صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

الإدارة الكردية تضارب على سعر دمشق لتخزين 700 ألف طن... ومجالس معارضة تدعو إلى تداول الليرة التركية

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق
TT

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

يكشف الصراع على القمح السوري، بين «الحكومات» في «مناطق النفوذ» الثلاث، جانبا رئيسيا من الوضع الذي وصلت إليه البلاد بعد تسع سنوات من النزاع انخفض خلالها الإنتاج من حوالي أربعة ملايين في 2011 إلى حوالي 2.2 مليون في الموسع الجاري. واللافت، أن الأطراف المتنازعة تستعمل الدولار الأميركي أو الليرة التركية والحرائق أسلحة في هذا الحرب الجديدة.
الوضع العام
كان الإنتاج السوري من القمح في 2010 أكثر من 3.5 مليون، وحرصت «المؤسسة العامة للحبوب» على تخرين كمية موازية في صوامعها المنتشرة في البلاد. وبعد الاحتجاجات وبسبب الجفاف، تراجع الإنتاج تدرجيا المحصول. وكانت سنة 2018، الأسوأ حيث انخفض إلى 1.2 مليون طن.
وخلال تسع سنوات، حافظ القطاع الزراعي على دوره المهم في تأمين الحد الأدنى من الأمن الغذائي والدخل. وزاد دوره في مناطق خارج سيطرة الحكومة، بسبب تدهور الأنشطة الاقتصادية الأخرى. إذ ساعدت الأنشطة الزراعية في الحفاظ على الحد الأدنى من ظروف المعيشة لآلاف العائلات «لكن هذا القطاع شهد أيضاً تراجعاً وتقلبات في النمو، وأدى النزاع إلى تخريب المعدات وأنظمة الري ونهبها، وتقييد إمكانية الوصول إلى الأراضي والنقص في المواد الخام واليد العاملة، وتراجع الأمان في نقل المنتجات الزراعية إلى الأسواق»، حسب «المركز السوري لبحوث الدراسات» في تقريره الأخير. كما استعملت الحرائق والتدمير أداة حرب بين المتصارعين أو أداة للعيش والتدفئة بسبب تراجع البدائل الأخرى.
وبين 2016 و2018، سُجّل تراجع كبير في هطول الأمطار. وإذ يعتمد 70 في المائة من الإنتاج على المطر، أثر ذلك سلبياً عليه. وتراجعت مساحة الأراضي المروية في هذه الفترة، بسبب تناقص كمية المياه، وتزايد تكلفة المحروقات المستخدمة في تشغيل الآبار. وتضرّر القطاع الزراعي أيضاً نتيجة ندرة المستلزمات الزراعية وارتفاع تكاليفها. ولم تلبِ هذه المؤسسات سوى 10.8 في المائة من احتياجات المزارعين من الأسمدة. ووصلت أسعار المازوت إلى 350 ليرة سورية للتر الواحد في السوق السوداء مقارنة بالسعر المدعوم من الحكومة البالغ 185 ليرة. كما تأثرت القدرات المالية جرّاء التقلبات التي طالت سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي. فبين العام 2018 ومطلع العام 2020. تراجع سعر صرف الليرة تراجعاً هائلاً، ما رفع من أسعار المستلزمات الزراعية والسلع.
وقال المركز: «علاوة على ذلك، تلوثت الأراضي الزراعية بالأنقاض السامة، إضافة إلى التلوث الناجم عن احتراق النفط، فضلاً عن تضررها غير المباشر نتيجة إنشاء المناطق السكنية العشوائية والمباني غير السكنية على الأراضي الزراعية».
التعويض
بحسب مسؤولين سوريين، استوردت الحكومة في عامي 2017 و2018 حوالي 2.2 مليون طن قمح طري، وكان 90 في المائة منها من روسيا. وفي بداية العام الماضي، أعلنت خطة لشراء 400 ألف طن قمحا في مناقصتين منفصلتين بعدما اشترى 200 ألف طن من القمح الروسي في يناير (كانون الثاني). وفي بداية العام الجاري، سمحت الحكومة باستيراد دقيق القمح لكل الراغبين بذلك، أي تصبح عملية استيراد المادة مفتوحة وغير مقيدة بفئة من الصناعات أو الفعاليات الإنتاجية. وقبل أسابيع، تبرعت موسكو بآلاف الأطنان من القمح لدمشق.
في بداية العام، أعلنت دمشق زيادة في المساحات المزروعة بالقمح للموسم الحالي مقارنة مع الموسم السابق نتيجة ارتفاع كمية الأمطار وعودة الفلاحين إلى مناطقهم. وقال مسؤول حكومي إن نسبة تنفيذ خطة زراعة القمح بلغت 70 في المائة من أصل المخطط البالغ 1.8 مليون هكتاراً، موضحا أن إجمالي المساحة المزروعة بالقمح هي 1.2 مليون هكتار. وتوزعت هذه الزيادة على محافظة حلب بأكثر من 110 آلاف هكتار ثم الرقة ودير الزور فإدلب والحسكة.
الصراع
تتقاسم ثلاثة أطراف «السلة الغذائية» للبلاد. وتقع الحسكة ودير الزور والرقة تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة أميركا، فيما تتقاسم السيطرة على أرياف حلب «قوات سوريا الديمقراطية» وفصائل معارضة تدعمها تركيا إضافة إلى قوات الحكومة السورية، فيما تسيطر على معظم ريف إدلب فصائل يدعمها الجيش التركي. وفي مناطق شرق الفرات، هناك «مربعان أمنيان» لدمشق، في الحسكة والقامشلي.
ومع بدء جني محصول القمح، تصاعد التنافس بين الأطراف المسيطرة لإغراء المزارعين. إذ وافق مجلس الوزراء السوري قبل أيام على «رفع سعر تسلم محصول القمح من الفلاحين للموسم الحالي من 225 ليرة سورية إلى 400 ليرة للكيلوغرام الواحد (حوالي 30 سنتاً أميركياً، حسب سعر الصرف وقتذاك)». وكانت الحكومة السورية رفعت في منتصف شهر مارس (آذار) الماضي، سعر القمح من 185 ليرة إلى 225 ليرة للكيلوغرام الواحد.
في المقابل، أوضح مسؤول في الإدارة الكردية لـ«الشرق الأوسط» أن هناك خطة دائمة لحفظ مخزون يكفي لستة أشهر أو أكثر، ما يعني الحصول على 700 ألف طن، موضحا أن التقديرات تفيد بوجود حوالي 1.2 طن من القمح في الحسكة ومناطق شرق الفرات التي تتبع للإدارة و«قوات سوريا الديمقراطية». وقال: «عندما كان سعر صرف الدولار حوالي 1250 ليرة، حددنا سعر شراء الكيلو بـ225 ليرة ثم رفعناه إلى 315 ليرة بعد انخفاض سعر صرفها. رد النظام وسعر كيلو القمح بـ400 ليرة، كما قام ممثلوه في القامشلي والحسكة بالضغط وأغراء المزارعين كي يبيعوا له القمح. وكي نحسم المضاربة لصالحنا، حددنا سعر الشراء بالدولار الأميركي وهو 17 سنتا لكل كيلو. وأمام تدهور سعر صرف الليرة، بات النظام في موقع ضعيف». وإذ خصصت حوالي مائة مليون دولار لشراء المحصول، أصدرت تعليمات تمنع نقله من مناطقها وتشكل حوالي 24 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185 ألف كلم مربع إلى مناطق الحكومة، وهي 64 في المائة من البلاد، وعبور نهر الفرات الذي يفصل بين الطرفين.
في موازاة ذلك، أعلن عبد الحكيم المصري وزير الاقتصاد في «الحكومة الموقتة» المعارضة التي تسيطر على محاصل أرياف حلب واللاذقية وحماة «سعرا مغريا» وصل إلى 225 دولارا أميركيا للطن الواحد. وأمام تدهور سعر الليرة، أصدرت المجالس المحلية المعارضة قرارات حصرت التداول بالليرة التركية في مناطقها التي تشكل حوالي 11 في المائة من مساحة سوريا.
ومع احتدام الصراع على القمح، تجددت الحرائق في هذا الموسم. وفي 2019. أتت النيران على المحاصيل، خلال موسم الحصاد، في كل من الحسكة، وحماة، وإدلب، والسويداء. والتهمت نيران هذه الحرائق 2.3 في المائة من محصول القمح (130 ألف هيكتار) و3.4 في المائة من محصول الشعير (180 ألف هيكتار)، إضافة إلى تدمير 8 آلاف هكتار من الغابات.
ومع تجدد الحرائق في «مناطق النفوذ» الثلاث، تجددت الاتهامات بين المتخاصمين. وقال المسؤول: «بعض الحرائق بسبب الحر، لكن معظمها مفتعل من أطراف مختلفة، تحاول استعمال ذلك سلاحا للضغط على المزارعين أو التجار أو المنافسين».



تصعيد «الانتقالي» الأحادي يهزّ استقرار الشرعية في اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
TT

تصعيد «الانتقالي» الأحادي يهزّ استقرار الشرعية في اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي باليمن يتفقدون شاحنة خارج مجمع القصر الرئاسي في عدن (رويترز)

يشهد شرق اليمن، وتحديداً وادي حضرموت ومحافظة المهرة، واحدة من أكثر موجات التوتر خطراً منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل (نيسان) 2022، وسط تصاعد في الخطاب السياسي، وتحركات عسكرية ميدانية، وإعادة رسم للتحالفات داخل المعسكر المناهض للحوثيين؛ الأمر الذي يضع البلاد أمام احتمالات مفتوحة قد تنعكس على كامل المشهد اليمني، بما في ذلك مسار الحرب مع الجماعة الحوثية، وواقع الإدارة المحلية، ووضع الاقتصاد المنهك.

وفي هذا السياق، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي بوضوح نيته المضي نحو تعزيز سيطرته الأمنية في وادي حضرموت. وقال علي الكثيري، رئيس الجمعية الوطنية للانتقالي، إن «الانتصارات الأخيرة شكلت بارقة أمل لأبناء حضرموت»، مشيراً إلى أن «مرحلة ما بعد التحرير تتطلب تضافر الجهود للحفاظ على المكتسبات».

رئيس مجلس الانتقالي الجنوبي عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني عيدروس الزبيدي (أ.ب)

وكان لافتاً حديثه عن أن «تأمين وادي حضرموت يمثل أولوية قصوى»، في إشارة مباشرة إلى مطلب الانتقالي القديم بإخراج القوات الحكومية من الوادي واستبدالها بقوات «النخبة الحضرمية» الموالية له، بالتوازي مع تأكيده أنّ الجنوب «مقبل على دولة فيدرالية عادلة»، في تكرار لرؤيته الداعية إلى إنهاء الوحدة بصيغتها الحالية.

بالنسبة للانتقالي، فإن السيطرة على وادي حضرموت والمهرة ليست مجرد توسع جغرافي؛ بل جزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى ترسيخ النفوذ جنوباً استعداداً لأي تسوية سياسية مقبلة بخاصة في ظل مطالب المجلس باستعادة الدولة التي كانت قائمة في جنوب اليمن قبل 1990.

موقف العليمي

في المقابل، صعّد رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي خطابه بعد أن غادر العاصمة المؤقتة عدن بالتوازي مع تصعيد المجلس الانتقالي؛ إذ شدد بشكل واضح على «انسحاب القوات الوافدة من خارج حضرموت والمهرة» وتمكين السلطات المحلية من إدارة شؤون المحافظتين.

وجاءت مواقف العليمي من خلال تصريحاته أمام السفراء الراعيين للعملية السياسية في اليمن، وأخيراً من خلال اتصالات هاتفية مع محافظي حضرموت والمهرة، في رسالة أراد من خلالها تقديم دعم مباشر للسلطات المحلية والدفع نحو تهدئة التوتر بعيداً عن الخطوات الأحادية التي أعلنها المجلس الانتقالي.

رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي (سبأ)

وشدد العليمي على ضرورة «عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه»، محذراً من مخاطر التصعيد على الاقتصاد والواقع الإنساني. كما دعا إلى «تحقيق شامل في الانتهاكات المرافقة للإجراءات الأحادية»، في إشارة إلى الاعتقالات والإخفاءات التي تقول جهات حقوقية إنها رافقت عمليات الانتقالي في بعض المناطق الجنوبية.

ويبرز من هذه التصريحات حجم الهوة داخل مجلس القيادة الرئاسي نفسه؛ إذ يتحرك كل طرف من أطرافه بشكل مستقل، بينما تتسع الفجوة بين مواقف العليمي والانتقالي بشأن مستقبل الإدارة الأمنية والعسكرية للشرق اليمني.

مخاوف واسعة

يثير تصاعد الأحداث في شرق اليمن مخاوف من أن تتحول حضرموت والمهرة، وهما أكبر محافظتين في البلاد مساحة، إلى بؤرة صراع داخلي قد تجرّ اليمنيين إلى فوضى جديدة. فالمنطقة، التي تمتاز بامتدادات جغرافية واسعة وثروات نفطية ومنافذ برية مهمة مع السعودية وسلطنة عُمان، حافظت لسنوات على نمط من الاستقرار النسبي مقارنة بمناطق الحرب الأخرى.

لكن دخول قوات إضافية وفرض وقائع أمنية وعسكرية قد يؤدي إلى تقويض الإدارة المحلية التي تعتمد على التوازنات القبلية والسياسية، وعرقلة إنتاج النفط الذي يمثل شرياناً اقتصادياً أساسياً، مع ارتفاع خطر الجماعات المتطرفة التي تستغل عادة الفراغات الأمنية، إضافة إلى تعميق الانقسام داخل مجلس القيادة الرئاسي وانعكاس ذلك على قدرته في إدارة ملفات الحرب والسلم.

كما يهدد التصعيد بتفاقم الأزمة الإنسانية في بلد يعيش أكثر من 23 مليون من سكانه على المساعدات، بينما تشير تقارير أممية إلى أن 13 مليوناً قد يبقون بلا دعم إنساني كافٍ خلال العام المقبل.

تنسيق الزبيدي وصالح

على خلفية هذه التطورات، أجرى طارق صالح اتصالاً برئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، في خطوة أضافت طبقة جديدة من التعقيد، بخاصة وأن الطرفين عضوان في مجلس القيادة الرئاسي الذي يقوده العليمي.

وحسب بيان الانتقالي، ناقش الطرفان «سبل التنسيق المشترك لإطلاق معركة لتحرير شمال اليمن من الحوثيين»، مؤكدين أن «المعركة واحدة والمخاطر واحدة»، مع الإشارة إلى تعاون مستقبلي لمواجهة «الجماعات الإرهابية» بما فيها الحوثيون وتنظيم «القاعدة».

المجلس الانتقالي الجنوبي يطالب باستعادة الدولة التي كانت قائمة في جنوب اليمن قبل 1990 (أ.ف.ب)

هذا التواصل ليس عادياً؛ فهو يجمع بين قيادتين تنتميان لمدرستين سياسيتين مختلفتين، الزبيدي بمشروعه الانفصالي جنوباً، وطارق صالح بمشروع «الجمهورية الثانية» شمالاً. لكن المشترك بينهما هو الرغبة في إعادة ترتيب موازين القوة داخل المعسكر المناهض للحوثيين، وتشكيل محور عسكري قادر على التحرك خارج حسابات الحكومة الشرعية، غير أن الرهان دائماً سيكون منوطاً بالإيقاع السياسي الذي تقوده الرياض.

وحسب مراقبين، يسعى الطرفان إلى استثمار الجمود في مسار التفاوض مع الحوثيين وملء الفراغ الناجم عن التغاضي الدولي تجاه الوضع في اليمن؛ وذلك لصياغة تحالف جديد يعيد تشكيل الخريطة السياسية، ويمنح كلاً منهما مساحة أكبر للتأثير، لكن كل ذلك يبقى غير مضمون النتائج في ظل وجود التهديد الحوثي المتصاعد.

بين الحوثيين والانتقالي

تأتي هذه التطورات في وقت تتراجع فيه العمليات القتالية بين الحكومة والحوثيين على معظم الجبهات. ومع أن الحوثيين يواصلون الحشد والتجنيد، فإن خطوط الجبهة الداخلية بين شركاء «معسكر الشرعية» باتت أكثر اشتعالاً من خطوط القتال مع الحوثيين أنفسهم.

ويحذّر خبراء من أن أي انقسام إضافي داخل هذا المعسكر سيمنح الحوثيين هامشاً أوسع لتعزيز نفوذهم، خصوصاً أنهم يراقبون من كثب ما يجري في الشرق، حيث تعتمد الحكومة الشرعية على الاستقرار هناك لضمان مرور الموارد والتحركات العسكرية.

وبين دعوات الانتقالي إلى «مرحلة ما بعد التحرير»، ومطالب العليمي بعودة القوات إلى تموضعها السابق، ومحاولات الزبيدي وطارق صالح لتشكيل موقف موحد، يجد سكان حضرموت والمهرة أنفسهم أمام مشهد معقد يشبه صراع نفوذ متعدد الطبقات.

وفد سعودي برئاسة اللواء محمد القحطاني زار حضرموت لتهدئة الأوضاع (سبأ)

فالمنطقة التي لطالما عُرفت بقبائلها وامتدادها التجاري والاجتماعي مع دول الخليج، باتت اليوم ساحة اختبار لمعادلات سياسية تتجاوز حدودها، وسط مخاوف من أن يقود هذا التصعيد إلى هيمنة على السلطة تتناسب مع المتغيرات التي فرضها المجلس الانتقالي على الأرض، بالتوازي مع تحذيرات من انفجار جديد يعمّق الانقسام اليمني بدلاً من رأبه.

وفي كل الأحوال، يرى قطاع عريض من اليمنيين والمراقبين الدوليين أن العامل الحاسم يظل مرتبطاً بموقف الرياض التي تمسك بخيوط المشهد الرئيسية، وقد دعت بوضوح إلى خفض التصعيد والتهدئة، عادَّة أن أي فوضى في المناطق المحررة في الجنوب والشرق اليمني ستنعكس سلباً على جهود إنهاء الحرب مع الحوثيين، مع اعترافها الواضح أيضاً بعدالة «القضية الجنوبية» التي يتبنى المجلس الانتقالي الجنوبي حمل رايتها.


«خطط الإعمار الجزئي» لرفح الفلسطينية... هل تُعطّل مسار «مؤتمر القاهرة»؟

يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
TT

«خطط الإعمار الجزئي» لرفح الفلسطينية... هل تُعطّل مسار «مؤتمر القاهرة»؟

يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)
يستخدم أفراد الدفاع المدني حفارة للبحث عن رفات الضحايا في أنقاض مبنى مدمر في مخيم البريج للاجئين (أ.ف.ب)

حديث عن خطط للإعمار الجزئي لمناطق في قطاع غزة، تقابلها تأكيدات عربية رسمية بحتمية البدء في كامل القطاع، بعد نحو أسبوعين من تأجيل «مؤتمر القاهرة» المعني بحشد تمويلات ضخمة لإعادة الحياة بالقطاع المدمر وسط تقديرات تصل إلى 35 مليار دولار.

تلك «الخطط الجزئية» التي تستهدف مناطق من بينها رفح الفلسطينية، تقول تسريبات عبرية إن حكومة بنيامين نتنياهو وافقت على تمويلها، وهذا ما يراه خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» تماشياً مع خطط أميركية سابقة حال التعثر في الانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، وأشاروا إلى أن مؤتمر القاهرة للإعمار سيعطل فترة من الوقت؛ ولكن في النهاية سيعقد ولكن ليس قريباً ومخرجاته ستواجه عقبات إسرائيلية في التنفيذ.

ونقل موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مسؤول إسرائيلي قوله إن تل أبيب وافقت مبدئياً على دفع تكاليف إزالة الأنقاض من قطاع غزة وأن تتحمل مسؤولية العملية الهندسية الضخمة، وذلك بعد طلب من الولايات المتحدة الأميركية، وستبدأ بإخلاء منطقة في رفح جنوبي القطاع من أجل إعادة إعمارها.

ويتوقع، وفق مصادر الصحيفة، أن تكون إسرائيل مطالبة بإزالة أنقاض قطاع غزة بأكمله، في عملية ستستمر سنوات بتكلفة إجمالية تزيد على مليار دولار.

وترغب الولايات المتحدة في البدء بإعادة إعمار رفح، على أمل أن تجعلها نموذجاً ناجحاً لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتأهيل القطاع، وبالتالي جذب العديد من السكان من مختلف أنحائه، على أن يعاد بناء المناطق الأخرى في مراحل لاحقة، وفق الصحيفة الإسرائيلية.

تلك التسريبات الإسرائيلية، بعد نحو أسبوعين من تصريحات للمتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، تميم خلاف، لـ«الشرق الأوسط»، أكد خلالها أن القاهرة تعمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين على تهيئة البيئة المناسبة لنجاح مؤتمر «التعافي المبكر وإعادة الإعمار في قطاع غزة». في معرض ردّه على سؤال عن سبب تأجيل المؤتمر.

وفي 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قال مصدر مصري مطلع لـ«الشرق الأوسط» إن المؤتمر «لن ينعقد في موعده (نهاية نوفمبر) وسيتأجل». وأرجع ذلك إلى التصعيد الحالي بالقطاع، وسعي القاهرة إلى توفر ظروف وأوضاع أفضل على الأرض من أجل تحقيق أهدافه، تزامناً مع تقرير عن مخططات إسرائيلية لتقسيم قطاع غزة لقسمين أحدهما تحت سيطرة إسرائيلية والآخر تتواجد فيه «حماس» ولا يتجاوز نحو 55 في المائة من مساحة القطاع.

صبيان يحتميان من المطر وهما جالسان على عربة يجرها حمار في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

واعتمدت «القمة العربية الطارئة»، التي استضافتها القاهرة في 4 مارس (آذار) الماضي، «خطة إعادة إعمار وتنمية قطاع غزة» التي تستهدف العمل على التعافي المبكر، وإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين، وذلك وفق مراحل محددة، وفي فترة زمنية تصل إلى 5 سنوات، وبتكلفة تقديرية تبلغ 53 مليار دولار. ودعت القاهرة إلى عقد مؤتمر دولي لدعم إعادة الإعمار في غزة، بالتنسيق مع الأمم المتحدة.

ويرى عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير رخا أحمد حسن، أن تلك الخطط لن يوافق عليها ضامنو وبعض وسطاء اتفاق غزة باعتبارها مخالفة للاتفاق، وتطرح مع تحركات إسرائيلية لتعطيل المرحلة الثانية بدعوى أهمية البدء في نزع سلاح القطاع أولاً.

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور عبد المهدي مطاوع، أن موافقة إسرائيل على تمويل الإعمار الجزئي وعودة الترويج له إسرائيلياً، يشير لعدم احتمال الوصول لمرحلة ثانية واللجوء لخطة بديلة تحدث عنها جاريد كوشنر صهر ترمب بالبناء في المناطق الخارجة عن سيطرة «حماس» ما دامت الحركة لم تُنهِ بند نزع السلاح، مشيراً إلى أن عودة الحديث عن خطط الإعمار الجزئي تؤخر الإعمار الشامل وتعطي رسالة للدول التي ستمول بأن ثمة عقبات، وبالتالي ستعطل عقد مسار مؤتمر القاهرة.

وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد كوشنر، في مؤتمر صحافي بإسرائيل، أن إعادة إعمار غزة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي «مدروسة بعناية وهناك اعتبارات جارية حالياً في المنطقة الخاضعة لسيطرة جيش الدفاع الإسرائيلي، ما دام أمكن تأمينها لبدء البناء كغزة جديدة، وذلك بهدف منح الفلسطينيين المقيمين في غزة مكاناً يذهبون إليه، ومكاناً للعمل، ومكاناً للعيش»، مضيفاً: «لن تُخصَّص أي أموال لإعادة الإعمار للمناطق التي لا تزال تسيطر عليها (حماس)».

فلسطينيون نازحون يسيرون أمام المباني المدمرة في حي تل الهوى في الجزء الجنوبي من مدينة غزة (أ.ف.ب)

تلك الخطط الجزئية تخالف مواقف عربية، وشدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، في اتصال هاتفي، الخميس، على ضرورة التنفيذ الكامل لاتفاق وقف الحرب في القطاع، وحتمية البدء في عملية إعادة إعمار القطاع، وفق بيان للرئاسة المصرية.

وفي مقابلة مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون، بـ«منتدى الدوحة»، الأحد الماضي، قال رئيس الوزراء القطري، محمد عبد الرحمن آل ثاني «لن نتخلى عن الفلسطينيين، لكننا لن نوقّع على الشيكات التي ستعيد بناء ما دمره غيرنا».

ويعتقد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية» أن طلب قطر قبل أيام بتحمل إسرائيل تمويل ما دمرته «تعبير عن موقف عربي صارم للضغط لعدم تكرار التدمير»، مشيراً إلى أن مصر تدرك أيضاً أن إسرائيل تتحرك في الخطة البديلة بإعمار جزئي في رفح لكن القاهرة تريد تعزيز الموقف العربي المتمسك بالإعمار الكامل، والذي سيبدأ مؤتمره مع بدء المرحلة الثانية التي تشمل انسحاباً إسرائيلياً. بينما يرى المحلل السياسي الفلسطيني أن الموقف العربي سيشكل ضغطاً بالتأكيد لكن هناك وجهات نظر متباينة، مشيراً إلى أن مؤتمر إعمار القاهرة مرتبط بحجم التقدم في المرحلة الثانية ونزع السلاح بالقطاع؛ إلا أنه في النهاية سيحدث، لكن ليس في القريب العاجل وستكون مخرجاته مهددة بعقبات إسرائيلية.


جبايات الحوثيين تعمّق الركود الاقتصادي وتغلق عشرات الشركات

ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
TT

جبايات الحوثيين تعمّق الركود الاقتصادي وتغلق عشرات الشركات

ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)
ملايين اليمنيين الخاضعين للحوثيين يعيشون في ظروف صعبة جراء ضيق سبل العيش (أ.ف.ب)

تتواصل الأزمة الاقتصادية في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية بصورة متسارعة، مع تصاعد شكاوى التجار من الزيادات الجديدة في الضرائب والرسوم المفروضة عليهم، وهي إجراءات وصفوها بـ«التعسفية»، كونها تمتد إلى مختلف الأنشطة التجارية دون استثناء.

في هذا السياق، أكد تقرير دولي حديث أن الضغوط المالية المفروضة على القطاع الخاص باتت تهدد بقاء مئات الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما دفعت بالفعل العديد منها إلى إغلاق أبوابها خلال الأشهر الماضية.

وحسب التقرير الصادر عن «شبكة الإنذار المبكر للاستجابة للمجاعة»، فإن الوضع الاقتصادي في مناطق الحوثيين «يستمر في التدهور بوتيرة متصاعدة»، نتيجة الحملات المتكررة للجبايات التي تستهدف المطاعم والمتاجر والفنادق وقطاعات التجزئة.

وأشار التقرير إلى أن سلطات الحوثيين فرضت مؤخراً رسوماً إضافية على التجار تحت مبرر دعم الإنتاج المحلي، غير أن تلك الرسوم جاءت في سياق سلسلة ممتدة من القيود المالية والتنظيمية التي أثقلت كاهل أصحاب الأعمال.

الحوثيون تجاهلوا مطالب التجار بالتراجع عن زيادة الضرائب (إعلام محلي)

واحد من أبرز هذه الإجراءات كان فرض ضريبة جمركية بنسبة 100 في المائة على السلع غير الغذائية المستوردة، وهو ما أدى -وفق التقرير- إلى إغلاق عدد كبير من محلات التجزئة والمؤسسات الصغيرة التي لم تعد قادرة على تحمّل ارتفاع التكلفة التشغيلية والانخفاض المتواصل في الطلب. وتزامن ذلك مع استمرار الحوثيين في تجاهل مطالب التجار بالتراجع عن هذه الزيادات، رغم الاحتجاجات التي شهدتها صنعاء خلال الأسابيع الماضية.

تراجع غير مسبوق

يشير التقرير الدولي إلى أن العمل بالأجر اليومي والأعمال الحرة التي كانت تشكّل مصدر دخل رئيسياً للأسر الفقيرة والمتوسطة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، باتت تواجه تراجعاً غير مسبوق نتيجة خسائر الدخل وتراجع القدرة الشرائية.

ويحذّر التقرير من أن استمرار هذا التراجع سيقلل «على الأرجح» من قدرة الأسر على الحصول حتى على الغذاء بالتقسيط، وهو إحدى آخر الوسائل التي كان يعتمد عليها السكان خلال السنوات الماضية لمواجهة الضائقة المعيشية.

المزارعون والتجار في مناطق سيطرة الحوثيين يعانون من الجبايات (رويترز)

وفي المقابل، استعرض التقرير الإجراءات الاقتصادية التي تنوي الحكومة المعترف بها دولياً اتخاذها، ومنها رفع سعر الدولار الجمركي بنسبة 100 في المائة.

وعلى الرغم من التأكيدات الحكومية أن المواد الغذائية الأساسية مستثناة من هذا التعديل، يتوقع محللون أن ترتفع أسعار السلع غير الغذائية بنحو 6 إلى 7 في المائة، وسط مخاوف من استغلال بعض التجار للوضع ورفع الأسعار بنسب أكبر في ظل ضعف الرقابة المؤسسية.

استمرار الأزمة

تتوقع «شبكة الإنذار المبكر» أن تستمر حالة الأزمة واسعة النطاق في اليمن (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي للأمن الغذائي) حتى مايو (أيار) من العام المقبل على الأقل.

ويعزو التقرير الدولي ذلك إلى تأثيرات الصراع الاقتصادي بين الحوثيين والحكومة اليمنية الشرعية الذي أدى إلى تقويض النشاط التجاري، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتدهور بيئة الأعمال، بالإضافة إلى ضعف سوق العمل وانحسار القدرة الشرائية للمواطنين.

أما في محافظات الحديدة وحجة وتعز فيتوقع التقرير استمرار حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة)، نتيجة آثار الهجمات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت البنية التحتية الحيوية مثل المنشآت والمواني في الحديدة، بالإضافة إلى عجز سلطات الحوثيين عن إعادة تأهيل هذه المرافق.

الحوثيون متهمون بتدمير مستقبل جيل يمني بكامله جراء انقلابهم (إ.ب.أ)

وقد أدى هذا الوضع إلى انخفاض شديد في الطلب على العمالة، وتراجع مصادر الدخل الأساسية للأسر في هذه المناطق.

وتناول تقرير الشبكة التطورات المتعلقة بالوديعة السعودية للبنك المركزي اليمني، وتوقعت أن تُسهم هذه المبالغ في تعزيز المالية العامة ومعالجة عجز الموازنة، بما يمكن الحكومة من استئناف بعض التزاماتها المتوقفة، بما في ذلك صرف الرواتب.

ومع ذلك، يؤكد التقرير أن هذا الدعم «قصير الأجل» ولا يعالج المشكلات الهيكلية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد اليمني، خصوصاً في جانب الإنتاج وفرص العمل وبيئة الاستثمار.