عروض الأزياء الافتراضية... تجربة ديمقراطية «فاشلة»

بعد أن فقدت رونقها ونخبويتها

عروض الأزياء الضخمة ستختفي إلى حين
عروض الأزياء الضخمة ستختفي إلى حين
TT

عروض الأزياء الافتراضية... تجربة ديمقراطية «فاشلة»

عروض الأزياء الضخمة ستختفي إلى حين
عروض الأزياء الضخمة ستختفي إلى حين

مر أسبوع الموضة اللندني منذ أيام بصمت. لم يتابعه سوى العاملين في المجال وقلة من عشاق الموضة ممن لا يريدون الاعتراف بأن العالم تغير. نُظم الأسبوع عل منصة افتراضية كما كل شيء هذه الأيام. كان من الممكن الانتظار إلى أن تنجلي الغمامة وينسحب الفيروس القاتل مقهوراً، لكن كانت لمنظمة الموضة البريطانية وجهة نظر مختلفة. كانت كما تقول أمام خيارين، إما تأجيل العروض وزيادة الإحباط والمخاوف على مستقبل الموضة، أو التصدي لـ«كوفيد - 19» بأي شكل، لإنقاذ عشرات المصممين المهددين بالإفلاس. فالأرقام تقول إن المخازن والمحلات التي كانت حتى الأمس القريب مغلقة، مكدسة ببضائع تقدر بـ15 مليار جنيه إسترليني. هذه البضائع يجب أن تباع، وحتى تُباع يجب أن يبقى الحلم مشتعلاً من خلال العروض.
لكن بالنسبة للأغلبية فإن هذه العروض الافتراضية، رغم أهميتها وتنظيمها المحكم، كانت لها ردة فعل عكسية. فقد أظهرت أننا ورغم مناداتنا بالديمقراطية، نستمتع أكثر بالأشياء بعيدة المنال لأنها تجعلنا نحلم. فعروض الأزياء الافتراضية دخلت كل البيوت، وأصبح بإمكان أي واحد متابعتها من دون دعوة خاصة، إن لم تنجح في تحريك أي عاطفة أو رغبة في نفوس المتابعين لها. كانت بمثابة طبق بارد يفتقد إلى البهارات. فحتى بداية 2020. كانت الموضة تعتمد على عناصر ترفيهية متنوعة تتعدى الأزياء وتصاميمها. خرجت من الصالونات الحميمة إلى مسارح وبنايات تاريخية لكي تستوعب آلاف الضيوف. ليس هذا فحسب بل تحولت إلى عروض مسرحية ضخمة. إبهارها وبهاراتها كانت تُغطي في بعض الأحيان على نقص في الإبداع والابتكار. لم يعد هذا ممكناً في عالمنا الافتراضي. فعندما يقدم المصمم عرضه الآن عليه أن يزيد من جُرعة الجمال والإبداع في كل تصميم حتى يشد الانتباه. فليس هناك ما يغطي أو يموه على أي نقص أو خطأ. أمر أكده أيضاً عرض «شانيل» الأخير. فهذه الدار التي ينجح مجرد ذكر اسمها في إثارة رغبة جامحة للحصول على أي من منتجاتها، ارتأت هذا الشهر عن تعتمد على منصة افتراضية لتقديم عرضها الخاص بـ«الكروز». قبل جائحة كورونا، كانت تنوي إقامته في عرض مثير على شواطئ «كابري» اللازوردية أمام باقة منتقاة من وسائل الإعلام وزبائنها المهمين، لكن الظروف الحالية أجبرتها أن تتراجع وتقتصر على السفر الافتراضي. لأول مرة تعرضت تشكيلة من تشكيلات الدار لهذا الكم من الانتقادات، كما لو أن العالم يكتشف لأول مرة إمكانيات مصممة الدار فيرجيني فيارد، مع أنها كانت اليد اليمين للراحل كارل لاغرفيلد، لنحو 20 عاماً، وهو ما يعني أن تعيينها أساساً كانت من أجل الاستمرارية وعدم خض أساسيات الدار. صحيح أنها لم تسلم من الانتقادات عندما تسلمت مقاليد الدار بعده، حيث كان البعض يأمل أن تخرج من جلباب كارل لاغرفيلد وتقدم جديداً. في المقابل اتبعت مبدأ «إن لم يكن الشيء مكسوراً فلم إصلاحه أو تغييره؟. فالدار كانت تحقق مبيعات يحسدها عليها الجميع وكانت عروضها الضخمة تثير الأحلام وتجعل حركة البيع في محلاتها المترامية عالمية لا تتوقف في أي دقيقة. بيد أن العالم الافتراضي ولأول مرة، فتح الشهية على انتقادها بشكل غير مسبوق. لم تكن التصاميم سيئة أو مختلفة عما كانت تقدمه سابقاً. كل ما في الأمر أنها، بدت عادية على منصة افتراضية غابت فيها الموسيقى والبهارات الأخرى التي تصاحب أي عرض، بما في ذلك الحضور المتأنق، الذي كان جزءاً من هذه العروض. فهذا الأخير كان هو الآخر يُكملها ويُجملها بأناقته، وهو في قمة زهوه، منتشياً بنخبويته. فتلقي دعوة لهذه العروض ليست لأي كان.
هذا الأسبوع كان بإمكان الجميع حضور هذه العروض، ومن عقر بيوتهم. لم يكن هناك أي داعي لتغيير ملابسهم أو حتى تصفيف شعرهم لمتابعته. كانت التجربة انفرادية مملة تؤذن بتغييرات سلبية، تفتقد إلى الدفء والحميمية. لم تنفع الأفلام الوثائقية والصوتية ولا حتى المقابلات عبر «زووم» بين مصممين ومتعاونين وغيرها أن تُبدد هذا الإحساس. كان المحتوى غنياً ومهماً من الناحية التثقيفية، إلا أنه ضاع في زحمة البرنامج ووحدة المكان وغياب الرفاق. فالتجارب تؤكد دائماً أن جزءاً من المتعة أن نتشاركها مع الآخر أو أن تمنحنا بعض الأهمية، بدءاً من منافستنا للحصول على دعوة خاصة من مصمم لا يحصل عليها هذا الآخر، أو الجلوس على مقعد في الصف الأمامي، وغيرها من الأمور التي ربما تشي بحب الذات وحتى السطحية لكنها تزيد من السعادة ويمكن أن تتحول إلى دافع إيجابي للتميز. منظمة الموضة البريطانية حاولت تهدئة النفوس بالتذكير بأن العالم الافتراضي حل مؤقت في ظل الظروف الراهنة. لكنها لم تنجح في تبديد المخاوف من أن تتكرر التجربة في عروض الهوت كوتور» في شهر يوليو (تموز) المقبل أو عروض الأزياء الجاهزة في كل من نيويورك وميلانو وباريس ولندن، في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.
فهذه العروض الافتراضية تحتاج إلى الكثير حتى تنجح من الناحية العملية، بدءاً من التغطيات الإعلامية المتحمسة التي تشجع المستهلك على الشراء، إلى توفير طرق جديدة لخبراء الشراء حتى يختاروا ما يناسب المحلات التي يتعاملون معها، بالنظر إلى أن طبيعة عملهم تُحتم عليهم التعامل وجهاً لوجه مع المصمم ولمس التصاميم وتفحصها عن قُرب قبل أن يرسى اختيارهم عليها. لا يختلف الأمر بالنسبة لعُشاق الموضة ومتتبعيها. فبإمكانهم الآن تتبعها بحرية والتعرف على مصممين جدد، لكن كل هذا لا ينعكس بالضرورة على المبيعات. فمتابعة نحو 500 عرض، على المستوى العالمي، شيء والرغبة في هذه المنتجات شيء آخر. وحتى يحركوا هذه الرغبة بات لزاماً على المصممين البحث عن إغراءات وطُرق جديدة، وهنا يكمن التحدي بالنسبة لهم. فالتجربة اللندنية الأخيرة وعرض «شانيل» أكدا أن الموضة قد تحتاج إلى حلول مستقبلية، لكن هذا لا يمنع القول إن الحل الأمثل في الوقت الراهن قد يتمثل في العودة إلى الماضي من خلال عروض صغيرة تُقام في صالونات حميمة كما كانت عليه في الخمسينات وما قبلها. حينها لم تكن تحتاج إلى ميزانيات ضخمة ولا إلى بهارات كثيرة. كل ما كانت تعتمده عليه، إلى جانب التصاميم الفنية، هو النخبوية لبيع الأحلام. أما الديمقراطية بمفهوم المنصات الافتراضية، فقد بينت أنها تعبر عن واقع عادي لا يحرك ساكناً.


مقالات ذات صلة

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

لمسات الموضة جانب من جلسات العام الماضي في الرياض (هارودز)

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

في ظل ما تمر به صناعة الترف من تباطؤ وركود مقلق أكدته عدة دراسات وأبحاث، كان لا بد لصناع الموضة من إعادة النظر في استراتيجيات قديمة لم تعد تواكب الأوضاع…

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة أبدعت فيها «ديور» والمغنية لايدي غاغا في أولمبياد باريس (غيتي)

2024... عام التحديات

إلى جانب الاضطرابات السياسية والاقتصادية، فإن عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض لا تُطمئن صناع الموضة بقدر ما تزيد من قلقهم وتسابقهم لاتخاذ قرارات استباقية.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة ماثيو بلايزي مصمم «بوتيغا فينيتا» سابقاً (غيتي)

2024...عام الإقالات والتعيينات

تغييرات كثيرة شهدتها ساحة الموضة هذا العام، كانت من بينها إقالات واستقالات، وبالنتيجة تعيينات جديدة نذكر منها:

جميلة حلفيشي (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)