سعيد عقل.. رجل وحيد فوق حصانه

سعيد عقل.. رجل وحيد فوق حصانه
TT

سعيد عقل.. رجل وحيد فوق حصانه

سعيد عقل.. رجل وحيد فوق حصانه

سعيد عقل ليس شاعرا مجيدا فقط. إنه من تلك الشخصيات التي يقال عنها إنها أكبر من الحياة، الشخصيات التي يتجاوز تأثيرها حقل اختصاصها، ويتسع مجالها الذهني والثقافي ليترك تأثيرا منه في كل شأن ليس مرتبطا، كما يبدو من السطح، باشتغالاته الأساسية، متجاوزا بذلك صفته المهنية. وغالبا ما تتصور مثل هذه الشخصيات أن هناك «رسالة» منوطة بها، وأنها جاءت إلى الحياة لتحقيق مثل هذه الرسالة. إنه عبء كبير تثقل هذه الشخصيات أنفسها به، وما يصاحبه من انفصام تراجيدي بين الواقع والتصور.
انسجاما مع هذا الدور «المتصوّر»، دعا سعيد عقل إلى ما سماه «القومية اللبنانية»، إلى «تثوير» اللغة والأبجدية، فبدأ الكتابة بالعامية اللبنانية، معتبرا إياها لغة مستقلة، لكنه «استنبط» لها أبجدية خاصة مستوحاة من اللاتينية التي اعتبرها من تنويعات اللغة الفينيقية. والمعروف أنه أصدر ديوان شعر بـ«اللغة اللبنانية» سماه «خُماسيّات» عام 1978. وهذا ليس جديدا على صاحب «رندلى». فقد دعا بعد سنة من جلاء القوات الفرنسية من لبنان عام 1947، إلى إعلان زحلة، حيث ولد عام 1912، جمهورية مستقلة!
لبنان خيالي أراده سعيد عقل، وأمة خيالية، ولغة خيالية، منطلقا من رؤيا تملكته، ورسالة لم يبلغه بها أحد، ولكن كلف بها نفسه. والغريب أن سعيد عقل، بعكس شخصيات كثيرة في التاريخ الإنساني مسكونة بـ«الهاجس الرسالي»، . لم يعان من صراع تراجيدي بين ما يريد وما يريده الواقع، بين المثال، كما يتصوره، وحقائق الحياة الصلدة.
ظل عقل سعيدا حقا في مملكته، منسجما مع ذاته وما تصوغ من رؤى شبه دينية، عمقها بقراءاته في اللاهوت المسيحي، غير مكترث تقريبا بالعالم الذي يدور من حوله، وذهب بذلك بعيدا فأصبح الخاص المثالي نقيضا، بل عدوا، للعام.
ولعل أصرخ مثال على ذلك، إسقاطه دور «المخلّص» على الجيش الإسرائيلي، الذي سماه «الإسرائيلياني»، الذي احتل بلده عام 1982. واعتبر الاحتلال الإسرائيلي كما كتب بالعامية اللبنانية، الذي سماها لغة نقية، «تخليصا للعالم كله من رأس الحية، الذي اسمه الإرهاب، ومن الوسخة التي اسمها العنصرية الدموية الفلسطينية».
شعريا، ظل سعيد عقل مخلصا لجوهر هذه الرؤية، وإن اختلف الشكل. لم تجرفه التيارات الكبيرة التي مر بها الشعر العربي في تطوره، ولم تتغير رؤياه بتغير الواقع العربي والعالمي. ظل ينوع على ديوانه «رندلى»، وبالكاد خرج من معطفه. كل تلك الثورة الكبيرة التي جاء بها الشعر الحر، لم تمسس جوانبه إلا بشكل عابر. ظل وحيدا على حصانه، يدور ويدور في ميدانه. ولعل ذلك يذكرنا بشاعر آخر ظل هو أيضا يعارك قرنا كاملا من دون أن تهتز أركان قصيدته، وتخرج من إطارها الشكلي، وهو محمد مهدي الجواهري، مع اختلاف الرجلين في الرؤية والمنهج الشعري والفكري والحياتي.
نعم، كان سعيد عقل ظاهرة بمعنى من المعاني، وقد شغل الدنيا، اللبنانية في الأقل، بمواقفه الغريبة، التي غطت للأسف على الشاعر، وهو أفضل ما في سعيد عقل.
ونعتقد أن هذا هو ما سيبقى من الرجل.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».