غازي وزني... حامل «كرة الدولار» اللبنانية

وزير المال في حكومة دياب يحتاج إلى رؤية «روما من فوق»

غازي وزني...  حامل «كرة الدولار» اللبنانية
TT

غازي وزني... حامل «كرة الدولار» اللبنانية

غازي وزني...  حامل «كرة الدولار» اللبنانية

لا يختلف اثنان على أن مقعد وزارة المال في الحكومة اللبنانية بات يشبه «كرة نار»، لا يجرؤ على التقاطها كثيرون، لأنها تمثل مركزاً قيادياً في سفينة تشارف على الغرق التام. وبالتالي فإن وزير المال سيكون (مع حاكم «مصرف لبنان») في «بوز المدفع»، كما يقول المثل اللبناني، أي أنه يقف أمام فوهة المدفع وسيكون أول من يصاب بطلقاته.
وعلى الرغم من إغراء لقب «صاحب المعالي»، فإن غازي وزني تردد كثيراً، قبل قبوله بهذا المنصب، أو على الأقل تأخر في اتخاذ قرار قبول حقيبة النار الوزارية، على عادته في التروّي كثيراً قبل اتخاذ القرارات الكبرى. إذ لم يعرف من قبل عن غازي وزني – وفق عارفيه – اتخاذه القرارات السريعة. بل العكس صحيح، إذ يقول عنه بعض معارفه إنه «أبعد ما يكون عن الانفعال، ولا يتخذ قراراً عن غضب أو عن تسرّع، فتراه يقلّب الأمور من جوانبها كافة قبل اتخاذ القرار». وهذا ما حصل مع منصب وزير المال الذي استغرق الكثير من وقت وزني لقبوله، على الرغم من أنه كان جاهَر المعنيين برغبته في تولي منصب نائب حاكم (مصرف لبنان)، قبل استفحال الأزمة المالية.

مع أن الوزير الدكتور غازي وزني، وزير المال اللبناني، تجنّب المواجهات الكبرى، مفضلاً عليها الحوار والنقاش وتدوير الزوايا، فإن هذا لا يعني أنه لا يمتلك قراراً واضحاً ورؤية واضحة. إنه رجل هادئ تتغلب واقعيته على مثاليته. وهو كان يدرك سلفاً أنه عندما يتخذ قرار المشاركة في الحكومة، فلن يكون صاحب قرار حرٍّ يضع أفكاره ويطبقها من دون حسيب أو رقيب، بل يعرف تماماً أن القوى السياسية التي سمّته لهذا المنصب تمتلك رؤية ستكون لها الأولوية.
لهذا رضخ وزني في موضوع التعيينات الإدارية التي أقرّتها الحكومة، كما تمهل في طرح موضوع «ترشيق» القطاع العام الذي كان وزني في طليعة مُنتقدي «ترهُّلِه». ولهذا السبب أيضاً لم يعارض قرار الحكومة ضخ الدولارات في السوق المحلية، على الرغم من اقتناعه بأن ما سيضخّه مصرف لبنان ضئيل، وغير كافٍ للحفاظ على سعر الليرة، وأنه كان الأجدى بأن يُصرَف في توفير المستلزمات الحيوية للبنان.
لكن الوزير وزني، في نهاية المطاف، قبل بأن تتم «التجربة»، التي يعتقد (كما ينقل بعض أصدقائه) أن مصيرها سيكون الفشل. وهو ممن يعتقدون أن أزمة لبنان المالية منبعها فقدان الثقة بالعملة الوطنية، ومعالجة هذا الواقع هو المدخل الصحيح، في ظل غياب القدرة على ضخ كتلة نقدية كبيرة تدافع عن الليرة اللبنانية.

خبير يلم بالتفاصيل

الخبير الاقتصادي الاقتصادي بهيج أبو غانم، يقول إنه عرف وزني «على مدى سنوات عدة خبيراً اقتصادياً ومالياً يواكب الأوضاع الاقتصادية والمالية بكل تفاصيلها، ويعكس آراءه ومواقفه الصريحة من خلال منابر الإعلام المرئي والمقروء والمسموع». ويضيف أن وزني تميز قبيل توليه الوزارة «بالتحليل الموضوعي الرصين. وكان باستمرار يضع الأصبع على الجرح، منتقداً بجرأة السياسة المالية والنقدية، ومنبهاً، باستمرار، من مخاطر استمرار عجز الموازنة وعجز مؤسسة (كهرباء لبنان)، ناهيك من محاذير التوسّع في حجم القطاع العام، ولا سيما معارضته الشديدة لقانون سلسلة الرتب والرواتب ولأنظمة التقاعد».
وإذ يشير أبو غانم إلى أن وزني «تسلّم مهمات وزارة المالية في الوقت الصعب، مدركاً سلفاً المفاصل الأساسية في وزارته»، فإنه يأخذ عليه أنه تنقصه كأول مرة يتولى فيها حقيبة وزارية، رؤية «روما من فوق». ويشرح: «قد تختلف الآراء حول أدائه في الوزارة لكنها تتفق على شفافيته ومناقبه، فضلاً عن احترامه الرأي الآخر. وهو على الدوام ودود ودمث ومتواضع».
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي نسيب غبريل إنّ وزير المالية لا يتحمل مسؤولية كل القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية للحكومة «فهناك قرارات تأخذها الحكومة مجتمعة، ولا يقرّرها الوزير وحده، ولا يمكن فصل آداء الوزارة عن آداء الحكومة بشكل عام».
ويرى غبريل أنه يجب الفصل بين القرارات التي اتخذتها وزارة المالية مباشرة، أو تلك التي صدرت عن الحكومة مجتمعة. واعتبر أنّ «ما قامت به وزارة المالية، على سبيل المثال، فيما يخصّ دعم الأشخاص والشركات عبر تعليق المهل كان جيداً إذا ما نظرنا إلى الإمكانيات المتاحة، مع العلم أنه كان يمكن الذهاب أبعد من ذلك وطرح سلاّت تحفيزية وإعفاءات ضريبية».
أما فيما خصّ القرارات الاقتصادية والمالية التي صدرت عن الحكومة فلا يتحمل مسؤوليتها وزير المالية (حسب غبريل)، مثل قرار التوقف عن سداد الديون المستحقة بالدولار الأميركي، أي سندات «اليوروبوندز»، والذي حصل بطريقة أثّرت سلباً على المصداقية والثقة بلبنان، في حين يعرف كلّ من يتابع وزير المال حرصه على تعزيز الثقة بلبنان، وميله لتشجيع القطاع الخاص، وجذب رؤوس الأموال من الخارج.
وفي هذا السياق، يوضح غبريل أنّ معظم الدول التي اتخذت قرار التوقف عن الدفع عملت على التفاوض والنقاش مع حاملي سندات «اليوروبوندز»، في الداخل والخارج، قبل أشهر من اتخاذ القرار، الأمر الذي لم تقم به الحكومة حتى اللحظة، ثم إن قرار التوقف عن الدفع كان يجب أن يتزامن مع التفاوض مع «صندوق النقد الدولي» على مشروع تمويلي، بينما بدأت الحكومة بمناقشة الصندوق بعد شهرين تقريباً... ولم نصل حتى اللحظة إلى مرحلة التفاوض.

عملي وواعٍ للتحديات

وفي حين يلفت غبريل إلى أن وزير المالية «واعٍ تماماً للتحديات وللأزمة الاقتصادية، وأنه شخص عملي ولديه خبرة واسعة يمكن التعويل عليها والاستفادة منها في الحكومة»، يشير إلى «تأثير غير مسبوق لبعض المستشارين في الحكومة الحالية لم نعهده في السابق». ويضيف أن أبرز مثال على ذلك كان برنامج الإنقاذ المالي الذي صدر عن الحكومة، والذي قرّر عبر عملية دفترية أنّ الدولة مفلسة، وكذلك «مصرف لبنان» (البنك المركزي) من دون حتى النقاش معه، وأنه يجب الاستجابة لشروط «صندوق النقد الدولي»، قبل أن يضع هذا الصندوق شروطه.
وانطلاقاً مما تقدّم، رأى غبريل أن الحكومة «همّشت المصارف وحمّلتها والمودعين العبء الأكبر، ولم تراعِ مصلحة الاقتصاد اللبناني، الذي يمر عبر تخفيض عجز الموازنة والاهتمام بالقطاع الخاص، وإصلاح القطاع العام وتفعيل الجباية وتحرير الاحتكارات». وفي هذا الإطار يذكّر غبريل بموقف وزير المالية الذي وصفه بـ«الجريء»، عندما خرج وقال إنه لا يجوز تهميش القطاع المصرفي، وكذلك بجهود لجنة المال والموازنة النيابية التي عملت على تقصي الأرقام وتصحيحها.
كذلك يشير غبريل إلى أن «الدول عادة هي التي تأخذ معها برنامجها الإصلاحي لـ(صندوق النقد الدولي)، وهذا ما يجب أن يحصل، فعلى الحكومة أن تذهب بأرقام ورؤية موحدة تقدّم مصلحة الاقتصاد اللبناني على كلّ شيء، حتى تسير قدماً في اقتصادها».

بطاقة شخصية

غازي وزني من مواليد بلدة بنت جبيل الحدودية في أقصى جنوب لبنان، يوم 20 يوليو (تموز) 1954. وهو يتحدر من عائلة «مرتاحة» مالياً، جمعت ثروة مقبولة من أعمالها في أفريقيا؛ حيث عمل فيها وزني في قطاع المصارف لفترة من الزمن متابعاً أعمال عائلته، واستمر في ذلك من بروكسل التي قضى فيها فترة لا بأس فيها من حياته. إلا أن الفترة الأكبر من حياته أمضاها في العاصمة الفرنسية باريس، التي توجه إليها طالباً جامعياً، ثم طالب دكتوراه حيث تخرّج في جامعة باريس التاسعة – دوفين (Dauphine)، حائزاً دبلوم دراسات عليا في العلوم المالية في عام 1980. ثم شهادة دكتوراه في الأداء الاقتصادي والمالي في عام 1983.
عمل وزني بعد ذلك باحثاً في مركز الأبحاث والدراسات المالية (CREFI) التابع لجامعة باريس التاسعة - دوفين بين عامَي 1980 و1984. ومستشاراً مالياً واقتصاديا في باريس بين عامَي 1985 و2001. كذلك كان أستاذاً مشاركاً ومحاضراً في كلية الاقتصاد والأعمال بين عامَي 1987 و1998 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، قبل أن يعود إلى لبنان حيث عمل مستشاراً للجنة المال والموازنة البرلمانية بين 2009 و2011. إلى جانب إدارة مكتبه الخاص للدراسات المالية والاقتصادية الذي أنشأه في بيروت عام 2007. ولقد كتب كثيرًا من المقالات الاقتصادية في كبريات صحف لبنان، وتحديدا في «السفير»، ثم «النهار»، بالإضافة إلى مشاركته كمحاضر في كثير من المؤتمرات والندوات.

حياته العائلية

في باريس، تعرّف الدكتور وزني إلى زوجته الأولى، واستمر زواجهما الذي أثمر ثلاثة أبناء، ومن ثم أربعة أحفاد، قبل أن ينفصلا. وبعد ذلك تعرف في بيروت على زوجته الحالية، الإعلامية نجاة شرف الدين.
تصفه زوجته، بأنه «جدي ودقيق»، مضيفة أنه «دقيق ويتابع أعماله حتى النهاية». وتستطرد فتقول عنه إنه أيضاً «صاحب روتين لا يمكن أن يتغير بسهولة، حتى ليكاد يكون هو الروتين بحد ذاته». من ذلك أنه يستيقظ في السادسة والنصف من صباح كل يوم. ولديه طقوسه في تناول قهوة الصباح والفطور. وكذلك في الغداء واللقاءات مع الأصدقاء، وهم قلة على ما تقول شرف الدين، التي تشير إلى أن المنصب الوزاري «استطاع النيل من بعض هذا الروتين، مبقياً له الصباح، وآخذاً منه وجبة الغداء التي باتت أحيانا (ساندويتشاً) يرسل على عجل إلى مكتبه في الوزارة».
وفي هذا السياق، يُذكر أن الوزير وزني من محبي الطعام اللذيذ، وهو يقدّر كثيراً وجبة «الكبة بالصينية» أو الملوخية على الطريقة اللبنانية، كما يحمل معه من السنوات الثلاثين التي عاشها في فرنسا حبه لـ«الفيليه». ومن الأشياء التي يحبها أيضاً السفر ويكثر من القراءات المتنوعة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة عموماً.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.