الأدب الروسي... من «العصر الفضي» إلى «البيروسترويكا»

مكارم الغمري ترصد تحولاته

الأدب الروسي... من «العصر الفضي» إلى «البيروسترويكا»
TT

الأدب الروسي... من «العصر الفضي» إلى «البيروسترويكا»

الأدب الروسي... من «العصر الفضي» إلى «البيروسترويكا»

ربما يكون الأدب الروسي واحداً من أكثر الآداب العالمية التي حظيت بشعبية عالمية مدهشة. ورغم التطورات التي شهدتها الألفية الثالثة، فإن الكلاسيكيات الروسية في الرواية والشعر والمسرح والقصة والموسيقى لا تزال تتلقفها الأجيال الجديدة في عصر الديجيتال والسوشيال ميديا، فما سر هذا الأدب؟ ولماذا يبدو الأكثر براعة في تصوير النفس الإنسانية بصراعاتها وتناقضاتها؟
في كتابها «الأدب الروسي - شاهد عصر» للدكتورة مكارم الغمري الصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، محاولة أولية لاستكشاف بعض أسرار وخصوصية هذا الأدب. الكتاب عبارة عن تجميع لعدد من الدراسات الأكاديمية التي أعدتها المؤلفة الحاصلة على وسام «بوشكين» من الرئيس فلاديمير بوتين تقديراً لدورها في هذا المجال، ما قد يفقد العمل بعضاً من «ترابطه العضوي»، إلا أنه يبقى يحتفظ بقيمة كبيرة نظراً للجهد الهائل الذي بذلته في التوثيق والتحليل.
- الثورة ومقص الرقيب
وتشير المؤلفة إلى أن الأدب الروسي شهد في مطلع القرن الماضي في الفترة التي اصطلح على تسميتها «العصر الفضي» تنوعاً في التيارات الأدبية وازدهاراً غير مسبوق في التيارات الشعرية الحداثية التي بدأ ظهورها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، غير أنه بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) دخل في مرحلة جديدة، تميزت بالرقابة المشددة على الكلمة الأدبية والحياة الثقافية بشكل عام، والذي تتعين الكتابة تبعاً لأطرها المحددة. وتذكر أنه لم يكن من قبيل الصدفة تغول سياسة التوجيه والرقابة على الأدباء، مؤكدة أن الأدب لعب دوراً تاريخياً مؤثراً في الواقع الاجتماعي في روسيا، وكان بمثابة قوة مناهضة للظلم الاجتماعي وليس مجرد فن للبديع. وحظي الأدباء بمكانة كبيرة ومؤثرة، إذ كثيراً ما يلجأ القراء إلى الأدب بحثاً عن الحقيقة.
ويوضح الكتاب أنه في مقابل ذلك كان هناك أدباء لم يرحلوا عن البلاد ولم يتكيفوا مع النظام البلشفي ولم ينصاعوا للمنهج المفروض، لذا اضطر بعض منهم إما إلى الصمت الإجباري أو النشر الذاتي أو التحايل للنشر في الخارج. ومع ذلك قدم الأدب خلال تلك الفترة أعمالاً مهمة، منها بعض أعمال مكسيم جوركي، والحاصل على جائزة نوبل ميخائيل شولوخوف، فضلاً عن بلاتونوف بولجاكوف، وزوشكينو.
وتورد المؤلفة في هذا السياق بيتاً شعرياً مأثوراً، وهو «سأظل عزيزاً على شعبي لأنني أيقظت بقيثارتي مشاعر طيبة ولأنني باركت الحرية في زمن قاسٍ»، للشاعر ألكسندر بوشكين الذي عاش مطارداً منفياً من السلطة القيصرية إلى أن زج به في مبارزة أودت بحياته 1837. وقد أصبح هذا البيت جزءاً من التقاليد الإنسانية للأدب الروسي، يجد فيه الأدباء اللاحقون العزاء مثل سولجينتسن أحد ضحايا الفترة السوفياتية الذي يقول: «لم تكن حياة الأدباء المهمومين بالحقيقة آمنة فالبعض كان يُلاحق بالوشايات والبعض الآخر بالمبارزة، ومنهم من كانت تُحطم حياته الأسرية ومن كان يُرسل إلى مصحة الأمراض العقلية أو السجن».
- من الفلاح إلى الأم
«الفن سلاح»، هكذا عبر لوناتشارسكي أحد كبار النقاد الروس عن الأهمية الكبرى التي توليها الثورة للفن بصفته إحدى الركائز المهمة في تدعيم المجتمع الجديد، «وإذا كانت الثورة تستطيع أن تعطي للفن روحاً، فإن الفن يستطيع أن يعطي الثورة لساناً».
في ضوء هذه المقولة، يرصد الكتاب منحنى الحلم الاشتراكي الذي حمل معه حلماً بتحرير إرادة الإنسان، وما نجم عنه من متناقضات شديدة، فلا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية واقعية في مجتمع تتسول فيه أغلبية الجماهير بينما تهنأ بالثروة حفنة من المتطفلين الأغنياء.
وترى المؤلفة أنه من هنا جاء الاهتمام المتزايد بموضوع الفلاح والأرض في إنتاج العديد من الأدباء. صحيح أن رموز الأدب الكلاسيكي الروسي تطرقوا إليه مثل جوجول، وتورجنيف، وتولستوي، وتشيخوف، إلا أن أدباء الحقبة السوفياتية أولوا الأمر مزيداً من العناية، لا سيما على صعيد التعاطف مع الظروف القاسية التي كان يعيش فيها هذا الفلاح. وتذكر أنه ربما يكون ميخائيل شولوخوف من أشهر الأدباء الروس في الفترة السوفياتية الذين أبدعوا في تصوير «القرية الجديدة» حتى أصبح العالم الفني له هو حقيقة عالم الفلاحين، وتأتي روايته «الأرض البكر» في إطار التغييرات الجديدة التي طرأت على القرية الروسية ومنح الفلاحين مزيداً من الحقوق مع انخفاض سقف الحرية.
وحول أول نموذج للواقعية الاشتراكية ترى المؤلفة أن رواية «الأم» لمكسيم غوركي، تعد أول نموذج لهذا النهج الأدبي، مؤكدة أن عالمها يجسد وقائع حقيقية حدثت بالفعل في الفولجا في أحد أعياد أول مايو (أيار)، عيد العمال، حيث تقدم الرواية عرضاً لجدل ثنائية التلقائية والوعي من خلال الشخصيات الرئيسية، خصوصاً شخصية الأم التي تجسد ملامح البطل الإيجابي في أبهى صوره، كما أضفت مجموعة من الصفات الخاصة التي يستخدمها غوركي في وصف الشخصيات طابعاً مثالياً عليها، جعلت من الرواية مرجعاً مركزياً لسلسلة من الروايات اللاحقة المشابهة.
- الحرب والشعر
وعن مشهد الشعر ومدى تأثره بهذه التحولات، خصوصاً مناخ الحرب، تركز الكاتبة على أشعار سيرغي يسنين، الذي يعد أحد أبرز شعراء روسيا ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث الأصالة العميقة والارتباط الشديد بالجذور الريفية وبالأرض.
وتوضح الغمري أن تيار الواقعية يعد أحد إنجازات الشعر الروسي فيما بعد الحرب العالمية الثانية، كما الحال عند تفاردوكسي، لا سيما في أشهر قصائده التي تحمل عنوان «الذاكرة المرعبة للحرب»، ويقول فيها:
«من أسفل النهر الناعس
من الأدغال فجأة في الهدوء
سيُسمع صوت الوقواق الحزين
على الربيع».
- رد الاعتبار
وترصد المؤلفة أهم المتغيرات في الساحة الأدبية الروسية التي حلت بعد البيروسترويكا ومحاولات الإصلاح والانفتاح الخجول الذي سبق انهيار الاتحاد السوفياتي، وترى أنه في ظل تلك المرحلة، تمت إعادة الاعتبار إلى أسماء «الكتاب المنشقين» ونشر أعمالهم التي كانت محظورة. ويعد ألكسندر سولجينتسن الحائز على نوبل في الآداب عام 1970 والذي عاد لوطنه بعد سنوات من الرحيل الإجباري عام 1974 أبرز الأمثلة في هذا السياق، حيث اتجهت دور النشر في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي إلى نشر مؤلفاته وأفردت كبرى المجلات الأدبية صفحاتها لإنتاجه. ويعبر سولجينتسن عن سعادته الغامرة، بهذا التحول قائلاً: «منذ اعتقالي وبعد ما يقرب من عامين من حياتي في السجن عرفت أن مؤلفاتي لن تكون ممنوعة من النشر فقط، بل إن سطراً واحداً قد يكلفني رصاصة في الرأس. أردت أن أكتب كي لا يُنسى كل هذا لكن أن تنشر أعمالي في حياتي، فهذا ما لم أجرؤ على أن أحلم به».
- تولستوى يعادي المرأة
وتختتم المؤلفة كتابها المهم هذا بدراسة حول تطور صورة المرأة لدى عدد من الكتاب الروس، وتشير إلى شخصية «تاتيانا» في الرواية الشعرية لبوشكين «يفجي أونيجن» التي تقدم نموذجاً للمرأة المحبة الوفية البسيطة العميقة في مشاعرها، وقد حاول بوشكين من خلالها أن يجسد المثل الشعبية في التضحية والإخلاص والزوجة الصالحة العفيفة. وكذلك تجسد «كاترينا» في دراما أوستروفسكي «العاصفة» صورة المرأة الشاعرية الحالمة النقية. أما ديستوفسكي فقد جسد عبر «سونيا» في رواية «الجريمة والعقاب» مشاعر الصمود والمعاناة، رغم السقوط الذي اضطرت له لإطعام إخوتها الجياع.
وكذلك صورة الأمومة الناصعة التي قدمها شولوخوف لـ«لفاسيليا إيلتشيا» والدة البطل الرئيسي في رواية «الدون الهادئ». وتفاجئنا المؤلفة بكشف النقاب عن موقف محافظ لرمز الأدب الروسي الأكبر ليف تولستوى قد يبدو معادياً لحقوق المرأة، إذ يقول إن «دور المرأة يجب أن يظل من خلال أولادها»، وهو ما تعكسه أحد مؤلفاته المبكرة «السعادة العائلية»، حيث أعطى صورة لزوجة شابة «ماشا» كانت تعيش حياة هادئة إلى حد الرتابة مع زوج يكبرها بأعوام كثيرة تعيش فقط من أجله كطفل لا يجرؤ على إظهار إرادته، تتمرد وتخرج للحياة والمجتمع غير أن ذلك يودي بأمن الأسرة وسكينتها.
وترى المؤلفة أن تولستوي حطم مساعي بطلته في الخروج من الشرنقة الضيقة التي تحيا بداخلها، حين يجعلها تخطئ، ومن ثم تقرر بعد ذلك العودة إلى بيتها طواعية لتعيش من جديد كما كان يريد زوجها، وكذلك في روايته الشهيرة «الحرب والسلام» لم يشأ أن يستمر نشاط بطلته «ناتاشا»، فبعد أن كان ببداية الرواية معجباً بحيويتها وروحها الإيجابية ويثني على نشاطها في المقاومة الشعبية إبان الحرب، نجده فجأة وبعد أن تزوجها لا يرى فيها سوى ربة البيت التقليدية!


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.