التجارة في التأثير!

التجارة في التأثير!
TT

التجارة في التأثير!

التجارة في التأثير!

قبل عامين، ابتكر أحد مطاعم مدينة ميلانو في إيطاليا طريقة جديدة لترويج أطباق السوشي التي يتخصص في إعدادها؛ إذ قرر أن يمنح أي شخص وجبة مجانية في حال استطاع أن يشارك صور المطعم أو أطباقه الشهيرة على حسابه بموقع «إنستغرام»، ويحصل على ألف «إعجاب» على الأقل.
تبدو تلك صفقة جيدة ومفهومة الأبعاد... «الترويج مقابل الغذاء»، ولذلك فقد حققت نجاحاً حظيَ برضا المطعم، كما راحت مطاعم أخرى تقلده، ضمن أسلوب تسويق متكامل... نشأ، واستكمل أدواته، وحقق الازدهار، عبر تلك الوسائط النافذة الجديدة التي تنمو باطّراد.
يعني ذلك أن امتلاكك عدداً أكبر من المتابعين، الذين يمكنك الحصول على تفاعلاتهم حين تشاركهم أي مادة عبر منصتك على «السوشيال ميديا»، يمكن أن يؤمّن لك الطعام الجيد، وليس هذا فقط، فقد عرفنا لاحقاً أنه يمكن أن يساعدك على جني ملايين الدولارات.
شهدت «السوشيال ميديا» في مصر جدلاً ساخناً خلال الأسبوع الفائت، إثر ممارسة حادة صدرت عن ناشط شاب معروف على وسائطها؛ بعدما بث مقطعاً على «إنستغرام» يعرض فيه مخزناً لأدوية ومطهرات وكمامات تُستخدم في مواجهة «كورونا»، ويطلب إلى متابعيه متابعة حسابات أشخاص معينين، بداعي أنهم أسهموا في جمع هذه الأدوية والمستلزمات.
أثارت تلك الممارسة استنكاراً شديداً على أكثر من صعيد؛ إذ شن نشطاء هجوماً على «السوشيال ميديا» ذاتها، مطورين «هاشتاغاً» يطالب بـ«محاسبة» هذا الشاب، بداعي أنه «يتاجر في المرض للحصول على متابعين»، كما أدانه برلمانيون ومسؤولون لكونه «انتهك قوانين الصيدلة وقواعد شراء الدواء وتخزينه»، خصوصاً أنه عرض ما قال إنه «عشرة آلاف علبة من دواء غير موجود في السوق إطلاقاً».
تلك ممارسة جديدة يمكن وصفها ببساطة بأنها إرساء لقاعدة «(فلورز) مقابل الدواء»، وهي ستضاف إلى فكرة مطعم ميلانو، لتُذكّرنا جميعاً ببرنامج الأمم المتحدة الشهير «النفط مقابل الغذاء والدواء»، الذي أقرته الأمم المتحدة، في عام 1995، لتسمح للعراق بتصدير جزء من نفطه مقابل الحصول على الاحتياجات الأساسية للسكان.
إنها «تجارة في التأثير» إذن؛ وهي تجارة تنمو وتزدهر عبر قطاعات واسعة من «المؤثرين الجدد»، الذين يمتلكون حسابات تحظى بأعداد معتبرة من المتابعين، وهؤلاء يتأثرون بشكل ملموس وواضح بكثير مما يرد عبر حسابات «المؤثرين» الذين يحظون بمتابعتهم.
يبث أحد المؤثرين «بوستاً» أو «ستوري» أو «تغريدة»، للترويج لمنتج أو علامة تجارية ما، فيحصل على مقابل يراوح ما بين مائة دولار أميركي و1.3 مليون دولار. يفيد تقرير أعدته «بزنس إنسايدر إنتلجنس»، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بعنوان «التسويق عبر المؤثرين»، بأن الماركات العالمية (Brands)، خصصت ثمانية مليارات دولار للإعلان عبر «المؤثرين» على وسائط التواصل الاجتماعي في عام 2019، وأن هذه المخصصات ستبلغ 15 مليار دولار بحلول عام 2022.
وبموازاة ذلك يزدهر أنموذج أعمال جديد تنشط فيه شركات عديدة، ويمكن تسميته «شراء المتابعين» (Buying Followers)، إذ توفر تلك الشركات متابعين لـ«المؤثرين» أو الراغبين في التأثير، وفق تعريفة سعرية محددة لكل ألف متابع، مستخدمة أنواعاً من التحايل التقني، لتلبية حاجة بعض المستخدمين الطموحين لبناء قواعد تعرض ونفوذ كبيرة.
طوّرت وسائل الإعلام «التقليدية» ميراثاً معتبراً في مجال الفصل بين الإعلان والإعلام، وحددت القوانينُ واللوائحُ ومدوناتُ السلوك ومواثيقُ الشرف عقوبات رادعة للحد من خلط بعض وسائل الإعلام والصحافيين بين هذين النشاطين المختلفين، والهدف واضح ومفهوم ونبيل: حماية الجمهور.
لكن تلك الوسائط الجديدة تخلق بيئة منافسة شرسة لا تعرف القدر اليسير اللازم من الضوابط، وبسبب ذلك الصراع المحتدم على مساحات التأثير وعوائده يرتكب «المؤثرون الجدد» مخالفات وجرائم سيصعب جداً رصدها وملاحقتها ولجم تداعياتها المكلفة.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.