لبنان: الانقلاب التشريعي الأبيض يحرج الفريق الاقتصادي للحكومة

لبنان: الانقلاب التشريعي الأبيض يحرج الفريق الاقتصادي للحكومة
TT

لبنان: الانقلاب التشريعي الأبيض يحرج الفريق الاقتصادي للحكومة

لبنان: الانقلاب التشريعي الأبيض يحرج الفريق الاقتصادي للحكومة

باستثناء «لقب صاحب المعالي»، الملغى رسمياً، قد لا يجد الوزراء الاقتصاديون في الحكومة اللبنانية مَن يحسدهم على مواقعهم الوزارية التي تسلموها من أسلافهم المنصرفين بالاستقالة، وذلك عقب اختلالات حادة في الموازنة، ومداواة ضريبية عقيمة، أنتجت موجات متتابعة من المظاهرات الشعبية العارمة والاحتجاجات العاتية انفجرت أولاها يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
الحقيقة أن لبنان في أزمة تحاكي وصف «الوجودية»؛ كونها غير مسبوقة في تاريخه الحديث. فالاقتصاد الوطني، بكل قطاعاته، يُحتضَر تحت وطأة انهيارات متدحرجة، بدأت بفجوات عميقة ومتسعة في المالية العامة. ثم تمددت إلى واقع «السقوط الحر» للنقد الوطني، لتنحو بوتيرة متسارعة في اتجاه تقويض النظام المالي بكامله من أسس ومقومات ومؤسسات، بما فيه «درة التاج» التي يمثلها الجهاز المصرفي بأصول فاقت 5 أضعاف الناتج المحلي، وبهوية إقليمية، وحضور دولي مميز. وهكذا ولدت، بالتكافل والتضامن، حزمة أزمات أخطر واشد إيلاماً، مع انضمام نحو 60 في المائة من المواطنين إلى «جحيم»” الفقر، وذوبان الطبقة الوسطى، وتضخيم البطالة فوق مستوى 40 في المائة في القطاع الخاص، وتعظيم التضخم أعلى من حدود 100 في المائة.
مما زاد في حساسية مسؤوليات الفريق الاقتصادي الوزاري، يتقدمهم وزير المال الدكتور غازي وزني ووزير الاقتصاد راوول نعمة (وهما من بيئة «المهنيين الاختصاصيين»، انخراط الحكومة في برنامج «آحادي»، بالتعاون مع شركة «لازار الاستشارية الدولية». ولقد تسببت خلاصاته بصدام مبكّر مع حاكمية «مصرف لبنان» (البنك المركزي) ومحاولات لم تصل إلى مبتغاها لإقالة الحاكم رياض سلامة، ومع جمعية المصارف المنضوية إلى الهيئات الاقتصادية الممثلة لمكونات القطاع الخاص. وعلى الأثر، بدأت في ظلال البرنامج وتداعياته جولات المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» الذي تنشد من خلالها الجولة اللبنانية الحصول على تمويل ميسّر بمقدار 10 مليارات دولار أميركي.
لكن الحكومة تفرّدت بإنجاز خطتها الهادفة إلى إنقاذ الاقتصاد الوطني وتعافيه، من دون التشاور المسبق مع شركائها في القطاع المالي المعني بتحديد مكامن الأزمة ومقترحات معالجتها. وقدمت خطة أحصت فيها خسائر محاسبية وضمّنتها موجبات آجلة ومحفظة تمويل المصارف للقطاع الخاص بقيمة 241 ألف مليار ليرة. وحصل ذلك بعد أسابيع قليلة على إشهار «تمنّع» الدولة عن سداد شريحة مستحقة بقيمة 1200 مليون دولار من سندات «اليوروبوندز» في النصف الأول من شهر مارس (آذار) الماضي. وهو ما يعني تفشي مفاعيل القرار على كامل موجبات الدين العام البالغ نحو 93 مليار دولار. وبالتالي، تحميل الأعباء كاملة على «الدائنين»، أي «البنك المركزي» والمصارف بصورة رئيسية، وجزئيا على الأجانب الحاملين لنحو 16 مليار دولار من سندات الدين الدولية.
وانتقل التباعد في المواقف والخلفيات بين الأطراف الأساسية بسرعة إلى طاولة المفاوضات مع خبراء «صندوق النقد الدولي» في واشنطن (عبر تقنية الفيديو). ولم تمنع رئاسة الوزير وزني للفريق اللبناني، ظهور التباينات العميقة - إلى حد التناقض أحياناً - في الرؤى والأرقام وكيفية توزيع «الأحمال» بينهم. ومن ثم، اكتشف الجميع بسهولة، أن شكوك المؤسسات الدولية بقدرة الدولة والحكومة اللبنانيتين على التزام برامج الإصلاح مالياً ونقدياً وإعادة هيكلة القطاع العام، تزداد ترسخاً ما دامت المرجعيات المعنية تجري في حلبة مصارعة.
أيضاً «اكتشف» الجميع أمراً بديهياً هو أن خطوط اتصال «الصندوق» مفتوحة مع «مهنيين محايدين» في قطاعي المال والبنوك، فضلاً عن معرفتهم الوثيقة بلبنان وأحواله على مدى يقارب ثلاثة عقود، عبر بعثتهم المعتادة عالمياً.
وبناءً عليه، ما عدته الحكومة «إنجازاً» بعد إكمالها 100 يوم في الحكم، انقلب رأساً على عقب مع انتهاء مهمة تقصي الحقائق والبت في بيانات الخسائر المحققة فعلياً. وكانت قد تولت التقصي وأنجزته للتو لجنة المال والموازنة في مجلس النواب، بمشاركة كثيفة جذبت نواباً من غير الأعضاء، وبالتشاور مع كل مسؤولي القطاع المالي. وبدت المهمة في حصيلتها أبعد من التصويب في الأرقام، لتصير «انقلاباً» تشريعياً أبيض أعاد وضع «الحصان أمام العربة»، بعدما كانت تجره خلفها في مسار شديد الانحدار.
وبالنتيجة، هبوط تقدير الخسائر المجمعة من 240 ألف مليار ليرة إلى نحو 80 ألف مليار (وفق التسريبات)، وإعادة النظر بالأوصاف والمقاربات، وتوزيع «الأحمال» برفض «تنصل» الدولة والحؤول دون أي اقتطاع من ودائع الجهاز المصرفي، كانت من العوامل التي أسهمت في إعادة الانتظام التائه إلى المؤسسات بضمانة المؤسسة التشريعية. وأسهم في ذلك أيضاً استباق الإنجاز بتأكيد رئيس مجلس النواب نبيه برّي «ضرورة توحيد أرقام الخطة برعاية المجلس، للتفاوض على أساسها مع «صندوق النقد الدولي»، ما أراح أهل القطاع المالي وزاد حرج «الفريق الاقتصادي» الحكومي من وزراء ومستشارين.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»