادل القيل والقال: «أنا، فيليب جاك. نوينز غالباً ما سمعت من الآخرين، وسمع المبجل دي كلين من ماستر فاندرفيدين، وسمع هيرونيموس دي برافيو من فاندرفيدين أيضاً، أن المصححين اعتادوا أن يتلقوا زيادة في المرتب بعد مرور عامين على وجودهم هنا. نوينز وأيضاً ديكلين المشار إليه سمع هذا كثيراً». المصحح العليم، بتعبير آخر، عانى مما بدا أحياناً أنه القدر الجوهري للإنسانويين: تعليمه الكلاسيكي منحه الذائقة المرهفة، ولكنه لم يؤهله لأكثر من أن يكون فقيراً يشقى بالثقافة، لا مرتبُه أفضل ولا هو أكثر أماناً في وظيفته من العاملين ذوي الأيدي الملطخة بالحبر الذين يكدحون إلى جانبه.
والأكثر إزعاجاً من ذلك، على الأرجح، حقيقة أن المكانة الثقافية والاجتماعية للمصحح كانت مهزوزة بقدر ما كان وضعه المالي. فكثير من المصححين كانوا رجالاً متعلمين افتقروا إلى الوسائل والصحة والمزاج الذي يساعدهم على التقدم في مهنتهم، ولكن بعضهم كانوا حرفيين. فالمصحح تيودور بولمان عمل -كما يبدو- فيما أحب أن يدعوه «دكان الدراسة والدعك مجتمعين» (ميوزغنافيوم) الذي كان يوقع فيه مقدماته، بينما يودع قراءه «وداعاً، إذن، أيها الدعاك»، وكتب المؤرخ الإيطالي جوزيف سكاليجير، في هامش نسخته التأمل في ممارسات التصحيح، أنه -مثل قراءة كل رسائل باحث كبير- يمكن أن ينتج حكاية جديدة. وعام 1543، أخرج الطابع النورمبرغي الماكر يوهان بيتريوس كتاب كوبرنيكُس «حول دورات الأجرام السماوية». ولم يكن بمقدور المؤلف الذي كان بعيداً مريضاً أن يرى الكتاب في أثناء الطباعة. وبدلاً من ذلك، أعدت نسخة، وقرأت النسخ الطباعية على يد رجال خبيرين بالناشرين والطباعة: غورغ يواكيم ريتيكوس الذي مثل كثير من المصححين عمل بصفته ممثلاً لبيتريوس يتصيد المؤلفين والمخطوطات الجديدة، إلى جانب أندرياس أوسلاندر، لم يتركوا العمل كما هو. وبعد أن ظهرت مخطوطة كتاب كوبرنيكُس في القرن التاسع عشر، لاحظ الفيلولوجيون أن طبعة بيتريوس اختلفت عنها في مئات التفاصيل. وبطبيعة الحال، أعادوا النص إلى ما كتبه كوبرنيكُس نفسه، وما فشلوا في ملاحظته كان أن التغييرات في النص نفسه، إلى جانب عدد أكبر من التغييرات الأخرى، بعضها اقترح في صفحة أخطاء جاءت مصاحبة لنسخ الكتاب، وبعضها بقلم بيتريوس في دكانه، على أنها كانت تحسينات: وهي مسألة يسهل التحقق منها نسبياً في حالة عمل تقني. وكوبرنيكُس نفسه لا بد أن يكون قد أدخل كثيراً من هذه التعديلات في نص وسيط قصد منه أن يكون نسخة الطباعة، ولم يعثر عليه. ونسخ أخرى نتجت عن التصحيح، كما يفترض أن يكون واضحاً الآن.
وأحدث أوزياندر تغييراً واحد خطيراً بصفة خاصة، تغييراً اكتسب شهرة سيئة منذ فترة طويلة، إذ اعتقد كوبرنيكس أنه اكتشف الحقيقة بشأن الكون، وقدم عمله على أنه تفسير للعالم الحقيقي، وتلك الدعوى جعلت كتابه تحدياً خطيراً لبنية الفلسفة الطبيعية بأكملها، وكذلك لعلم الفلك. وأضاف أوزياندر، على ذلك الأساس، مقدمة للعمل غير مذيلة بتوقيع وجهت إلى القارئ. وهنا خفف من تطرف الكتاب بادعاء أن كوبرنيكس كان قد قدم نظريته ليس على أنها الحقيقة، وإنما على أنها مجرد فرضية قصد بها تحريك النقاش. ومنذ 1543 حتى الآن، أغضبت مناورة أوزياندر المعجبين بكوبرنيكس. فريتيكوس هدد بمهاجمته، ورفع عليه وعلى بيتريوس دعوى في المحكمة، لكنها لم تنجح. وعند نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، اكتشف يوهان كيبلر وفيليبرورد سنيل وآخرون كيف أضيفت المقدمة، إذ تشير ملاحظات على نسخهم إلى استيائهم من ذلك، وقد كانوا محقين في محاججتهم بأن ما صنعه أوزياندر كان متعارضاً مع مقاصد كوبرنيكس.
غير أن قرار أوزياندر أدى أيضاً إلى إبقاء كتاب كوبرنيكس متداولاً. فـ«دورات الأجرام» بدأ يثير نقداً حاداً بمجرد ظهوره، وحاول بعض الرقابيين أن يمنعوا ظهوره، أو على الأقل أن يبطئوا تداوله، لكنه لم يتحول إلى هدف لحملة جادة تريد كبته، ما عدا في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حد ما. ولم ينتشر الكتاب فحسب، كما بين أوين غنغرتش بتفحصه البسيط ولكن الملائم جداً للعشرات من النسخ، وإنما اجتذب قراءً ملأوا الهوامش بالتعليقات، وجعلوا كتاب كوبرنيكس نصاً أساسياً. وبناء عليه، لم تأتِ نهاية القرن السادس عشر إلا وعفريت كوبرنيكس خارج الصندوق، فلم يعد من المتصور أن يؤدي أي كبت -حتى هجوم غاليليو- إلى إعادته.
وإذا نُظر إلى ما فعله أوزياندر مستقلاً، فإنه سيبدو غير مقبول إطلاقاً، حتى في سياق مناهج التصحيح في عصر النهضة، يظل إشكالياً -عمل رجل صغير يفرض حذره على عمل رجل أعظم منه، ولكنه يبدو أيضاً محاولة عاقلة ذكية لممارسة دور المصحح، عملاً له كثير مما يقابله في عالم التحصيل العلمي إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. المصححون أشخاص في مشهد يتوارى الآن: عالم كان فيه المؤلفون يتوقعون ممن يطبعون كتبهم -أو من نساخهم- أن يحسنوا العمل الذي وضع بين أيديهم. وفي هذا العالم، رأى كثير من الكتاب عملهم تعاونياً، لا فردياً. وعلى مدى قرون، كان المصححون يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء. كانوا الأسلاف البعيدين ليس للفيلولوجيين المحدثين فحسب، وإنما أيضاً للمحرر المعاصر الذي فعل الكثير ليصوغ أعمال كتاب مهمين. خيوط استمرار قوية كثيرة تتحرك عبر التاريخ الألفي للتأليف والتحرير. ونتائج هذه الحقائق في تاريخ البحث -تاريخ التحرير العلمي- ما تزال بانتظار أن تدرس. ولكن ثمة مسألة واضحة؛ في كل مرة يغضب فيها مؤلفون من نساخ، من أساتذة، من محررين أو وسطاء -وفي كل مرة يحتجّ فيها محررون بأن المؤلفين لا يقدرون عملهم- فإنهم يعيدون تمثيل مشهد متجذر عميقاً في التراث الكلاسيكي.
- اقتباس في دورية لافام (لافام كوارترلي) من كتاب «أصابع ملطخة بالحبر: صناعة الكتب في فترة مبكرة من أوروبا الحديثة» (2020)، لمؤلفه: أنتوني غرافتُن.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!