سوق خان الخليلي في القاهرة ينتعش من جديد

تجاره متفائلون باستقرار الأوضاع وعودة السياح

ملامح الانتعاش تعود للسوق الشهير بالقاهرة («الشرق الأوسط»)
ملامح الانتعاش تعود للسوق الشهير بالقاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

سوق خان الخليلي في القاهرة ينتعش من جديد

ملامح الانتعاش تعود للسوق الشهير بالقاهرة («الشرق الأوسط»)
ملامح الانتعاش تعود للسوق الشهير بالقاهرة («الشرق الأوسط»)

داخل «الدكان» الذي أمضى به جل حياته، في سوق خان الخليلي بحي الحسين في القاهرة، أمسك مصطفى بخرقة قماش قديمة يزيل بها الأتربة عن رفوف احتلتها تماثيل فرعونية مقلدة وعاديات من الصدف والعاج والجلود، يحمل بعضها حكما معروفة وأبياتا من الشعر، وعبارات قرآنية مثل: «وبشر الصابرين»، وكأنما يكافئ بها نفسه على صبره لشهور طويلة، شهد فيها السوق التاريخي حالة كساد شديدة نتيجة الاضطرابات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد. لكن الآن وبعد أن هدأت الأوضاع تغيرت الحال وبدأت الحركة تدب في السوق العتيق، ويأمل أصحاب المحال والتجار أن يستمر انتعاش السوق ويتصاعد ليعوضوا ما فقدوه خلال فترة الكساد.
يبتسم مصطفي جمال، 45 عاما، صاحب محل بالسوق، وهو يقول: «الحمد لله بدأ الوضع يتحسن كثيرا جدا في الأشهر الثلاثة الماضية، وبشكل خاص الشهر الأخير بعد إقرار الدستور الجديد، وذلك لسيطرة رجال الأمن على الوضع في الشارع وعودة السياحة نسبيا». ويضيف: «كانت حالة البيع والشراء خلال الأشهر الستة الماضية عقب سقوط حكم الإخوان شبه منعدمة، والسياحة كانت متوقفة تماما، وعانينا نحن التجار من أعمال البلطجة والمظاهرات التي كانت منتشرة بالبلاد، كما زادت علينا المديونيات لقلة المبيعات وارتفاع أسعار إيجارات المحلات وكساد قطاع السياحة». يتابع مصطفي وهو ينفث دخان نرجيلته: «يا رب لا تعود هذه الأيام، لقد كانت غمة وانزاحت عنا بفضل الله».
ويعد قطاع السياحة من أهم القطاعات، حيث يدر على مصر نحو 14 مليار دولار سنويا، لكن هذا القطاع شهد تراجعا متواصلا خلال حكم «الإخوان» بسبب تدني الأوضاع الأمنية وغياب الاستقرار وحالة الاحتقان السياسي الممتدة بين التيارات السياسية، مما جعل العديد من السياح يحجمون عن زيارة مصر والتبضع من أسواقها التاريخية كما كان يحدث في الماضي، الأمر الذي أدى إلى تراجع المبيعات بشكل كبير، هذا بخلاف معاناة معظم أصحاب المحلات في منطقة الحسين من ارتفاع أسعار إيجارات المحلات وقلة المبيعات، كما يقول أحمد نادي، 40 عاما، وهو تاجر منتجات بخان الخليلي، مؤكدا أن أسعار إيجارات المحلات في ازدياد مستمر.. «أنا كنت أدفع إيجارا شهريا ثلاثة آلاف جنيه، وكان الدخل الشهري لا يتعدي 1500 جنيه، هذا بخلاف مرتبات العمال التي كانت تصل إلى ثلاثة آلاف جنيه شهريا، والمبيعات كانت في انخفاض مستمر لعدم وجود سياحة».. ويضيف: «عانى التجار كثيرا في الفترة الماضية، فكانت السلعة التي تباع لا يشترى غيرها نظرا لتراكم الديون، فأنا كنت مديونا لأحد البنوك المصرية بمبلغ 40 ألف جنيه، وكذلك حال جميع أصحاب المحلات، بل إن عددا منها أعلن إفلاسه فعلا».
ويعد سوق «خان الخليلي» من أعرق أسواق الشرق، فعمره يزيد على 600 عام، وسمي بهذا الاسم نسبة لمؤسسه، وهو أحد الأمراء المماليك وكان يدعى جركس الخليلي. وقد عرف السوق حجما كبيرا من النشاط التجاري في أعوام ما قبل الثورة المصرية، حيث كانت حركة البيع والشراء عالية جدا، من السياح والجنسيات العربية المختلفة.
يتابع أحمد ممسكا بأحد التماثيل الفرعونية القديمة: «لا شك أن الوضع الآن تغير تماما، فنحن التجار نكون بمثابة (ترمومتر) لحالة الشارع المصري، وأستطيع الجزم أن الأمن عاد وبقوة، كذلك السياحة بدأت تنتعش من جديد، وأصبحنا نرى أعدادا من السياح تتوافد على المكان في ساعات الليل المتأخرة كما كان قبل الثورة، يتمشون ويتبضعون من المحلات المختلفة، خاصة العرب منهم الذين يعشقون سوق خان الخليلي»، ويضيف: «منذ ثلاثة أشهر كنت أفكر مرارا في تغيير النشاط التجاري إلى أي شيء آخر نظرا لأن حالة الكساد كانت (عامة) لدى جميع التجار في كل المجالات، إلى أن بدأ الوضع يتحسن بشكل واضح خاصة مع الأيام الأولى لإقرار الدستور الجديد».
ويروي بعض الناس بالسوق أن الحالة الاقتصادية المتردية خلال الأشهر الماضية دفعت عددا من التجار إلى الهجرة خارج البلاد بحثا عن مكان وظروف أفضل للتجارة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن نحو 30 في المائة من التجار والمستثمرين المصريين هاجروا بالفعل خارج البلاد خلال ألشهر القليلة الماضية ونقلوا استثماراتهم وتجارتهم للخارج، كما يقول فتحي سليم، 37 عاما: «أنا والعديد من أصدقائي التجار سافرنا بالفعل للتجارة في أماكن أخرى، بعضهم ذهب إلى الصين ليتاجر في سلع خفيفة كالسبح مثلا، والبعض الآخر سافر إلى إيطاليا ويتاجر في قطع غيار السيارات»، مضيفا: «أيضا الظروف الأمنية والسياسية خلال عام حكم الإخوان أدت إلى هروب المستثمرين الأجانب، بعد أن رأوا أن الجو بمصر أصبح غير مناسب للاستثمار وعمل مشاريع في كل المجالات».
روايات تجار الخان الشهير لم تنته عند هذا الحد، فما بين معاناة أوشكت على الانتهاء، وسعادة بالغة بعودة الحياة إلى السوق من جديد، أجمع الجميع أن رواج السوق يعتمد في الأساس على عودة السياحة مرة أخرى وبقوة، التي بدأت بدورها في الانتعاش من جديد كما يؤكد سليم، قائلا: «بالتأكيد إن لم يكن الوضع قد تحسن بالفعل لما كنت عدت، ولكن التحسن واضح، والسياحة بدأت تنتعش، وحركة البيع والشراء في تحسن تدريجي مستمر يوما بعد يوم. عودة السياحة تعني القضاء على الإرهاب وعودة مصرنا الحبيبة بلد الأمن والأمان كما عرفت دائما».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».