السينما السعودية... كخطاب تبليغ جمالي

التحدي الأكبر الذي يواجهها وجود نصوص ذات قيمة موضوعية عالية

مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
TT

السينما السعودية... كخطاب تبليغ جمالي

مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور

السينمائيون ليسوا مجرد صُناع أشرطة صوت - بصرية. إنهم صُناع التوتر الخلاق؛ الذين يجعلوننا نحن المشاهدين نحزن ونفرح ونعيد التفكير في مسلماتنا إزاء الوجود، والذين يوجهون عدساتهم إلى زوايا نتغافل عنها ليبلوروا رؤية متعددة الأبعاد ترقى إلى مستوى سرد المرويات الإنسانية. وهذه المهمة الكبرى بقدر ما تستلزم خبرات ممثلين على درجة من الاحترافية، وأدوات تقنية فائقة الحداثة، تستوجب في المقام الأول وجود نصوص ذات قيمة موضوعية عالية؛ إذ لا يمكن النهوض بفيلم جدير بالمشاهدة من دون نص مقنع.
وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه صناعة السينما السعودية في خطواتها التأسيسية بعد تذليل عقبات التمويل وصالات العرض ومعضلة المحرمات الاجتماعية.
الجمهور هو المعني الأول بتقييم الأفلام وليس المهرجانات التي توزع الجوائز لاعتبارات ليست كلها فنية، وبالتالي يتوجب على صُناع الأفلام في السعودية أن تكون مادتهم السينمائية في متناول الجمهور بالمعنى الإبداعي للكلمة؛ سواء على مستوى الموضوع، وعلى مستوى الأداء الفني. ولذلك أُرجح أن تكون هذه الصناعة في خطواتها الأولى أكثر قرباً من الواقعية الاجتماعية، وأقل احتكاكاً بالأفلام بالسينما التجريبية أو المغامرة بالتصدي للسينما الشعرية، أو التجرؤ على إنتاج أفلام بجرعات فلسفية عالية، ليس من أجل الاستجابة الاستسلامية لإرادة وذائقة الجمهور، ولكن لأن تلك الأنماط الطليعية تحتاج إلى خبرات فنية متقدمة وإلى محيط استقبال لا يمكن أن يتحقق إلا مع دورات من التراكم الفني والموضوعي عند متلقيها ومنتجيها أيضاً.
الواقعية الاجتماعية لا تعني النسخ الآلي للقضايا الاجتماعية، كما شاهدناها في معظم المحاولات الارتجالية التي أرادت أن يكون الفيلم السعودي مجرد صندوق اقتراع للتصويت على حق المرأة في العمل، أو إبداء التعاطف مع ذوي الإعاقة، أو محاكمة لحظة الصحوة... وغيرها من القضايا، بل تدفع إلى التفكير السينمائي فيما وراء تلك الوقائع، وذلك من خلال نصوص درامية تتجاوز مهمة الوصف إلى فاعلية التحليل، لئلا تصل الأفلام السعودية إلى المأزق الذي عانت منه الدراما والرواية السعودية، من خلال رهان كُتابها على استجلاب الموضوعات الوعرة، أو ذات الحساسية الاجتماعية بمعنى أدق، ثم تعويلهم على كثافة الإنتاج وإهمال القيمة النوعية. وهو أمر يخالف أهم قواعد الفن من حيث أنه حالة كيفية لا موضوعية.
لا يُفترض أن تبدأ السينما السعودية من الصفر بعد ذلك الشوط الذي قطعته. وبالمقابل يتحتم على صُناع الأفلام التخلي عن السرديات البصرية ذات الأبنية التقليدية إلى وساعات تعبيرية أرحب، للتأكيد على أن الفيلم ليس مجرد مقالة شخصية لمؤلف ومخرج الفيلم. بمعنى توسيع هامش الخطاب الدرامي للجم فجاجة الأفكار المبددة بشكل مباشر في سياقات الأفلام. وهو أمر يمكن تفاديه بسهولة، من خلال الاتكاء على نصوص قصصية وروائية قابلة للتسريد الدرامي، نصوص متخففة من الشحنات التوجيهية والنبرات الوعظية، وفي الوقت ذاته محقونة بالعبارات الوصفية القابلة للتنضيد في سياق بصري دلالي.
- الزمن والذاكرة
محل التحدي كما أتصوره اليوم بالنسبة للسينمائيين في السعودية يراوح بين الزمن والذاكرة، فهناك فرصة تعبيرية قصوى لعرض مختزنات المكان بإيقاع استرجاعي، والحديث هنا ليس عن إلزام صُناع السينما باعتماد نظريات إرشادية، ولكنها دعوة للاستئناس بما تمليه الواقعية، وتغليب الحرفية على نزوات تجاوز الواقع، بحثاً عن صيغة لا تحد من العبقرية الفردية للعاملين في الحقل السينمائي، وفي الوقت ذاته لا تعطي ظهرها للمنهج وضروراته. فالسينما بالدرجة الأولى لغة محمولة على جماليات، تحتم في المقام الأول المواءمة بين الإنتاج الاحترافي وإمكانية استقبالها جماهيرياً. بمعنى أن السينما السعودية وهي تحفر في الذاكرة وتعرض لوحة الزمن الآني، بقدر ما تحتاج إلى تفعيل جمالياتها الداخلية، تحتاج إلى قراءة ارتداداتها الاجتماعية خارج صيرورة الفيلم.
السينما السعودية وهي تنشط بوصفها خطاب تبليغ جمالياً إلى جانب عدد من الخطابات الثقافية، لا يلزمها توليد نظرية خاصة بها، فهي معنية ككل الاشتغالات والنظريات السينمائية بالمادة الخام للحياة بوصفها موضوعات، وبكفاءة المنهج الأدائي بما يحتويه من تقنيات، وكذلك بالشكل التعبيري المناسب لحضورها في لحظة التحول الكبرى هذه، وأيضاً بمفهوم القيمة أو الغرض المحرك لها. وهذه المتوالية هي جوهر أي عملية سينمائية. ولذلك يبدو الواقع هو البعد الأهم ليصبح الجمهور مشاركاً في لحظة توطين الممارسة السينمائية، بالنظر إلى أن الواقعية الاجتماعية هي اللغة المفهومة للمتلقي، ليس بمعنى تنميط الأداء السينمائي وفق إرادات جمعية كرؤية مكرسة، ولكن كأداءات فردية ببصمات شخصية.
- قصور الآليات
إن النسخ الآلي للواقع كما نلاحظه في عدد من الأفلام السعودية يقتل الأثر التعبيري للفيلم، وبالتالي يحد من جمالياته، وهو قصور فني يعكس تواضع آليات بناء تلك الأفلام، بحيث يبدو بعضها كأنه بمختزناته الوعظية التعليمية مجرد امتداد لما يقال على منابر المساجد. بالنظر إلى اعتمادها على التصريح بالفكرة أو قولها بلغة مباشرة بدل عرضها، خلافاً لما تقتضيه الممارسة السينمائية. وهذا هو الشكل الأبسط للواقعية بوصفها نظرية على درجة من المراوغة والاتساع، حيث الانجذاب إلى الشكل واستجماع عناصر الواقع المادي، مع عجز واضح عن التقاط روح المرئي وطيات المضمون. بمعنى المحاكاة السطحية للواقع، لا مناقضته بصيغ مضادة. فالقصة الحقيقية الموجودة أصلاً في الواقع ينبغي اكتشافها لا اختلاق قصة مدبرة موازية لها.
هذا ما يُفترض أن تؤديه الأفلام السعودية في هذه المرحلة، أي أن تكون وسيطاً بيننا نحن المتلقين وبين الواقع، أي الرهان على المعنى الضمني، والانتباه إلى الأثر النفسي الذي لا يقل أهمية عن الأثر الجمالي. وهذا يحتم بالضرورة وعي الفارق ما بين القوالب التعبيرية والشكلانية، بما تختزنه الأولى من طاقة رومانسية وما تراهن عليه الثانية بقوة وتفصيلية العناصر، وهي نظريات معروفة لخلق جدلية من خلال اللعب بالمونتاج وغيره من أركان الممارسة السينمائية، المتمثلة في سحرية اللقطات، التي يمكن عبرها توليد التوتر الخلاق، بحيث تمتزج المفاهيم المراد إيصالها مع البناء السينمائي. وهذا هو ما يمكن أن يحد من سطوة المواقف الذهنية في الأفلام السعودية ذات الطابع الاجتماعي. بمعنى مجابهة الواقع بمرشحات فنية لتضفي عليه بعض الغموض الجاذب.
كل ذلك يقود إلى مفهوم لغة السينما، أي التعبير بما وراء الصورة لا صراحة الصور، حيث تمكنت الأفلام السعودية من التعامل مع معظم المسائل التقنية المتعلقة بإنتاج شريط بصري مؤانس، تتبدى فيه قدرات المصورين والمخرجين على ترتيب الصور في متوالية سردية، إلا إنها ما زالت، في إطار الواقعية الاجتماعية، بعيدة عن تقنيات المونتاج الجدلي؛ إذ يظهر صوت المؤلف أو المخرج بقوة أكبر مما تؤديه الصورة، وهو الأمر الذي يُبقي على الأفلام في محل الواقعية المادية التي تغترف من الواقع بشكل مباشر، ولا يدفع بها نحو واقعية ذات مغزى ثقافي مزدحم بالشفرات. وهكذا تظهر معظم تلك الأفلام كأنها تمثل الواقع ولا تستكشفه، وبذلك يغيب ذلك التوتر الخلاق الذي يشكل جوهر الفعل السينمائي.
- ناقد سعودي


مقالات ذات صلة

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق وصيفات العروس يبتهجن في حفل زفافها بالفيلم (القاهرة السينمائي)

«دخل الربيع يضحك»... 4 قصص ممتلئة بالحزن لبطلات مغمورات

أثار فيلم «دخل الربيع يضحك» الذي يُمثل مصر في المسابقة الدولية بمهرجان «القاهرة السينمائي» في دورته الـ45 ردوداً واسعة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من مهرجان «القاهرة السينمائي» (رويترز)

أفلام فلسطينية ولبنانية عن الأحداث وخارجها

حسناً فعل «مهرجان القاهرة» بإلقاء الضوء على الموضوع الفلسطيني في هذه الدورة وعلى خلفية ما يدور.

محمد رُضا (القاهرة)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».