الطائرات من دون طيار متاحة للجميع.. حتى للمحتالين والمجرمين

البعض حاول استخدامها في تهريب ممنوعات لداخل السجون وتعطيل فعاليات رياضية داخل ملاعب

خلال الشهور الأخيرة حاول البعض استخدام طائرات من دون طيار في تهريب ممنوعات لداخل السجون
خلال الشهور الأخيرة حاول البعض استخدام طائرات من دون طيار في تهريب ممنوعات لداخل السجون
TT

الطائرات من دون طيار متاحة للجميع.. حتى للمحتالين والمجرمين

خلال الشهور الأخيرة حاول البعض استخدام طائرات من دون طيار في تهريب ممنوعات لداخل السجون
خلال الشهور الأخيرة حاول البعض استخدام طائرات من دون طيار في تهريب ممنوعات لداخل السجون

يلجأ المصورون ومخرجو هوليوود للطائرات من دون طيار لتصوير لقطات مرتفعة، بينما يستخدمها الجيولوجيون في البحث فوق سطح البحر عن الصخور الزيتية. ويفكر مسؤولون تنفيذيون بشركة «أمازون» في استخدامها في إسقاط طرود عند أبواب المنازل والشركات.
والآن بدأت الطيارات من دون طيار التي لا تتجاوز في حجمها فطيرة بيتزا في اجتذاب طبقة جديدة من المستخدمين، وهم المحتالون ومثيرو المشكلات. ومع انخفاض أسعار هذه الطائرات وزيادة مبيعاتها، بدأ الاعتماد يتزايد عليها في تنفيذ مغامرات مثيرة، بعضها إجرامي.
خلال الشهور الأخيرة، حاول البعض استخدام طائرات من دون طيار في تهريب ممنوعات لداخل السجون وتعطيل فعاليات رياضية داخل ملاعب.
من جانبها، لجأت المنظمات المعنية بحقوق الحيوان لهذه الطائرات لتعقب الصيادين أثناء تسللهم خلسة داخل الغابات. وفي فرنسا، ثار قلق السلطات جراء رصد أكثر من 12 طلعة جوية غير قانونية لهذه الطائرات فوق مفاعلات للطاقة النووية.
ونتيجة لهذا الانتشار، أصبح مسؤولو السلامة العامة مضطرين للتطلع باستمرار فوق رؤوسهم تحسبا لمخاطر محتملة. وتخشى المجموعات المؤيدة لاستغلال الطائرات من دون طيار لتكون أدوات مشروعة بمجال الأعمال، من أن يسفر هذا الصخب حول الطائرات عن تعزيز جهود السلطات التنظيمية الرامية لفرض قيود صارمة على هذه الطائرات.
من جهتها، أعلنت الإدارة الفيدرالية للطيران أن هذه الطائرات تثير مخاوف تتعلق بالسلامة، مثل إمكانية مهاجمتها لأفراد أو طائرات. وأشارت الوكالة في تصريح لها، الأربعاء، إلى أنها تتلقى قرابة 25 تقريرا شهريا حول طائرات من دون طيار تعمل قرب طائرات يقودها طيارون. ومن المتوقع أن تقترح الوكالة قواعد جديدة للاستغلال التجاري للطائرات من دون طيار بحلول مطلع الشهر المقبل.
من جهته، قال باتريك إغان، الاستشاري بمشروعات طائرات من دون طيار للاستخدامات التجارية ومحرر بموقع sUAS News المعني بهذه النوعية من الطائرات: «أصبحت هذه الطائرات الآن في أيدي مختلف فئات المجتمع؛ الأخيار والأشرار والمحتالين والمخادعين والأطفال. ويمكن أن تفتح أبواب الجحيم على مصراعيها لو استغلت هذه الطائرات في صنع مشكلات».
جدير بالذكر أنه في أغلب الأحوال يعد إطلاق طائرة من دون طيار أمرا قانونيا للأغراض الترفيهية، طالما أن من يتحكمون بها يلتزمون ببضع قواعد إرشادية، مثل البقاء دون ارتفاع 400 قدم.
والملاحظ أن انخفاض تكلفة هذه الطائرات - يبلغ سعر نموذج الطائرة المزود بـ4 أسطوانات دوارة ومزودة بكاميرا أعلاها 500 دولار فقط - جذب مزيدا من المشترين.
من ناحيتها، تقدر «تيل غروب»، وهي شركة بحثية بمجال الطيران، أن السوق العالمية للطائرات من دون طيار المدنية بلغت قيمتها 450 مليون دولار هذا العام، بارتفاع بنسبة 45 في المائة عن العام الماضي.
حاليا، أصبحت هذه الطائرات من العناصر المألوف ظهورها داخل المتنزهات وفي حفلات الزفاف، حيث يجري استخدامها غالبا في التقاط صور من أعلى. بيد أنه مع تنامي أعداد الطائرات من دون طيار المتاحة، زاد ميل بعض مالكيها للمغامرات، خاصة أن نشر المقاطع المصورة عبر الإنترنت وعبر شبكات التواصل الاجتماعي شجع على إذكاء روح التنافس بين مالكي هذه الطائرات.
منذ عام، ابتكر توم مابي، ممثل كوميدي من لويسفيل بولاية كنتاكي، مقلبا خلال عيد الهالوين استخدم خلاله طائرة من دون طيار لإثارة الفزع بين الناس عبر تعليق دمية مرعبة في الطائرة. وحصد المقطع المصور الذي أظهر أشخاصا مرعوبين داخل أحد المتنزهات، أكثر من 7 ملايين مشاهدة عبر موقع «يوتيوب».
وقال مابي، الذي ابتكر خدعة أخرى باستخدام طائرة من دون طيار هذا العام خلال عيد الهالوين: «أتمنى أن أصبح كوميدي الطائرات من دون طيار».
الملاحظ أن الفعاليات الرياضية بأماكن مفتوحة بحضور جماهير كبيرة أصبحت هدفا جاذبا بصورة خاصة لهذه الطائرات. في أكتوبر (تشرين الأول)، توقفت مباراة كرة قدم في بلغراد بين المنتخبين الوطنيين لصربيا وألبانيا عندما دفع شخص ما طائرة من دون طيار للتحليق فوق الاستاد حاملة علم ألبانيا الكبرى، وهو رمز قادر على استثارة كثير من الحضور.
وبالفعل، أقدم أحد اللاعبين الصربيين على تمزيق العلم، مما أثار مشاحنة بين لاعبي الفريقين وأعمال شغب في المدرجات.
أيضا، ظهرت طائرات من دون طيار خلال مباريات كرة قدم رسمية في بريطانيا، وكذلك خلال مباريات كرة القدم داخل جامعات بالولايات المتحدة.
في أغسطس (آب)، ألقي القبض على طالب من جامعة تكساس بأوستن، بعد أن وجه طائرة من دون طيار فوق استاد يتبع إحدى المدارس كان يعج بـ93 ألف مشاهد. ويواجه الطالب احتمالية توجيه اتهامات إليه، تبعا لما أفادته شرطة الجامعة.
ومع تزايد قلق مسؤولي الاستادات، قامت الإدارة الفيدرالية للطيران بتحديث سياسة أقرتها بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2011 الإرهابية، بحيث أصبحت تحظر الآن بوضوح توجيه طائرات من دون طيار للتحليق قرب الفعاليات الرياضية الكبرى.
يذكر أن الاستخدام التجاري للطائرات من دون طيار محظور بدرجة كبيرة داخل الولايات المتحدة، بسبب إمكانية استخدامها في شن هجوم كيماوي أو بيولوجي جوا. وتتمتع القليل من شركات هوليوود باستثنائها من هذه القاعدة.
ومن المتوقع أن تقترح الإدارة الفيدرالية للطيران قواعد جديدة تلزم الجهات التجارية التي تستخدم طائرات من دون طيار بالإبقاء على اتصال بصري بها واستصدار تصريح.
يذكر أن الإدارة تتلقى باستمرار تقارير حول الطائرات من دون طيار العاملة بمناطق لا يفترض لها الظهور بها، غالبا قرب المطارات. وتبعا لأرقام أعلنت الأربعاء، فإن الإدارة تلقت 6 تقارير منذ فبراير (شباط) حول تحليق طائرات من دون طيار فوق أو قرب ملاعب في أريزونا وبنسلفانيا وولايات أخرى.
وفي 14 أكتوبر، ارتطمت طائرة من دون طيار كانت تحلق فوق استاد دايتونا المحلي الشاطئي في فلوريدا بشخص مسببة له إصابات طفيفة، حسبما أفادت الإدارة.
من جهته، قال بريندان شولمان، محام من نيويورك يمثل عملاء تجاريين مهتمين باستخدام الطائرات من دون طيار، إن المشكلات يسببها أفراد قليلون ولا ينبغي أن تؤثر بالسلب على الاستخدامات المشروعة لهذه الطائرات.
وأضاف: «من المهم أن نحفظ التوازن بين هذين الأمرين وألا نقيد استخدام هذه الطائرات بسبب حفنة من الأفراد الذين يفعلون أمورا غير لائقة».
العام الماضي، تحولت الطائرات من دون طيار لأداة في خضم صراع أبدي، حيث بدأت منظمة «أنصار التعامل الأخلاقي مع الحيوانات» في طرح طائرات من دون طيار بقيمة 325 دولارا كوسيلة لتسجيل عمليات الصيد غير القانوني. وذكر جيمس رودجرز، مدير شؤون الابتكار بالمنظمة، أنهم باعوا «العشرات» من الطائرة، التي أكد ضرورة عدم استغلالها ضد أعمال الصيد القانونية.
إلا أن البعض يشكون من صوت الطائرات من دون طيار الذي يسبب الإزعاج. في هذا الصدد، أشار نيك بينيزوتو، الرئيس التنفيذي لـ«تحالف رياضيي أميركا»، وهي مجموعة ضغط مؤيدة لنشاطات الصيد، إلى أن صيادين في نيويورك اشتكوا من أن طائرة من دون طيار جرى استخدامها لإفزاع البط ودفعه للهرب.
من ناحية أخرى، استعانت وكالات فرض القانون بمختلف أرجاء البلاد بطائرات من دون طيار لتفتيش الحزم المشتبه فيها وإجراء عمليات استطلاع، ما أثار مخاوف تتعلق بالخصوصية، لكن السلطات اكتشفت أن هذه الطائرات يمكن استخدامها ضدها أيضا.
في أبريل (نيسان)، سقطت طائرة من دون طيار كانت تحاول نقل مجموعة من الهواتف الجوالة والماريغوانا والتبغ فوق سجن شديد الحراسة في ساوث كارولينا. وألقت السلطات القبض على شخص على صلة بالحادث، وما يزال البحث جاريا عن آخر. واعترفت السلطات بأنها غير واثقة مما إذا كانت محاولات أخرى مشابهة قد تمت من قبل.

* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)