أعلنت شركة «وورنر»، أول من أمس (الجمعة) سحبها لفيلم «ذهب مع الريح» من العروض الباريسية التي كانت مقررة للفيلم هذا الشهر. ففي الثالث والعشرين منه، كان موعد الباريسيين مع عروض جديدة لفيلم فكتور فليمنغ الشهير، وهو اليوم الذي تقرر أن تباشر العروض السينمائية دورتها الجديدة فيه، بعد ثلاثة أشهر من الإغلاق التام.
«ذهب مع الريح» كان سيعرض في صالة باريسية واحدة هي صالة «ركس» التي تتميز بأنها صاحبة أكبر شاشة سينما في فرنسا؛ لكن على ضوء المظاهرات التي عمت أميركا وبعض أنحاء العالم مؤخراً، ارتأت شركة «وورنر» الأميركية وإدارة صالة «ركس» إلغاء الفيلم من العرض، درءاً لما قد يثيره من مشاعر معادية، كونه يتحدث - فيما يتحدث فيه - عن الرق في الجنوب الأميركي خلال الحرب الأهلية الأميركية، في ستينات القرن التاسع عشر (1861- 1865)، كذلك لإظهار الوجه المعادي للعنصرية، وهو الفعل الذي يسود الآن هوليوود وبريطانيا على وجه التحديد. مَن في مثل هذه الظروف يجرؤ على إبقاء الحال على ما هي عليه؟
- حق تقليدي
بدأ كل شيء بمقال. جون ريدلي، كاتب سيناريو فيلم «اثنا عشر عاماً عبداً» (12 Years a Slave) نشر مقالة بتاريخ 8 يونيو (حزيران)، طالب فيها بحذف فيلم «ذهب مع الريح» من العروض المبرمجة على قناة «HBO-Max» وهي محطة وُلدت قبل أسابيع قليلة بالتعاون مع شركة «WarnerMedia» التي تملك حقوق توزيع ذلك الفيلم الذي كانت شركة «مترو- غولدوين- ماير» أنتجته سنة 1939.
ذكر ريدلي، في مقالته، أنه يتفهم أن الأفلام هي وليدة المراحل التاريخية التي تمر بها؛ لكنه اتهم الفيلم بأنه تمجيد لحقبة العبودية التي يتناولها الفيلم من دون إدانة. كتب: «هو فيلم يمجد فترة ما قبل الحرب (الأهلية). وفي حين يعرض لفواجع العبودية، يكرس التنميط المؤلم للملونين».
ما هو معروف وموثق في كل ميادين المعرفة حقيقة، أن الجنوب الأميركي في ستينات القرن التاسع عشر، تبنَّى الرق وتجارة العبيد وتشغيلهم في حقول الجنوب المختلفة، لقاء الطعام والكسوة. معظم أصحاب المزارع البيض تعامل مع من جلبتهم تجارة العبيد من أفريقيا على أساس أنهم ممتلكات وليسوا بشراً حقيقيين، ما جعلهم يصرون على سوء معاملتهم، وإطلاق اليد في تعذيبهم وإيذائهم، إذا لم ينجزوا المهام التي يقومون بها.
- أوسكار هاتي مكدانيال
فيلم «ذهب مع الريح» يقع في هذا النطاق تماماً. هو اقتباس عن رواية مارغريت ميتشل (1900- 1949) التي وُلدت في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا، وعملت في الصحافة، ووضعت روايتها الوحيدة هذه التي لفتت الانتباه والتقدير حال نشرها سنة 1936.
هوليوود، ممثلة بالمنتج الأسطوري ديفيد أو سلزنِك، اهتمت بالرواية منذ البداية؛ لكن تحقيق الفيلم تعرض لعقبات كثيرة من حيث عملية الإنتاج بحد ذاته، كما من حيث البحث عن ممثلين وممثلات مناسبين للأدوار التي سيقومون بها.
في هذا النطاق، تعاقب عديد من الأسماء المشهورة بحثاً عمن يؤدي الأدوار الرئيسة؛ خصوصاً بالنسبة للدور المحوري المتمثل بشخصية سكارلت، الذي أدته - بعد بحث مضنٍ - البريطانية؛ بلهجة جنوب- أميركية فيفيان لي. لكن ما إن تم إنجاز الفيلم ذي الـ238 دقيقة حتى سجل إقبالاً هادراً، عندما بوشر عرضه في الخامس عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 1939.
حصيلة هذا النجاح تجاوزت 200 مليون دولار آنذاك (أي ما يوازي نحو 3 مليارات و500 مليون دولار بسعر اليوم). وطوال عقود أعيد عرضه مرات عديدة، ما نتج عنه ارتفاع حصيلته من الإيرادات عالمياً لنحو 400 مليون دولار (ما يوازي 7 مليارات و380 مليون دولار بسعر اليوم).
خلال كل هذه العقود، لم يُثِر الفيلم أي ردات فعل ذات شأن بخصوص الصورة التي يلقيها على الجنوب الأميركي بشقيه الأبيض والأسود. بمراجعة ما كتبه ناقد صحيفة «ذا نيويورك تايمز» فرانك نوجنت في العشرين من ذلك الشهر، لا نجد أي ذكر للقضية العنصرية المُثارة هذه الأيام. كذلك بفحص كتابات نقدية في مجلات سينمائية في الفترة ذاتها مثل «فوتوبلاي» و«موشن بيكتشرز دايلي» و«فارايتي» و«سكرينلاند»، لا قبل خروج الفيلم بتسع أوسكارات سنة 1940، ولا بعد ذلك.
واحدة من الأوسكارات المثيرة للاهتمام (التي تتضمن أفضل فيلم، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل إخراج، وأفضل تصوير بالألوان... إلخ) كانت تلك التي نالتها الممثلة الأفرو- أميركية هاتي مكدانيال، كأفضل ممثلة مساندة. كانت أول ممثل - ذكر أو أنثى - ينال الأوسكار في تاريخ هذه الجائزة، وهذا كان تقديراً عالياً للممثلة التي تلعب دور الخادمة التي تتصرف كما لو كانت الأم الكبيرة لسكارلت وشقيقتيها، في ذلك المنزل الكبير الذي تعيش فيه تلك العائلة. وقد نص السيناريو على تقديم الخادمة الأولى في هذا المكان كصاحبة سطوة ضمن حدود عملها، وذات قلب محب، وكشخصية اجتماعية مميزة عن بقية السود في محيطها.
- التاريخ كحالة رومانسية
بينما لم تجد صحف تلك الفترة ما يدعو للنقد حيال الصورة النمطية للأفرو- أميركيين، تداعت لاحقاً - في الستينات وما بعدها - رغبة بعض النقاد في الكشف عن هذا الخلل الموجود في سياق الفيلم. معظمهم لم يأبه كثيراً ولو أنه أشار- عرضاً - لهذا الموضوع، نافياً، في بعض الكتابات، تأثير هذه الناحية على قيمة العمل الفنية.
في الوقت الذي يمكن فيه الموافقة على أن قيمة العمل الفنية (تلك التي تشمل مسائل الإخراج والإنتاج والكتابة والتمثيل، وكل التصاميم والعناصر الفنية) مرتفعة، وأن الفيلم واحد من أهم ما أنجزته هوليوود من كلاسيكيات، لا يمكن هنا التغاضي عن أن جوهر الموضوع ليس في توفير الصورة النمطية للسود فقط؛ بل تحييدهم عن أي حديث للحياة التي فُرضت عليهم أو عن أي ذكر لأوضاعهم.
«ذهب مع الريح» يصرف وقته الذي يتجاوز ثلاث ساعات بالحديث عن سكارلت التي تبحث عمن تحب حتى بين المتزوجين، بعدما اكتشفت أن من اعتقدت أنه سيتقدم لخطبتها اقترن بامرأة أخرى، وما تلا هذا الموقف من وصف لحياتها العاطفية والاجتماعية قبل وبعد تعرفها على الدون جوان رَت بتلر (كلارك غيبل) الذي لا تهمه المواقف السياسية ولا الحرب ذاتها، إلا من حيث إنه يسعى للبحث عن الربح المادي منها.
في الواقع يُظهر الفيلم عناية كبيرة بالحالة الرومانسية التي تمر بها سكارلت بحثاً عن الشخص المناسب، ثم بحثاً عن كيف تحتفظ به. في المقابل لا يُظهر أي شيء حيال الوضع العنصري والعبيد في المزارع وأوضاعهم المعيشية (إذا ما صح التعبير).
نقطة الدفاع الوحيدة عن الفيلم في هذا الإطار، هي أنه ليس الفيلم الذي يريد تأريخ الفترة؛ بل سرد الحكاية. في ذلك فإن الفيلم أكثر متعة من الحكاية ذاتها. يستمد حبكتها المتمادية ويصهرها في معالجة ممتازة فنياً، ومتميزة كحبكة، ولو في إطار تقليدي.
«ذهب مع الريح»، ليس الوحيد في تجاهله التعبير عن معاناة السود ومساوئ العنصرية. سبقه إلى ذلك، من بين الإنتاجات الكبيرة: «مولد أمة» لديفيد وورك غريفيث، وصاحبه أيضاً عديد من أفلام «الوسترن» التي صورت المستوطنين الأميركيين الأصليين كشعوب همجية لا بأس من إبادتها، في سبيل التقدم الغربي لإنشاء حياة جديدة للمهاجرين البيض.
المسألة برمتها شائكة، فالتقصير في ذكر هذه الجوانب المأسوية لا يعني مطلقاً أن عديداً من هذه الأفلام (سواء تلك التي تعاملت مع السود أو تلك الأخرى التي تعاملت مع الهنود) لم يكن جيداً في كل الجوانب الأخرى.
«ذهب مع الريح» يبقى المثال النموذجي لفيلم بديع السياق والتنفيذ، على الرغم مما يمثله، أو بالأحرى: مما لا يمثله.