المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

على مدى قرون كانوا يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة
TT

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

أشباح يحومون حول تاريخ النشر والبحث في الإنسانيات في فجر الحداثة الأوروبية: أشباح نحيلون شعث؛ إنهم المصححون، كما يسمون عادة، الذين كانوا يهيئون المخطوطات للطباعة، ويراجعون النسخ، وغالباً ما كانوا يضيفون مادة أصلية من عندهم. كانوا في كل مكان من عالم الطباعة، والإنسانويون الأوائل في العصر الحديث -وبينهم أسماء مألوفة اليوم- إما أثنوا على عملهم أو قللوا من شأنه.
ما الذي فعله إذن المصححون والقراء؟ دفاتر الحسابات لبعض المؤسسات الكبيرة ما تزال موجودة، وفيها دلائل مباشرة. فدفتر مؤسسات فوربن وإيبيسكوبولوس، مثلاً، يحتفظ بسجل لأجور الموظفين بين عامي 1557 و1564؛ كل قائمة من الموظفين تبدأ بمصحح أو ناقد متشدد: دليل واضح أن هؤلاء الموظفين العلماء الذين تظهر أسماؤهم قبل أسماء المنضدين وعمال الطباعة، قد حظوا بمكانة خاصة أعلى من مكانة أولئك الذين عملوا بأيديهم. وكل قائمة تتضمن أيضاً قارئاً يدفع له نصف ما يدفع للمصحح أو أقل من ذلك. وأحياناً تشير الوثيقة إلى أن مصححاً أو قارئاً بعينه كان يتسلم مبلغاً لقاء أعمال أخرى أيضاً. وفي مارس (آذار) 1563، دُفع لبارثولوميوس فارولي لقاء تصحيح نسخة من النص القانوني، كتاب غيوم ديوراند «مرآة القانون»، ولإنجازه فهرساً للعمل.
وقد قام المصححون بأشياء أخرى كثيرة أيضاً، فصححوا نسخة المؤلف والبروفات، وحددوا وصححوا الأخطاء الطباعية، وغيرها من الأخطاء، بأعلى ما لديهم من خبرات، ووزعوا النصوص إلى أقسام، ووفروا ما يعين القراء: صفحات عناوين، ومحتويات، وعناوين فصول، وفهارس. وبعض المصححين ألفوا نصوصاً ونصوصاً مصاحبة، توفر ما يمكن أن يشار إليه اليوم بمزودي المحتوى.
وأحياناً، كان المصححون يمارسون دور الوسطاء الخبيرين بين المؤلف والناشر. وقد بدا أن المصحح يمثل نوعاً اجتماعياً جديداً: ظاهرة دخلت عالم الطباعة، إلى جانب كونه ابناً مولوداً محلياً لمدينة الكتب الجديدة التي صنعتها الطباعة. ويبدو واضحاً أن الفن الجديد أوجد مهاماً جديدة. فقد واجه الطابع منافسين كثيرين في السوق، وكان عليه -أو عليها- أن يبين أن منتجاً محدداً كان متفوقاً على منتج المنافسين. وإحدى الطرق لفعل ذلك -كما قرر أصحاب المطابع ذلك بسرعة- كانت بالتركيز في «الكولوفون» (الإشارة في نهاية المخطوطة إلى اسم الناسخ، وزمان النسخ ومكانه)، أو فيما بعد، على صفحة الغلاف، أن علماء قد صححوا النص. وفي إيطاليا وألمانيا على حد سواء، وعدت الكتب المطبوعة في القرن الخامس عشر قراءها ليس فقط بنصوص، وإنما بنصوص «مصححة بإتقان»؛ أي أنها «صححت وروجعت بانتباه»، أو «روجعت بأقصى درجات الإتقان والدقة» من قبل دارسين معينين. وتوظيف شخص يصحح نصاً -أو الادعاء بفعل ذلك، كما فعل كثير من أصحاب المطابع مع أنهم لم يقوموا بذلك- مثّلَ طريقة عقلانية مؤثرة في الحصول على نصيب أكبر من السوق.
ومن أكثر الحقائق غرابة فيما يتعلق بالمصححين هي تلك التي كانت -وما تزال- مؤسفة: رغم كل الفائدة فيما عملوا، وجد المصححون أنفسهم عرضة للغضب والشفقة والسخرية أكثر منه لعدم العرفان بالجميل، حين وصف فيجيليوس زويكيموس، عام 1534، مطبعة هيرونيموس فوربنس، وذكر المصحح الرئيسي هناك، سيغيزموند غيلينيوس، ليتحدث فقط عن مدى الأسى الذي شعر به حين رآه موظفاً يقوم بتلك المهمة. وكان غيلينيوس، كما ذكر فيجيليوس «عالماً استثنائياً جديراً بأشياء أفضل بكثير»، وقد وافقه على ذلك الجميع تقريباً. وجيريماياه هونشوخ، المصحح المعتز بنفسه مؤلف كتاب مدرسي عن حرفة التصحيح، اعترف أنه هو نفسه دخل في المهنة ليتفادى مهنة أسوأ هي التعليم، وأن معظم زملائه، لو استطاعوا «سينطلقون كالرصاصة من الورشة ليكسبوا عيشهم بذكائهم وعلمهم لا بيديهم».
وكان لدى المصححين كل الأسباب التي تجعلهم يشعرون بأنهم لا يستفاد منهم على الوجه الصحيح؛ كان ما يدفع لهم قليلاً، أقل مما يدفع لأفضل المنضدين وعمال المطبعة.
«الكونكورديا»، وهي وثيقة أرشيفية تسجل اتفاق المصححين عام 1664 على عقد احتفال سنوي، تسجل أيضاً الهمسات، إن لم يكن الصرخات، التي كانت تمر بين المصححين حين يلتقون لتبادل القيل والقال: «أنا، فيليب جاك. نوينز غالباً ما سمعت من الآخرين، وسمع المبجل دي كلين من ماستر فاندرفيدين، وسمع هيرونيموس دي برافيو من فاندرفيدين أيضاً، أن المصححين اعتادوا أن يتلقوا زيادة في المرتب بعد مرور عامين على وجودهم هنا. نوينز وأيضاً ديكلين المشار إليه سمع هذا كثيراً». المصحح العليم، بتعبير آخر، عانى مما بدا أحياناً أنه القدر الجوهري للإنسانويين: تعليمه الكلاسيكي منحه الذائقة المرهفة، ولكنه لم يؤهله لأكثر من أن يكون فقيراً يشقى بالثقافة، لا مرتبُه أفضل ولا هو أكثر أماناً في وظيفته من العاملين ذوي الأيدي الملطخة بالحبر الذين يكدحون إلى جانبه.
والأكثر إزعاجاً من ذلك، على الأرجح، حقيقة أن المكانة الثقافية والاجتماعية للمصحح كانت مهزوزة بقدر ما كان وضعه المالي. فكثير من المصححين كانوا رجالاً متعلمين افتقروا إلى الوسائل والصحة والمزاج الذي يساعدهم على التقدم في مهنتهم، ولكن بعضهم كانوا حرفيين. فالمصحح تيودور بولمان عمل -كما يبدو- فيما أحب أن يدعوه «دكان الدراسة والدعك مجتمعين» (ميوزغنافيوم) الذي كان يوقع فيه مقدماته، بينما يودع قراءه «وداعاً، إذن، أيها الدعاك»، وكتب المؤرخ الإيطالي جوزيف سكاليجير، في هامش نسخته التأمل في ممارسات التصحيح، أنه -مثل قراءة كل رسائل باحث كبير- يمكن أن ينتج حكاية جديدة. وعام 1543، أخرج الطابع النورمبرغي الماكر يوهان بيتريوس كتاب كوبرنيكُس «حول دورات الأجرام السماوية». ولم يكن بمقدور المؤلف الذي كان بعيداً مريضاً أن يرى الكتاب في أثناء الطباعة. وبدلاً من ذلك، أعدت نسخة، وقرأت النسخ الطباعية على يد رجال خبيرين بالناشرين والطباعة: غورغ يواكيم ريتيكوس الذي مثل كثير من المصححين عمل بصفته ممثلاً لبيتريوس يتصيد المؤلفين والمخطوطات الجديدة، إلى جانب أندرياس أوسلاندر، لم يتركوا العمل كما هو. وبعد أن ظهرت مخطوطة كتاب كوبرنيكُس في القرن التاسع عشر، لاحظ الفيلولوجيون أن طبعة بيتريوس اختلفت عنها في مئات التفاصيل. وبطبيعة الحال، أعادوا النص إلى ما كتبه كوبرنيكُس نفسه، وما فشلوا في ملاحظته كان أن التغييرات في النص نفسه، إلى جانب عدد أكبر من التغييرات الأخرى، بعضها اقترح في صفحة أخطاء جاءت مصاحبة لنسخ الكتاب، وبعضها بقلم بيتريوس في دكانه، على أنها كانت تحسينات: وهي مسألة يسهل التحقق منها نسبياً في حالة عمل تقني. وكوبرنيكُس نفسه لا بد أن يكون قد أدخل كثيراً من هذه التعديلات في نص وسيط قصد منه أن يكون نسخة الطباعة، ولم يعثر عليه. ونسخ أخرى نتجت عن التصحيح، كما يفترض أن يكون واضحاً الآن.
وأحدث أوزياندر تغييراً واحد خطيراً بصفة خاصة، تغييراً اكتسب شهرة سيئة منذ فترة طويلة، إذ اعتقد كوبرنيكس أنه اكتشف الحقيقة بشأن الكون، وقدم عمله على أنه تفسير للعالم الحقيقي، وتلك الدعوى جعلت كتابه تحدياً خطيراً لبنية الفلسفة الطبيعية بأكملها، وكذلك لعلم الفلك. وأضاف أوزياندر، على ذلك الأساس، مقدمة للعمل غير مذيلة بتوقيع وجهت إلى القارئ. وهنا خفف من تطرف الكتاب بادعاء أن كوبرنيكس كان قد قدم نظريته ليس على أنها الحقيقة، وإنما على أنها مجرد فرضية قصد بها تحريك النقاش. ومنذ 1543 حتى الآن، أغضبت مناورة أوزياندر المعجبين بكوبرنيكس. فريتيكوس هدد بمهاجمته، ورفع عليه وعلى بيتريوس دعوى في المحكمة، لكنها لم تنجح. وعند نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، اكتشف يوهان كيبلر وفيليبرورد سنيل وآخرون كيف أضيفت المقدمة، إذ تشير ملاحظات على نسخهم إلى استيائهم من ذلك، وقد كانوا محقين في محاججتهم بأن ما صنعه أوزياندر كان متعارضاً مع مقاصد كوبرنيكس.
غير أن قرار أوزياندر أدى أيضاً إلى إبقاء كتاب كوبرنيكس متداولاً. فـ«دورات الأجرام» بدأ يثير نقداً حاداً بمجرد ظهوره، وحاول بعض الرقابيين أن يمنعوا ظهوره، أو على الأقل أن يبطئوا تداوله، لكنه لم يتحول إلى هدف لحملة جادة تريد كبته، ما عدا في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حد ما. ولم ينتشر الكتاب فحسب، كما بين أوين غنغرتش بتفحصه البسيط ولكن الملائم جداً للعشرات من النسخ، وإنما اجتذب قراءً ملأوا الهوامش بالتعليقات، وجعلوا كتاب كوبرنيكس نصاً أساسياً. وبناء عليه، لم تأتِ نهاية القرن السادس عشر إلا وعفريت كوبرنيكس خارج الصندوق، فلم يعد من المتصور أن يؤدي أي كبت -حتى هجوم غاليليو- إلى إعادته.
وإذا نُظر إلى ما فعله أوزياندر مستقلاً، فإنه سيبدو غير مقبول إطلاقاً، حتى في سياق مناهج التصحيح في عصر النهضة، يظل إشكالياً -عمل رجل صغير يفرض حذره على عمل رجل أعظم منه، ولكنه يبدو أيضاً محاولة عاقلة ذكية لممارسة دور المصحح، عملاً له كثير مما يقابله في عالم التحصيل العلمي إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. المصححون أشخاص في مشهد يتوارى الآن: عالم كان فيه المؤلفون يتوقعون ممن يطبعون كتبهم -أو من نساخهم- أن يحسنوا العمل الذي وضع بين أيديهم. وفي هذا العالم، رأى كثير من الكتاب عملهم تعاونياً، لا فردياً. وعلى مدى قرون، كان المصححون يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء. كانوا الأسلاف البعيدين ليس للفيلولوجيين المحدثين فحسب، وإنما أيضاً للمحرر المعاصر الذي فعل الكثير ليصوغ أعمال كتاب مهمين. خيوط استمرار قوية كثيرة تتحرك عبر التاريخ الألفي للتأليف والتحرير. ونتائج هذه الحقائق في تاريخ البحث -تاريخ التحرير العلمي- ما تزال بانتظار أن تدرس. ولكن ثمة مسألة واضحة؛ في كل مرة يغضب فيها مؤلفون من نساخ، من أساتذة، من محررين أو وسطاء -وفي كل مرة يحتجّ فيها محررون بأن المؤلفين لا يقدرون عملهم- فإنهم يعيدون تمثيل مشهد متجذر عميقاً في التراث الكلاسيكي.
- اقتباس في دورية لافام (لافام كوارترلي) من كتاب «أصابع ملطخة بالحبر: صناعة الكتب في فترة مبكرة من أوروبا الحديثة» (2020)، لمؤلفه: أنتوني غرافتُن.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.