هيغل وأدوات التغيير الفكري في عالمنا

نستطيع اليوم تطبيق جدليته لفهم واقعنا الفكري والمادي

هيغل
هيغل
TT

هيغل وأدوات التغيير الفكري في عالمنا

هيغل
هيغل

إذا ما تفكرنا في واقعنا أو مستقبلنا في ظل ظروفنا المحلية والدولية المعقدة فإن كلاً منا يجب أن تكون لديه وسيلة أو منهجية تنظّم فكره ورؤيته ليستطيع أن يتفاعل مع المتغيرات، وهو ما نفتقر إليه في كثير من الأحيان، وهو ما كان محط تركيز فلاسفة عظماء للوصول لأفضل منهجية ممكنة وعلى رأسهم أرسطو وديكارت واسبينوزا وغيرهم من العباقرة الذين أنجبتهم البشرية، ولكن التقدير أن الفيلسوف الألماني العظيم هيغل قد تفرد بصياغة منهجية فكرية شاملة نستطيع أن ننتقي منها ما قد يفيدنا لفك طلاسم الحاضر والقادم.
إنه أهم فيلسوف أنجبته الولايات الألمانية بعد إيمانويل كانط، وقد تدرج الرجل في الوظائف التعليمية حتى أصبح عميد كلية الفلسفة في جامعة برلين وقدم لنا العديد من الكتب والدراسات على رأسها «ظاهريات الفكر» في عام 1807، ولكنه كان بلا شك من أعقد الفلاسفة على الإطلاق، فأسلوبه وقلمه أسهما بشكل مباشر في تعقيد أفكاره التي كان يمكن أن تأتي إلينا بسلاسة أكثر، ولكن هذا لم يُضعف من قيمتها رغم مرور الزمن وبروز انتقادات لمناحٍ عدة من أطروحاته.
لقد وجّه «هيغل» اهتماماً خاصاً إلى صياغة منهجية للوصول للحقيقة والتي كانت منهجيتها أكثر تعقيداً من فلاسفة آخرين كالتجريبيين أو رواد عصر التنوير، فالاعتماد على الحواس والعقل وحدهما وقانون العلّية كأدوات للوصول للحقيقة ليس كافياً بالنسبة له، فهو يرى أن أي حقيقة لا بد أن تكون مجردة، ويقصد هنا المفهوم الكلي لها والمرتبط بالزمان والمكان وموقعها من الظواهر الأخرى والأهم موقعها من الباحث عنها، فالكل بالنسبة له هو المطلق، ومن ثم عدم واقعية الفصل أو الانفصال بين الشيء أو الظواهر، فالشيء ليس حقيقياً أو نهائياً إلا من خلال المفهوم الأشمل له، رافضاً ما قد يبدو مجرداً، فالظواهر والأشياء ليست على ما تبدو عليه لنا، وهنا يأخذنا هيغل في رحلة معرفية معقدة للغاية ومتنوعة ومترابطة لإقرار منهجية الوصول إلى الحقيقة بين ما تراه الحواس وأهمية الشك ومرحلة التقييم العقلي لها إلى مرحلة التفاعل بين الظواهر والأشياء الأخرى والعلاقة بينها وصولاً إلى مرحلة المعرفة بالذات أو ما يصفه بأنه اليقين الواعي بكونه الحقيقة.
وإلى هنا فهو فكر فسلفي اختلف أو اتفق معه آخرون، ولكن يظل أعظم مفاهيمه التي طوّرها بشكل منهجي متميز هو مفهوم «الجدلية»، أي اعتقاده بأن الشيء أو الظاهرة يمثل «الأطروحة Thesis» والتي تتبلور مع الوقت فتخلق التضاد بداخلها أو «Antithesis» ويحدث الصراع بينهما للتغيير فيكوّنا من خلاله ما وصفه بـ«التجميع Synthesis» بين الأطروحة ونقيضها، ومع الوقت والتفاعل يتحول التجميع إلى أطروحة وتستمر هذه الدائرة لتبرر لنا التطور ليس فقط على مستوى الظواهر ولكن التاريخ البشري وتقدمه، فالجدلية هنا هي محرك التاريخ التي تخلق التوازن المنتظر في مسيرتنا الإنسانية، وهي الحركة التي لا تعتمد على شكل طولي أو خطي مفهوم، ولكنّها معقّدة وغير ذات نمط محدد أو مسار واضح، فالأطروحة أو الفكرة بالنسبة له تحمل قدراً من الحقيقة وكذلك نقضيها وكذلك التجميع بينهما.
لقد اعتمد كارل ماركس على هذه المنهجية الهيغلية لمحاولة شرح مفاهيمه لا سيما ما يتعلق منها بالتطور الاقتصادي للبشرية من الرأسمالية البدائية مروراً بالإقطاع حتى الرأسمالية المطلقة، وبنى على هذه المنهجية رؤيته للتطور الطبيعي للبشرية نحو الاشتراكية ومرحلة الشيوعية فيما بعد، ولكن التطور الفكري والاجتماعي لهيغل كان أكثر تجرداً، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، فالرجل يرى أنه يمكن فهمه فقط من خلال التطور المرحلي استناداً إلى الجدلية خصوصاً في المجال الفكري، فكل مرحلة لها مميزاتها، أي أنها تحتوى على قدر ولو ضئيل من الحقيقة، ولذلك تحدث عملية التناقض ثم التجميع، وأن كل مرحلة تمثل «مخزوناً من الحكمة» ولكن ليس كل الحكمة بما يحركنا نحو التقدم، مؤكداً أن كل مرحلة إنسانية كانت تحتاج إلى حركة مؤسسية موازية تستطيع أن تجسد الفكر الجديد لها وهو ما انطبق على الثورة الفرنسية على سبيل المثال والتي أخذت النظام السياسي من الحكم المطلق إلى النقيض الكامل بما بات يحتاج إلى تفاعل ليخلق مفهوم الليبرالية بالشكل المقبول، وهذا يعد تجسيداً للجدلية وانطباقها على التطور، حتى إن هيغل ذاته ناصر نابليون بعد احتلاله بروسيا عقب هزيمتها في معركة «يينا» إيماناً منه بمبادئ الثورة الفرنسية والتي تمثل ظاهرة للتقدم الإنساني المنشود، ولكنه سرعان ما عاد أدراجه وغلبت عليه الوطنية الألمانية بعدما أدرك أن قوانين السياسة غالبة السمو الفكري في أغلب الأحيان.
لقد كانت هذه هي الجدلية الهيغلية التي نستطيع اليوم تطبيقها بشكلها المجرد أو حتى العملي لفهم واقعنا الفكري والمادي خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة التي نمر بها، فنحن اليوم صناعة ما قبلنا من فكر وثقافة وقاعدة لما سيأتي بعدنا. فأين موقع منهجية الجدلية في حياتنا؟ فنحن لا نحتاج لأن نكون فلاسفة لكي نستقي من فكر العظماء ونطبّقه لفهم حياتنا سواء الفردية أو الأسرية أو مجتمعاتنا حتى نقهر التوجهات غير الموضوعية السائدة لدى الكثيرين منا من خلال رؤية أكثر عقلانية وتنويرية.



صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج
TT

صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج

صدرت أخيراً رواية «سفرطاس»، للكاتب القطري د. خالد الجابر عن دار «النخبة» للنشر والطباعة والتوزيع في مصر، وهي تقع في 212 صفحة من القطع المتوسط. وتطرح الرواية أسئلة وجودية حول الهوية، والصراع الداخلي، والقدرة على التكيف مع المتغيرات التي تطرأ على المجتمعات.

يستعير الجابر من التراث الخليجي مصطلح «السفرطاس»، وهي تسميته شعبية دارجة منذ عشرات السنين، وتعني «وعاء الطعام متعدد الطبقات الذي يحمل فيه العمال قوت يومهم»، المصطلح هنا رمزي ومثير للاهتمام، يقول عنه الجابر في مقدمة روايته: «كالسَّفَرْطاس المُكدَّسِ بطبقاته المتنوِّعة، يحمل في أعماقه شَفرة الزمن المعقَّدة، تحيا ذاكرة الإنسان بكلِّ ما فيها من ذكريات ومخاوف ورغبات، خلال رحلة لا تنتهي عبر أبعاد الزمن الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ في خِضم هذا التنقل المستمرِّ يتشكَّل الصراع بين الداخل والخارج، ليَصوغَ هُويَّته المتغيرة والمتجددة بلا توقُّف».

تحولات كبرى

تمتد أحداث الرواية عبر مسار زمني طويل، يشمل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي على مدى قرن من الزمن؛ حيث يأخذ المؤلف القارئ في رحلة عميقة لاستكشاف العلاقة المعقدة بين الذات والآخر، وبين الهوية الفردية والتراث والحداثة. هذه الرواية ليست مجرد سرد لقصة حياة شخصية، بل هي دراسة عميقة لجدلية الهوية وما ينتج عن الصراعات النفسية والمجتمعية التي تواجه الفرد في العالم الحديث. عبر استخدامه الماهر للأسلوب الروائي، يتناول الجابر كيف أثرت التحولات البنيوية في التاريخ والجغرافيا على سلوك الإنسان، ويقدم رؤية نقدية لكيفية تداخل الهوية الفردية والجماعية مع الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط.

تستعرض الرواية التحولات الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي، بدءاً مما قبل اكتشاف النفط إلى حقبة ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى الزمن الراهن، مروراً بالنزاعات والحروب التي مزقت المنطقة. ويعكس المؤلف هذه التحولات عبر شخصية جابر، الذي يمثل جيلاً عاش تلك التغيرات وعانى من تأثيراتها العميقة. ومن خلال استرجاع جابر ذكرياته وتجارب حياته، ترسم الرواية صورة دقيقة لكيفية تأثير التغيرات الاقتصادية والسياسية على البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع.

في الرواية، يتم التركيز على بعض الأحداث المفصلية في تاريخ المنطقة، مثل نكسة 1967، التي تركت جرحاً عميقاً في الوجدان العربي، وحروب المنطقة المختلفة، مثل حرب 1973، والحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الكويت، واجتياح العراق، والحرب على الإرهاب ومرحلة ما بعد الربيع العربي، إلى الحديث حول المستقبل وموقع العرب فيه. هذه الأحداث لا تشكل فقط السياق السياسي للرواية، بل تؤثر بعمق على الشخصيات، وخاصة جابر، الذي يجد نفسه عالقاً بين الماضي والحاضر، بين ما كان يحلم به وما فرضته عليه الظروف.

الذات والآخر

من أبرز القضايا التي تتناولها الرواية جدلية الذات والآخر. بطل الرواية رجل مسن يعيش في دار رعاية، ويعاني من الوحدة والاغتراب، يشعر جابر بالعزلة الداخلية العميقة؛ نتيجة للتجارب الحياتية التي عاشها والذكريات التي يحملها. وتتشكل شخصيته من مجموعة من التناقضات؛ حيث يعيش في حالة من الصراع الدائم بين ماضيه وحاضره، بين آماله وخيباته، وبين ذاته والأشخاص من حوله.

وهذا الصراع الداخلي الذي يعيشه ينعكس في علاقاته مع الآخرين، وخاصة مع أصدقائه في دار الرعاية. كما أن كل شخصية في الرواية تحمل قصتها الخاصة، وتجسد تجربة مختلفة في الحياة. وعبر الحوار بين هذه الشخصيات، تتكشف أفكار مختلفة حول الهوية والانتماء والذاكرة، وكيف أن الماضي يشكل الحاضر ويؤثر عليه بطرق مختلفة.

إحدى القضايا الرئيسية التي يتم تناولها في هذه الحوارات هي قضية الاستعمار والنضال العربي. فجابر وأصدقاؤه يرون أن الاستعمار، رغم انتهائه بشكل رسمي، قد استمر بطرق أخرى، مثل الهيمنة الاقتصادية والثقافية التي فرضتها الشركات الأجنبية على ثروات البلاد. يعكس هذا الصراع الداخلي بين الفرد ومجتمعه الأوسع، الذي يعيش في ظل تبعية مستمرة رغم الاستقلال السياسي.

من هنا فإن بطلها، الذي يمثل جيلاً عاش تحولات كبيرة في منطقة الخليج والعالم العربي، عاش طفولته في قرية بسيطة على شاطئ الخليج تعتمد فيها الحياة على القليل من الموارد، مثل صيد الأسماك والعمل اليدوي. مع وفاة والده الذي كان يغوص في أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ، تتحول حياة الأسرة بشكل جذري، وتبدأ معاناة جابر وأسرته في مواجهة الفقر.

لكن حياة جابر تأخذ منعطفاً كبيراً عندما يبدأ العمل في شركة نفط أجنبية. العمل في الشركة يمثّل بالنسبة له الأمل في الهروب من الفقر، لكنه سرعان ما يدرك أنه جزء من نظام استغلالي يستفيد من ثروات بلاده دون أن يحقق العدالة الاجتماعية. الأجانب الذين يعملون في الشركة يعيشون حياة مرفّهة في مجتمعات مغلقة، بينما يعيش العمال العرب في فقر وتهميش. هذا التناقض بين ما كان يأمله وما وجده في الواقع يخلق صراعاً داخلياً يعاني منه طوال حياته.

وسبق للجابر أن كتب رواية بعنوان «راهب بيت قطرايا»، تتناول جدلية الدين والسياسة والإنسان في القرن السابع الميلادي، وهي الحقبة التي انتهت معها الحروب الرومانية الفارسية، وازدهرت فيها طوائف الديانة المسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية.