عودة القراء المتحمسين مع إعادة افتتاح المكتبات في لندن

الإجراءات الصحية لمنع انتشار الفيروس لم تقلل من اندفاعهم

مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
TT

عودة القراء المتحمسين مع إعادة افتتاح المكتبات في لندن

مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)

وقفت كاثي سلاتر، صاحبة مكتبة «داليتش» في لندن، أمام مكتبتها منذ الساعة العاشرة من صباح الاثنين الماضي للترحيب بأول عملاء المكتبة الذين يفدون إليها للمرة الأولى منذ شهور.
كانت السلطات في المملكة المتحدة قد أذنت للمكاتب بإعادة فتح أبوابها لاستقبال العملاء اعتباراً من يوم 15 يونيو (حزيران) وللمرة الأولى منذ قرار الإغلاق العام في البلاد في مارس (آذار) من العام الجاري. وقالت السيدة سلاتر إنها تشعر بسعادة غامرة بالعودة إلى عملها، والاستعدادات الخاصة لذلك التي اشتملت على مزهرية كبيرة مستقرة على طاولة في مدخل المكتبة، فضلاً عن زجاجة كبيرة من مطهرات الأيدي على نفس الطاولة في استقبال العملاء.
ولم يكن العميل الأول هو ما كانت تصبو إليه السيدة سلاتر. فبعد نحو 20 دقيقة من افتتاح المكتبة، أطل رجل من باب المكتبة الأمامي صائحاً لمن بالداخل: «هل تبيعون قصاصات الملاحظات اللاصقة؟».
لكن، ونحو الساعة العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، وصلت السيدة هيلين بوم، وتوجهت مباشرةً إلى قسم كتب الأطفال، وسألت: «هل من الآمن لمس الكتب؟»، وبعد أن أوضحوا لها الأمر، تناولت كتاباً عن الأساطير اليونانية لطفلها.
وفي غضون دقائق، دلفت السيدة أوليفيا هولمز من باب المكتبة وعلى وجهها الكمامة الواقية. وكانت تبحث عن رواية «المفتدون» من تأليف تيم بيرز، وهي الجزء الأخير من ثلاثية روائية تجري أحداثها في وقت الحرب العالمية الأولى. ثم دخل عميل ثالث إلى المكتبة. ثم ظهر عميل آخر وقف عند الباب حيث اللافتة الواضحة التي تقول: «مسموح بوجود ثلاثة أشخاص كحد أقصى في الداخل».
كان جو المكتبة نابضاً بالحياة في الداخل، مع بعض القيود الطفيفة. ذلك المناخ الذي ترددت أصداؤه أيضاً لدى خمسة متاجر لبيع الكتب في العاصمة البريطانية في ذلك اليوم.
وفي صباح الاثنين، جلس باتريك كيلي، صاحب متجر «بوكمونغرز أوف بريكستون» للكتب المستعملة، وراء شاشة بلاستيكية شفافة يطالع أرفف متجره المثقلة بمختلف أنواع الكتب. وكانت تساوره المخاوف بشأن المستقبل، نظراً لانتشار أبناء الطبقة الراقية بين ربوع الحي الذي يعمل فيه، وأصبح يعتمد اعتماداً شبه كلي على وفود السياح وزوار الرحلات اليومية الذين يمرون على متجره بين الحين والآخر. وقال عن ذلك: «يمكننا معاودة العمل اليوم، ولكن متى سوف نرى السياح مرة أخرى؟ لا يمكن لأحد التنبؤ بذلك الآن».
لكن سرعان ما بدأت حفنة من العملاء في الاقتراب من المتجر والشراء. حيث اشترى باولو سوسا (40 عاماً) كتاباً عن الطب، على الرغم من أنه قال إنه لا يريده لقراءته وإنما لاقتطاع جزء من الكتاب الضخم في الداخل وإخفاء هدية لشقيقه فيها.
وفي خلفية المتجر، كان ماثيو نسوبوغا (28 عاماً) ينظر باهتمام بالغ إلى رف من كتب الخيال العلمي يحمل لافتة تقول: «أمهات كتب الخيال العلمي»، وقال إنه كان ينتظر إعادة افتتاح المتجر ببالغ الصبر لأنه يعلم أنهم يملكون الكثير من هذه المجموعات الشيقة.
وأضاف السيد ماثيو نسوبوغا أنه كان يواظب على قراءة كتب وروايات الخيال العلمي طوال فترة الإغلاق العام، ومن بينها رواية «الكثيب» من تأليف فرانك هربرت، وأن هواية قراءة الكتب هي التي ساعدته على الصمود خلال الفترة العصيبة الماضية.
وابتسم السيد كيلي – صاحب المتجر، وقال: «لقد كان ذلك رائعاً للغاية بحق»، في إشارة إلى مفاجأته بالمبيعات السريعة، وأضاف: «يبدو أن الحزن والكآبة سوف يزولان قريباً».
وفي شهر مايو (أيار) الماضي، أعلنت سلسلة مكتبات «واترستونز»، وهي أكبر سلسلة لبيع الكتب في بريطانيا وتضم أكثر من 280 فرعاً في طول البلاد وعرضها، عن اتخاذ إجراءات أمان جديدة لإعادة افتتاح الفروع. ومنها أن أي كتاب يمسك به العميل ولا يشتريه على الفور لا بد من حجزه خارج الرفوف لمدة 72 ساعة للإقلال من مخاطر انتقال العدوى.
ومع منتصف يوم الاثنين الماضي، كان الموظفون في فرع مكتبة «واترستونز» الكبير في هاي ستريت كنسنغتون يعملون على تطبيق سياسة الأمان الجديدة، وذلك بعد أن رفعوا 30 كتاباً في العربة الصغيرة على أن يجري عزلها تماماً للفترة المقررة المذكورة آنفاً.
وكان العديد من موظفي المكتبة يرتدون الدروع البلاستيكية الواقية للوجه، لكن لم يكن أي من العملاء الموجودين في المكتبة يرتدي الكمامات الواقية في الداخل.
وقال جيريمي سميث (54 عاماً) وهو مسؤول في إحدى المؤسسات الخيرية وكانت ممسكاً بدفتر يحتوي على أسماء عشرات الكتب التي يريد شراءها من المكتبة: «كنت أفتقد مكتبات بيع الكتب أكثر من أي شيء آخر»، ولقد تمكن من العثور على أحد الكتب التي يريدها وكان بعنوان: «دومينيكانا» من تأليف إنجي كروز، وهي رواية تدور حول طفلة تبلغ 11 عاماً من عمرها وأُجبرت على الزواج المبكر.
ورداً على سؤال عن الكتاب الذي ينصح الناس بقراءته احتفالاً بالخروج من حالة الإغلاق والحظر العام، قال السيد جيريمي سميث مجيباً: «أنصح الناس فقط بمواصلة القراءة وعدم التوقف عنها أبداً».
كانت مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة لندن تعد وجهة شراء الكتب للمسافرين، حيث يجري ترتيب العديد من رفوف المكتبة وفق مختلف البلدان المختلفة حتى يتسنى لرواد المكتبة العثور على الكتب حول الأماكن المختلفة التي يعتزمون زيارتها. وقال جيمس ثورنينغتون، وهو موظف لبيع الكتب هناك، إنه يأمل أن يواصل الناس الاهتمام بشراء الكتب حتى وإن لم يتمكنوا من السفر إلى الخارج في الآونة الراهنة – وربما لإشباع حلم يتوقون إلى تحقيقه في وقت قريب.
وكانت هذا هو أسلوبه الخاص المتبع خلال فترة الإغلاق السابقة كما قال. فلقد أعاد قراءة كتاب «عائلتي وحيوانات أخرى» من تأليف غيرالد دوريل، وهو يدور حول كاتب بريطاني يسرد قصة طفولته البائسة على إحدى الجزر اليونانية، وقال السيد جيمس ثورنينغتون: «جعلتني هذه الرواية أشعر بأنني أرغب في الرحيل عن البلاد على الفور».
بدا أن القليل من عملاء مكتبة «دانت» يهتمون بشراء كتب السفريات يوم الاثنين الماضي، على الرغم من أن بعض خيارات الكتب عكست رغبات ملحة في الهروب. فلقد ابتاعت السيدة سال آن ستاين (57 عاماً) كتاباً بعنوان «السنوات البراقة» وهي سيرة ذاتية من تأليف نيكولاس كولريدج رجل الأعمال البريطاني المعروف، وقالت السيدة ستاين عن ذلك: «إنها على النقيض تماماً مما يحدث في بلادنا في الوقت الراهن».
حاول متجر «وورد أون ذا ووتر» وهو عبارة عن مكتبة لبيع الكتب على متن قارب يرسو على ضفاف قناة صغيرة بالقرب من محطة «كينغز كروس» للسكك الحديدية، تجربة الافتتاح المبكر في الأول من يونيو الجاري، وذلك عن طريق إغلاق أبواب المكتبة وتداول الكتب من الرفوف المتسقة على الجزء الخارجي من القارب، ولقد تمكن ذلك المتجر المبتكر من اتخاذ تصنيف التسوق الأدبي في الهواء الطلق، وهو نوع من أنواع الأعمال التجارية التي جرى افتتاحها فور التخفيف من قيود الإغلاق في وقت سابق من الشهر الجاري.
وقال جيمس بنتلي (56 عاماً)، وهو بائع الكتب في المكتبة العائمة، إن المبيعات التي حققتها المكتبة في الأول من يونيو كانت استثنائية بكل المقاييس، حيث انطلق العديد من العملاء المعتادين إلى المكتبة للتسوق والشراء. ولكن الآن يعتمد الأمر برمّته على المارة بصورة يومية.
وبعد ظهيرة يوم الاثنين، توقف العديد من الناس لشراء الكتب من المكتبة العائمة، وكانت الروايات تحتل السواد الأعظم من المشتريات، بما في ذلك رواية الكتاب البرتغالي خوسيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل في الآداب.
وقالت لورين غيبس (34 عاماً) إنها كانت تركب دراجتها وتمر بالمكتبة عندما توقفت وقررت تصوير مقطع للفيديو باستخدام هاتفها الذكي لتسجيل أغنية تبثها المكتبة للمطربة الفرنسية الكلاسيكية الرائعة إديث بياف. ثم قررت السيدة غيبس أنها تود لو اشترت شيئاً فعلاً من المكتبة. ثم التقطت كتاباً بعنوان «قصائد موسيقى الجاز»، وهي مختارات شعرية من أعمال كل من لانغستون هيوز وغويندولين بروكس.
وقفت السيدة جو هايغيت، مديرة مكتبة «بايجيس أوف هاكني» خلف الطاولة، تنظر إلى المتجر الخالي من العملاء وقالت إنها قررت مواصلة إغلاق المكتبة في وجه العملاء حتى الآن. ويرجع ذلك بصورة جزئية إلى أن متجرها صغير للغاية، ولن تتمكن من الامتثال لقواعد التباعد الاجتماعي في بريطانيا والتي تفرض مسافة للتباعد بمقدار 6 أقدام بين كل شخصين على الأقل، وهو ما يتعذر عليها تنفيذه، حيث لن تتمكن من استقبال سوى عميل واحد فقط في كل مرة.
بيد أن السبب الآخر يتمثل في أن متجرها الصغير قد حقق نجاحاً معتبراً، بطريقة أو بأخرى، خلال فترة الإغلاق السابقة. ففي بداية الأمر، شعر الموظفون لديها بالذعر من وباء «كورونا المستجد»، وظنوا أنهم لن يتمكنوا من بيع أي شيء على الإطلاق. لكن وفي غضون شهر تقريباً، بدأت مكتبة «بايجيس أوف هاكني» إطلاق موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت – وهو الأمر الذي قالت السيدة جو هايغيت إنه كان يجدر بالشركة التفكير فيه منذ سنوات. ولقد نسبت النجاح المحقق لديها إلى قاعدة العملاء المحليين الموالين لمتجرها، فضلاً عن مدى اهتمام الأشخاص بالقراءة في الموضوعات ذات الصلة بقضايا العرق في الآونة الراهنة، وهي التيمة التي كانت مثار تأييد وتشجيع لدى المكتبة منذ فترة طويلة. وكان كتاب «قصتي مع عنصرية العرق الأبيض» من تأليف ليلى سعد من أكثر الكتب مبيعاً لدى المتجر، وكذلك كتاب «القائمة السوداء» من تأليف جيفري بواكي، كما قالت السيدة جو هايغيت صاحبة المتجر.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».