أحزان الماضي لا تنتهي في سينما بافل بافليكوفسكي

نظرة باردة على واقع ساخن

من فيلم «حرب باردة»
من فيلم «حرب باردة»
TT

أحزان الماضي لا تنتهي في سينما بافل بافليكوفسكي

من فيلم «حرب باردة»
من فيلم «حرب باردة»

أثار فيلم «حرب باردة» للبولندي بافل بافليكوفسكي، الكثير من الاهتمام ونال العديد من كلمات الإعجاب منذ عرضه العالمي الأول قبل عامين. الآن وقد أعيد إطلاقه على أسطوانات بنظام صوت وصورة رائعين، فإن هذا الفيلم الأبيض والأسود يبدو آيلاً، أكثر من أي وقت مضى، للعيش طويلاً كأحد أبرز أعمال السينما الأوروبية في السنوات العشرين الأخيرة.
بداية، وضع «حرب باردة» السينما البولندية على الخريطة مجدداً. من حين لآخر هناك سينمائي فذ يضع هذا البلد على تلك الخريطة: أندريه فايدا، كريستوف زانوتسي، أنييشكا هولاند، ييرزي سكوليموفسكي، كريستوف كيوفسلوفسكي.
الدور الآن يرتاح على كتفي بافل بافليكوفسكي وليس للمرّة الأولى. فقبل ست سنوات حقّق فيلم «إيدا» (Ida) الكثير من الاهتمام والإعجاب.
لعلها الطريقة التي ينظر من خلالها بافليكوفسكي إلى الماضي. في كلا الفيلمين يرى نظرته المترامية إلى تلك المرحلة غير البعيدة من التاريخ عندما كانت بولندا تعيش في كنف الاتحاد السوفييتي. واحدة من الدول التي تمتعت باستقلال ككيان وبتبعية نظامية لا تخرج عنها كآيديولوجيا. خلالهما، عمد بافليكوفسكي إلى التصوير بالأبيض والأسود ليعود أكثر إلى الوراء وليقترب من اللونين اللذين يعكسان، أكثر من أي ألوان أخرى، النظرة غير الانفعالية وغير العاطفية.
فيلما بافليكوفسكي ليسا من نوع النوستالجيا ولو أنهما من نوع التذكير. «إيدا» عن امرأة نشأت مسيحية لكنّها تكتشف أصلها اليهودي، وكان على الكنيسة التي آوتها طفلة أن تخفيها. و«حرب باردة» حول قصّة حب صعبة الوقوع في بولندا، وهي أصعب عندما فرّ العاشقان خارجها.
- مراحل قاسية
يبدأ بافليكوفسكي فيلمه بالغناء والموسيقى الفولكلورية مقدما شخصيتين تسجّلان سنة 1949، أصواتا غنائية بحثاً عن مواهب تُضم إلى حفل جوّال. إنّهما إرينا (أغاتا كيوليشا) وفكتور (توماس كوت). إحدى المغنيات هي شابة اسمها زولا (يوانا كوليغ) التي تأسر اهتمام فكتور فينتخبها على الرغم من معارضة زميلته. زولا وفكتور يتحوّلان إلى عشيقين قبل أن يقرر فكتور الهجرة مودعاً الحياة في بولندا الستالينية هارباً إلى فرنسا حيث الحرية والرّقي الفردي الطموح. تلحق زولا به ويتحابان من جديد.
لكن في حين وجد فكتور نفسه مرتاحاً في موطنه الجديد تقرر زولا العودة إلى حيث تشعر بانتمائها. ولطالما شغلت بالها بسؤال حول ماذا ستكون عليه هويتها الشخصية إذا ما تركت وطنها إلى آخر. يفتقدها فكتور ويلحق بها فيجد أنها ما زالت بانتظاره. يتزوّجان في كنيسة وينتهي الفيلم بهما يأملان بحياة أفضل.
يسرد بافليكوفسكي حكايته هذه على مدى عقدين كافيين لتأسيس أواصر قصّة حب بين شخصيتين صعبتي المراس. كل منهما يحتاج للآخر رغم أنّ هذا الآخر يرفض أن يُطوّع. لكنّ الحب ينتصر في النهاية. في الخلفية تكمن الفترة التي سميت بـ«الحرب الباردة» وبعض من برودتها تتوارد في تلك العلاقة بين فكتور وزولا.
تلعب الموسيقى دورا بالغ الأهمية منذ بداية الفيلم كما في مختلف مراحله، كون فكتور عازفا وموسيقارا وزولا مغنية. يبدأ الفيلم بمعزوفات فولكلورية منتقلاً منها إلى موسيقى الجاز في الستينات. الأولى ناسبت النظام الستاليني الذي سيّر البلاد (ومنع الجاز كونها ثقافة غربية)، والثانية عكست قدراً أعلى بقليل من الحرية ضمن النظام الشيوعي فترة ما بعد ستالين.
فيلم بافليكوفسكي رحلة في الزمان (ما بين 1949 و1964) وفي الأماكن (بولندا، يوغسلافيا، فرنسا)، كما في تكوينات تلك الفترة السياسية. يحب بافليكوفسكي تصوير تأثير التاريخ على الإنسان. هذا ما فعله في أكثر من فيلم له.
- بدم بارد
مثل زميله ييرزي سكوليموفسكي (Deep End‪,‬ Four Nights with Anna‪,‬ Success is the Best Revenge) خاض بافليكوفسكي العمل في السينما والتلفزيون البريطانيين كذلك. في السينما البريطانية كان له «صيف الحب» (Summer of Love) سنة 2004 والمرأة في الدور الخامس (The Woman in the Fifth) سنة 2011. هذا الأخير حثّه على العودة إلى بولندا كونه إنتاجا شاركت في تمويله مؤسسة بولندية.
في العديد من أفلامه البريطانية تعامل بافليكوفسكي مع الهوية السياسية للشخصيات التي وضعها في بؤرة أعماله. وأنجز في التسعينات أفلاما تسجيلية رصد فيها شخصيات سياسية قدّمها بحسناتها ومساوئها من دون تدخل فعلي لمنح عمله وجهة نظر مؤيدة أو معارضة.
أحد تلك الأفلام «التعثر مع جيرينوفسكي» (Tripping with Zhirinovsky): إحاطة شاملة بشخصية روسية عنصرية وعدائية وذات موقف يميني متطرف أسس حزبه في الثمانينات (أول حزب غير شيوعي يتم تأسيسه في إعقاب حل الدولة السوفييتية) وما زال رئيسه إلى اليوم.
في الفيلم يترك بافليكوفسكي لجيرينوفسكي مجال التعبير عن نفسه وآرائه. لا يقوده بل يستند إلى وثائقيات مصوّرة له وهو يخطب في جمهور روسي واعداً إياهم بالعمل والغذاء والثراء: «كل ما نعد به هو ألا يجوع أحد ولا يفقد أحد عمله ولا أحد يفقد منزلاً يأويه».
ينتقل الفيلم بعد ذلك لموضوع آخر. ها هو في خطبة أخرى يتحدث عن الحكومة الروسية التي «تتقرب بإذلال صوب إسرائيل واليهود ولا تهتم للروس الذين ضحوا بحياتهم في الحرب العالمية الثانية».
ليس أن هذا المخرج لا يعكس رأيه الخاص. صحيح أنه يصوّر شخصيته كما هي وبدم بارد، لكنه يتوخى القول في نهاية المطاف أن روسيا الشيوعية كانت، على الأقل، أقل قدرة على التمدد مما هي عليه الآن.
قبل هذا الفيلم كان بافليكوفسكي قد نقل «بورتريه» آخر حول شخصية أثارت الجدل طويلاً أيضاً وهي شخصية الرئيس الصربي رادووان كارادجيك. في «ملاحم صربية» يتابع المخرج الرئيسي الذي كان يعتبر المنطقة البوسنية المسلمة تابعة لصربيا المسيحية التي لها الحق في الحكم وحدها. يختار له مناسبات مختلفة من خطب سياسية ومشاهد لغدواته في صربيا بعد انتهاء الحرب، كذلك لمشاهد تكشف عن شخصيته بعيداً عن الجبهة وبعيداً عن السياسة أيضاً.
رغم مشاهده هذه (معظمها تجمعه بأمّه التي تسأله عن بلاده البوسنية وأحوالها) فإن السائد في «ملاحم صربية» هي تلك النظرة الباردة البعيدة عن التعاطف مع الشخصية والمادة والسياسة التي تمارسها.
- الحاضر الصعب
«ملاحم صربية» و«التعثر مع جيرينوفسكي» هما من جملة أفلام تسجيلية حققها بافليكوفسكي لحساب BBC البريطانية قبل أن يعود إلى بولندا لينقل المزيد من هذا العالم الأوروبي بملاحظاته الشخصية عليه. الزمن (بمراحله المختلفة) والدول التي تشكل الوسط الأوروبي (بولندا، يوغوسلافيا سابقاً) هما العنصران التاريخيان والجغرافيان اللذان سادا أعماله. في داخل هذين العنصرين يكمن المضمون السياسي والإنساني. خارجها الغطاء الفني المسحوب على عمليه الأخيرين بكل دقة ممكنة.
حين أقدم بافليكوفسكي على تحقيق أول فيلم بولندي بعد الفترة البريطانية، وهو «إيدا»، اختار حكاية تقع في الستينات حول فتاة شابّة معروفة باسم آنا عاشت في الدير وأصبحت الآن مؤهلة لتصبح راهبة. لكن رئيسة الراهبات طلبت منها زيارة عمّتها في مدينة لودز. هذه تخبرها بأنها في الواقع يهودية (كحال عمّتها) وأنها نجت من النازية عندما أودعت عند عتبات الدير.
يلتزم المخرج سياق موضوعه من دون توسّـع صوب العواطف السهلة. يذكّر الفيلم بالطبع ما حدث لليهود أيام المحنة النازية، لكنه لا يتباكى أو يتاجر بل يقدّمها في حال من التأمل مستبعداً العواطف السريعة.
مثل أفلامه الأخرى، فإنّ الحاضر في هذا الفيلم، ليس أفضل حالاً. هناك حزن أشد تعبيراً تجسده الجدران الكالحة والطرق الشاغرة والمساحات المفتوحة تحت سماء رمادية. ذلك معبّر عنه بتصوير جيّد بالأبيض والأسود، وبمواقف موسيقية من باخ وموزارت، مع إيحاءات لحياة لا يمكن أن تكون أجدى وأكثر حيوية تحت جناح الفترة الستالينية. يعمد المخرج، في أحيان كثيرة، لتصوير ممثليه في جزء محدد من الصورة متيحاً للمكان مساحة أكبر. وهو تفعيل مثير للاهتمام يذكّر بسينما الدنماركي كارل دراير، لكنّه يوحي كذلك ببرودة في العرض تجعل من الصّعب على عموم المشاهدين الوصول إلى الإحساس المنشود من وراء هذا الموضوع المطروح.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

إشادة بانفتاح السعودية على تقديم الفن الراقي

نجوم حفل روائع الموجي في ضيافة المستشار تركي آل الشيخ «فيسبوك»
نجوم حفل روائع الموجي في ضيافة المستشار تركي آل الشيخ «فيسبوك»
TT

إشادة بانفتاح السعودية على تقديم الفن الراقي

نجوم حفل روائع الموجي في ضيافة المستشار تركي آل الشيخ «فيسبوك»
نجوم حفل روائع الموجي في ضيافة المستشار تركي آل الشيخ «فيسبوك»

شهدت الرياض وجدة فعاليات مسرحية وغنائية عقب انتهاء شهر رمضان، انطلقت مع عيد الفطر واستقطبت مشاركات مصرية لافتة، منها مسرحية «حتى لا يطير الدكان»، من بطولة الفنانَيْن أكرم حسني ودرة، في موسمها الثاني على مسرح «سيتي ووك جدة»؛ إلى عرض ستاند أب كوميدي «ذا إيليت» المقام على «مسرح محمد العلي» بالرياض، بينما شاركت الفنانة المصرية أنغام بحفلات «عيد القصيم»، والفنان عمرو دياب بحفلات «عيد جدة».
وتشهد العاصمة السعودية حفل «روائع الموجي»، الذي تحييه نخبة من نجوم الغناء، بينهم من مصر، أنغام وشيرين عبد الوهاب ومي فاروق، بالإضافة إلى نجوم الخليج ماجد المهندس وعبادي الجوهر وزينة عماد، مع صابر الرباعي ووائل جسار، بقيادة المايسترو وليد فايد وإشراف فني يحيى الموجي، ومشاركة الموسيقار رمزي يسى.
عن هذا الحفل، يعلّق الناقد الفني المصري طارق الشناوي لـ«الشرق الأوسط»: «نشجّع تكريس الكلمة الرائعة والنغم الأصيل، فحضور نجوم مصر في فعاليات المملكة العربية السعودية، يشكل حالة تكامل من الإبداع»، معرباً عن غبطته بمشهدية الزخم الفني، التي يواكبها في الرياض وجدة.
ووفق «جمعية المؤلفين والملحنين الرسمية» في مصر، ورصيد محمد الموجي، صاحب مقولة «أنا لا أعمل كالآلة تضع فيها شيئاً فتخرج لحناً؛ إنها مشاعر وأحاسيس تحتاج إلى وقت ليخرج اللحن إلى النور»، قد وصل إلى 1800 لحن، ليعلّق رئيسها مدحت العدل لـ«الشرق الأوسط» بالتأكيد على أنّ «الاحتفاء بالرموز الفنية من (الهيئة العامة للترفيه)، كاحتفالية الموجي، أمر غاية في الرقي ويدعو للفخر»، موجهاً التقدير للجميع في المملكة على النهضة الفنية الكبيرة.
واستكمالاً لسلسلة الفعاليات الفنية، فإنّ مدينة جدة على موعد مع حفلين للفنان تامر عاشور يومي 5 و6 مايو (أيار) الحالي، بجانب حفل الفنانَيْن محمد فؤاد وأحمد سعد نهاية الشهر عينه. وعن المشاركات المصرية في الفعاليات السعودية، يشير الناقد الموسيقي المصري محمد شميس، إلى أنّ «القائمين على مواسم المملكة المختلفة يحرصون طوال العام على تقديم وجبات فنية ممتعة ومتنوعة تلائم جميع الأذواق»، مؤكداً أنّ «ما يحدث عموماً في السعودية يفتح المجال بغزارة لحضور الفنانين والعازفين والفرق الموسيقية التي ترافق النجوم من مصر والعالم العربي». ويلفت شميس لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّ «هذا التنوع من شأنه أيضاً إتاحة مجال أوسع للمبدعين العرب في مختلف الجوانب، التي تخصّ هذه الحفلات، وفرصة لاستقطاب الجمهور للاستمتاع بها بشكل مباشر أو عبر إذاعتها في القنوات الفضائية أو المنصات الإلكترونية»، معبّراً عن سعادته بـ«الحراك الفني الدائم، الذي تشهده المملكة، بخاصة في الفن والثقافة وتكريم الرموز الفنية والاحتفاء بهم».
وشهد «مسرح أبو بكر سالم» في الرياض قبيل رمضان، الحفل الغنائي «ليلة صوت مصر»، من تنظيم «الهيئة العامة للترفيه»، احتفالاً بأنغام، إلى تكريم الموسيقار المصري هاني شنودة في حفل بعنوان «ذكريات»، شارك في إحيائه عمرو دياب وأنغام، بحضور نخبة من نجوم مصر، كما أعلن منذ أيام عن إقامة حفل للفنانة شيرين عبد الوهاب بعنوان «صوت إحساس مصر».
مسرحياً، يستعد الفنان المصري أحمد عز لعرض مسرحيته «هادي فالنتين» في موسمها الثاني، ضمن فعاليات «تقويم جدة» على مسرح «سيتي ووك‬» بين 3 و6 مايو (أيار) الحالي. وعنه كان قد قال في حوار سابق مع «الشرق الأوسط»، إنّ «الحراك الثقافي الذي تشهده المملكة يفتح آفاقاً وفرصاً متنوعة للجميع لتقديم المزيد من الفن الراقي».