موسم فواكه الصيف في غزة... عاداتٌ تراثية وأرض معطاء

مزارع يقطف العنب من أحد الكروم في جنوب غزة (الشرق الأوسط)  -  مزارع يحمل الشمام في أرضٍ بجنوب قطاع غزة (الشرق الأوسط)
مزارع يقطف العنب من أحد الكروم في جنوب غزة (الشرق الأوسط) - مزارع يحمل الشمام في أرضٍ بجنوب قطاع غزة (الشرق الأوسط)
TT

موسم فواكه الصيف في غزة... عاداتٌ تراثية وأرض معطاء

مزارع يقطف العنب من أحد الكروم في جنوب غزة (الشرق الأوسط)  -  مزارع يحمل الشمام في أرضٍ بجنوب قطاع غزة (الشرق الأوسط)
مزارع يقطف العنب من أحد الكروم في جنوب غزة (الشرق الأوسط) - مزارع يحمل الشمام في أرضٍ بجنوب قطاع غزة (الشرق الأوسط)

في أحد أيام الصيف الحارة، تتجول السيدة سميرة المدهون (43 عاماً) في شوارع سوق مخيم جباليا شمال قطاع غزة. يلفت نظرها أصناف متنوعة من الفواكه الموسمية التي تتزين بها بسطات الباعة المنتشرين في أنحاء السوق.
بين الحين والآخر تشدها الأصوات المنادية على كلّ صنف بصفته خاصّة، فذاك يعلو صوته قائلاً: «حلواني يا عنب»، وآخر يقول «مشمش وخوخ زينة العرسان»، ومن بعيد ينادي أحدهم من خلف بسطته «التفاح اللهواني، على السكين يا بطيخ، وأرضك رمل يا شمام».
في ثوانٍ معدودة، تعود الأربعينية بالذاكرة لمشهد أبيها المُسن، الذي كان يحرص على جلب الفواكه الصيفية للمنزل يومياً، تبتسم بينما وصلت لبسطة تبيع البطيخ، وهناك تفتح حديثاً مع البائع، تطلب منه خلاله اختيار حبة جيدة، لأنّها ترغب في تناولها برفقة أسرتها خلال جلسة السمر الليلية، حملت ما أرادت ومضت.
وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «كفلسطينيين نتعامل مع كلّ الثمر الذي تنتجه الأرض بخصوصية عالية، وقيمته المعنوية لدينا لا مثيل لها، ذلك لأنّ التفاصيل المرتبطة به تضرب بعمق التاريخ والتراث، الذي سمعنا قصصه من كبار السن».
ويتميز قطاع غزة، بقدرة أرضه التاريخية على إنتاج أصناف متنوعة من الفاكهة الصيفية، التي يعتبر أبرزها التفاح «اللهواني» الذي تشتهر به بلدة بيت لاهيا الواقعة شمال القطاع، حيث ينتظر المواطنون موسمه من العام للآخر بكلّ لهفة، وذلك لما يحمله من مذاق رائع، ولارتباطه تاريخياً بثرات البلدة التي تمتاز بالتربة الرملية والمياه العذبة.
وتشير بعض الروايات إلى أنّ زراعة ذلك النوع من «التفاح»، تعود لمئات السنين، إذ لم تتأثر الظروف السياسية التي عاشتها فلسطين، رغم وجود عدد من الظروف السياسية والديموغرافية، التي ساهمت في تقليص مساحات الأراضي المزروعة.
ويحكي المزارع رائد أبو حليمة، وهو من بين مُلاك الأراضي ببيت لاهيا، أنّ موسم التفاح «اللهواني» له طقوس خاصة، ينتظرها الناس من العام للآخر، حيث يشارك في القطف كثير من المواطنين، إضافة لأنهم يحرصون على التقاط صور تذكارية في حقوله الزاهية، التي تتوزع فيها الألوان الطبيعية.
ويسرد أن السنوات الماضية، كانت تشهد تصديراً لكميات كبيرة من التفاح للخارج، لكنّهم اليوم وبسبب ظروف الحصار، وتقلص كميات الإنتاج، صاروا غير قادرين على إيفاء متطلبات السوق المحلية.
وللبطيخ في غزة، حكاياتٌ أخرى، فهو من مسلمات الصيف اليومية لدى غالبية السكان الذين يحرصون على شرائه بكمياتٍ كبيرة من الأسواق، وذلك لما له من طعمٍ لذيذ، ولمساهمته في تخفيف وطأة الحر والعطش، التي تسيطر عليهم بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وتروي السيدة أم لؤي البلبيسي قائلة: «تربّينا على حب فاكهة البطيخ منذ الصغر، حين كان آباؤنا يشترونها بكمياتٍ كبيرة، وتُحفظ في أماكن جيدة التهوية، لتكون باردة وجاهزة للأكل في أي وقت»، مشيرة إلى أنّ البطيخ يُنعش الجسم، وتشعر أنّه مرتبط كثيراً بالبيت الفلسطيني، وهناك اتفاق على حبه من الجميع.
أمّا المزارع منذر أحمد، الذي يمتلك مزارع واسعة في منطقة جنوب قطاع غزة، ويزرعها بصنفي البطيخ والشمام خلال فترة الصيف، يبين أنه ورث حب تلك الزراعة عن أبيه وجده، وطوال سنوات حياته لم يزرع سواهما ضمن فصل الصيف، لأنه يشعر أن ذلك أضحى بمثابة الواجب عليه.
ويلفت إلى أنه سمع كثيراً من القصص على لسان أبيه، الذي كان يزرع البطيخ والشمام برفقة عائلته قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1948. حين أخبره أن الموسم كان يجمع كل أفراد الأسرة، للمشاركة في الحصاد، وكانوا يخرجون لبيعه في المدن، وأحياناً تُصدر كميات منه لخارج فلسطين، واصفاً أرض بلاده بـ«المعطاءة».
ومن فواكه الصيف المميزة غزياً، العنب والتين، اللذان يزرعان في مناطق واسعة، وتقطف ثمارها خلال أيام الفصل كاملة، إذ يبدأ المزارعون بقطف العنب اللابذري والتين «الموازي»، وينتهون بقطف عنب «الشيخ عجلين» والتين «البحري».
ويبين المزارع رائد زعرب، الذي يزرع الصنفين في جنوب القطاع، أن الارتباط بين الفلسطينيين والعنب والتين قديم، فقد سمع على لسان بعض المؤرخين، أن أصل الزراعة يعود للحضارة الكنعانية، موضحاً أن طقوس قطف وتناول تلك الفاكهة خاصة جداً، وغالباً تنحصر في أوقات الصباح، التي تسبق اشتداد حر الشمس. ولا يقف الإنتاج المحلي في غزة عند هذا الحد، فوزارة الزراعة أكدت خلال بداية موسم الصيف، على أن القطاع خلال هذا العام حقق اكتفاءً ذاتياً في عدد من أصناف الفواكه، وكان أبرزها الخوخ بأنواعه المختلفة، حيث من المتوقع أن يصل الإنتاج لأكثر من ألفي طن.
ونوهت الوزارة أيضاً بأن ثمار اللوزيات بشكلٍ عام ستنتج خلال الموسم أكثر من 3 آلاف طن، ويُضاف لذلك أن المزارعين في غزة، يعملون على زراعة أصناف أخرى من فاكهة الصيف، كالمانغا وأكواز الذرة، التي تشكل مصدر رزقٍ للكثير من الباعة وأصحاب الاستراحات، حيث يتناولها المواطنون بكثرة على شاطئ البحر، وفي المتنزهات العامة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)