قبل أن يبدأ فيروس جائحة «كوفيد - 19» انتشاره العالمي كالنار في الهشيم، وتتجاوز إصاباته المؤكدة 6 ملايين، ويقترب عدد الوفيّات الناجمة عنه من 375 ألفاً، ربعها تقريباً في الولايات المتحدة، كانت أنظار العالم مشدودة إلى مقاطعات الشمال الإيطالية ومدنها الجميلة كالبندقية وميلانو، وأيضاً إلى العاصمة الإسبانية مدريد.
كان الناس يتابعون بقلق وذهول زحف الجائحة الفتّاكة، الذي هزّ اثنين من أفضل النظم الصحّية في العالم، وتساقط مئات يوميّاً ضحايا لها، بعدما شلّت الحياة والحركة الاجتماعية، ووضعت الاقتصاد في حال من الغيبوبة العميقة... ما زال يجهد إلى اليوم للنهوض منها.
إسبانيا، باتت اليوم البلد الخامس في العالم من حيث عدد الإصابات المؤكدة، خلف الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا وبريطانيا، والخامسة أيضاً بعدد الوفيّات الناجمة عن الفيروس التي بلغت حتى الآن 28 ألفاً. غير أنه لم تسجّل أي وفاة خلال الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع الحالي في إسبانيا، بعدما بدأت عودتها التدريجية إلى الحياة الطبيعية.
كذلك تنهض إيطاليا، التي ضربتها الجائحة بقسوة شديدة، وحطّمت معنوياتها في المراحل الأولى، اليوم من كابوس فيروس «كوفيد - 19» الذي أنهك نظامها الصحّي، وترك اقتصادها في حال من الإغماء السريري.
تدابير العزل التي اتخذتها الحكومة الإسبانية بعد إعلان حالة الطوارئ في 14 مارس (آذار) الفائت كانت الأكثر صرامة، بعد تلك التي اتخذتها السلطات الصينية في مدينة ووهان، التي هي نقطة الانتشار الأولى لجائحة «كوفيد - 19». وحتى منتصف أبريل (نيسان) عاشت إسبانيا، وبخاصة إقليم العاصمة مدريد، كابوساً صحّياً وضع مستشفياتها وطواقمها الطبية على شفا الانهيار، وغرقت البلاد في حال من الإحباط والخوف أمام هذا الهجوم من عدّو مجهول لا تراه وليست جاهزة لمواجهته.
منذ اليوم الأول كانت مدريد البؤرة الرئيسية للانتشار في إسبانيا حيث سُجّلت فيها حتى الآن 71 ألف إصابة، وقارب عدد وفيّاتها 9 آلاف، يليها إقليم كاتالونيا (أو قطالونية، وعاصمته برشلونة) حيث وصل عدد الإصابات إلى 57 ألفاً، والوفيات إلى 6 آلاف. ولقد سُجّل أكثر من نصف الوفيّات الإسبانية في دور العناية بالمسنّين والعجزة؛ حيث بلغت نسبة الوفيّات الإجمالية بين مَن تجاوزوا العقد السابع من عمرهم 95 في المائة.
بدايات الاستقرار فالتراجع
في بداية النصف الثاني من أبريل الماضي، بدأت نسبة ارتفاع عدد الإصابات الجديدة تستقرّ، وتتراجع من 42 في المائة إلى أقل من 1 في المائة، وأخذ عدد الوفيّات اليومية ينخفض دون المائة بعدما كان قد قارب الألف في ذروة الأزمة. وبعدما ثبت هذا المنحى طوال أيام، أعلنت الحكومة في 29 أبريل خطتها التدريجية لرفع تدابير الإغلاق، اعتباراً من 11 مايو (أيار)، على أن تمتدّ حتى نهاية يونيو (حزيران) الحالي موزّعة على 4 مراحل، وفقاً للظروف الصحية والوبائية في الأقاليم.
ورغم الضغوط الهائلة التي كانت تتعرّض لها الحكومة المركزية في مدريد من القطاعات الاقتصادية، خاصة من قطاع السياحة الذي يشكّل 13 في المائة من إجمالي الناتج القومي، ومن الحكومات الإقليمية التي تريد استرجاع الصلاحيات التي انتقلت منها إلى الحكومة المركزية في أعقاب إعلان حالة الطوارئ، قرّرت مدريد فرض شروط صارمة للانتقال بين المراحل. وهكذا، منعت التواصل بين المقاطعات وقرّرت إبقاء الحدود الخارجية مقفلة حتى نهاية يونيو. وكان صندوق النقد الدولي قد توّقع تراجعاً في إجمالي الناتج المحلي الإسباني بنسبة 8 في المائة في نهاية العام الحالي وارتفاع نسبة البطالة إلى 20.8 في المائة، وهو وضع لم تشهده البلاد منذ بداية الحرب الأهلية في العام 1936.
وحقاً، بدأت المراحل الأربع للعودة التدريجية إلى الوضع الطبيعي الجديد في أجواء من التوتّر السياسي غير المسبوق، إذ تطالب المعارضة باستقالة الحكومة المركزية، وتتهمها بسوء الإدارة والتدبير و«ارتكاب جرائم في حق المواطنين»، وتهدد بإحالة أعضائها على القضاء. وهو ما يجبر رئيس الوزراء بيدرو سانتشيز على التفاوض حول كل خطوة لتأمين الغالبية الكافية في البرلمان؛ حيث يعتمد على دعم محدود جداً مرهون بتأييد أحد الأحزاب الانفصالية في كاتالونيا.
شروط المرحلة الأولى
حالياً، أكثر من نصف الأراضي الإسبانية يخضع لشروط المرحلة الأولى، باستثناء الجزر الصغرى في أرخبيل الكناري التي بدأت مباشرة ضمن المرحلة الثانية لقلّة انتشار الجائحة وتدنّي عدد الإصابات فيها. ويُسمح خلال الفترة الأولى بفتح المتاجر التي لا تزيد مساحتها عن 400 متر مربع، من دون موعد مسبق وبثلث قدرتها الاستيعابية. كذلك تفتح المطاعم لخدمة التوصيل إلى المنازل ومقاهي الأرصفة شرط ألا تتجاوز ثلث قدرتها الاستيعابية. ويسمح بمزاولة الأنشطة الرياضية الفردية وللرياضيين المحترفين بالعودة إلى مراكز التدريب المغلقة. وتستأنف المراكز التعليمية والجامعية والمكتبات العامة نشاطها، وأيضاً المتاحف ودور العبادة ولكن بثلث قدرتها الاستيعابية.
المرحلة الثانية تنطوي على فتح المتاجر الصغيرة أبوابها، لكن ضمن تدابير صارمة تحول دون الاحتشاد، وكذلك مقاهي الأرصفة المنتشرة على نطاق واسع في إسبانيا. ويُسمح بالانتقال داخل المقاطعات والاجتماعات العائلية شرط ألا تزيد عن 10 أشخاص، كما يُسمح بأنشطة الصيد والقنص الترفيهي، وتفتح معارض السيارات والمشاتل الزراعية، وتستأنف الفنادق نشاطها ضمن تدابير وقائية وصحيّة شديدة تمنع الاختلاط ضمنها في الأماكن المشتركة، وتستعيد دور العبادة أنشطتها بنسبة 30 في المائة من قدرتها الاستيعابية.
في المرحلة الثالثة، يُسمح بالاجتماعات العائلية وبين الأصدقاء على ألا تتجاوز 15 شخصاً، وتفتح المراكز التجارية، وترتفع نسبة الاستيعاب في الفنادق والمقاهي إلى 40 في المائة، مع فرض تدابير التباعد والإجراءات الوقائية الإلزامية للعاملين والموظفين. أما الملاهي الليلية فتبقى مقفلة، بينما يُسمح للمدارس ودور الحضانة باستقبال الأطفال دون سن السادسة الذين يضطر أهلهم للذهاب إلى العمل.
مع المرحلة الرابعة، تفتح جميع المحلات والمجمعات التجارية أبوابها، لكن بنسبة لا تتجاوز نصف قدرتها الاستيعابية، مع التزام مسافة التباعد الاجتماعي التي تبقى مفروضة على جميع الأنشطة الأخرى. وفي نهاية هذه المرحلة سيُسمح بالانتقال بين المناطق والمقاطعات بحرية تامة.
الحكومة تعهدت بمراجعة هذه التدابير وتعديلها عند الاقتضاء، وفقاً لبيانات تطور الجائحة والوضع الصحي في المناطق، وأن تعلن في الأسبوع الأخير من يونيو تفاصيل المرحلة التالية ومواقيتها. ومن الإجراءات التي يرتقّبها الإسبان والأجانب، وقطاع السياحة بشكل خاص، تلك التي تتعلق بالسفر من وإلى الخارج، خاصة أن عدد السياح الأجانب الذين يزورون إسبانيا سنوياً يزيد عن 80 مليوناً.
وراهناً تتعرّض الحكومة الإسبانية لضغوط من شركائها الأوروبيين، وخصوصاً من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا، التي يملك كثير من مواطنيها منازل في إسبانيا يمضون فيها عطلاتهم، لفتح الحدود قبل الموعد الذي أعلنت عنه في مطلع يوليو (تموز) المقبل.
الجائحة في إيطاليا
إيطاليا، كما هو معروف، كانت المنصّة الأولى لانتشار «كوفيد - 19» في أوروبا، ولقد دفعت مقاطعاتها الشمالية الغنيّة ثمناً بشرياً واقتصادياً باهظاً. إلا أنها بدورها باشرت أخيراً برفع تدابير الإغلاق ضمن خطة سريعة ينتظر أن تنتهي، ويرى فيها كثيرون قدراً كبيراً من المجازفة بعودة الجائحة في موجة ثانية، بعدما تجاوز عدد الوفّيات 33 ألفاً حتى الآن، نصفها في مقاطعات الشمال الثلاث؛ لومبارديا وفينيتو وإميليا رومانيا.
حتى أواخر شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، كانت تقارير منظمة الصحة العالمية والمركز الأوروبي للوقاية من الأوبئة ومكافحتها تشير إلى أن خطر تفشّي ما بات جائحة حقيقية في أوروبا ما زال ضعيفاً، وذلك بعد ظهور الفيروس في مدينة ووهان الصينية. في تلك الأثناء، كانت هناك 3 رحلات جوية مباشرة أسبوعياً تربط بين مدينة ووهان ومدينة برغامو، التي تعتبر من المراكز الصناعية الرئيسية في الشمال الإيطالي التي تعتمد بشكل كبير على المصانع الصينية لتزويدها بالقطع والمعدات اللازمة لإنتاجها.
بداية التنبّه والتصدّي
الوضع تغير بعد رصد الأجهزة الصحية أوّل إصابتين داخل الأراضي الإيطالية لسياح صينيين في أحد فنادق العاصمة روما، في 27 يناير الماضي. وعندها أمر وزير الصحة، في اليوم التالي، بوقف الرحلات الجوية المباشرة من وإلى الصين.
هذا الأمر أثار احتجاجات شديدة في الأوساط الصناعية والاقتصادية والسياسية الإيطالية، وصلت إلى بروكسل؛ حيث استغربت المفوضية الأوروبية تلك الخطوة، واستفسرت من الوزير عن أسبابها. ولكن عُلم بعد ذلك أنه رغم قرار وقف الرحلات الجوية بين الصين وإيطاليا بقيت تسير رحلات شحن خاصة بين برغامو وووهان حتى منتصف فبراير (شباط) الماضي من دون علم السلطات المركزية الإيطالية. حتى بعدما بدأت ملامح خطورة «كوفيد - 19» تظهر بوضوح في الصين، حيث تجاوز عدد الإصابات 12 ألفاً بنهاية يناير. وعندها أعلنت الحكومة الإيطالية حالة الطوارئ الأولى في أوروبا لمدة 6 أشهر.
في 23 فبراير، أعلنت إيطاليا 10 بلدات في الشمال، بالقرب من مدينة ميلانو (عاصمة لومبارديا) «منطقة حمراء» معزولة كلياً تحت إشراف الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، كما أعلنت محيطها الجغرافي «منطقة صفراء» يخضع الدخول إليها والخروج منها لشروط صارمة.
ثم في 8 مارس (آذار) الماضي، أصبحت مقاطعات الشمال كلها «منطقة حمراء» معزولة عن بقية البلاد، في أعقاب تفشي الفيروس فيها بكثافة. وبعد ذلك بـ3 أيام أعلنت الحكومة العزل التام في جميع المناطق، وقرّرت وقف جميع الأنشطة التجارية والصناعية، باستثناء مخازن الأغذية والصيدليات وأكشاك بيع الصحف.
منذ ذلك التاريخ، أصبحت أنظار العالم مشدودة إلى المشهد الإيطالي، الذي كان تتساقط فيه الضحايا بمئات كل يوم، ويخرج المواطنون كل ليلة إلى الشرفات يعزفون الموسيقى وينشدون أغاني الأوبرا لرفع المعنويات المتهاوية أمام زحف الفيروس الصامت. وبالتوازي، انتشرت صور الشوارع الفارغة والنعوش المحمولة خلال الليل في شاحنات الجيش إلى المدافن التي ضاقت بقبورها، تنذر بما كان ينتظر العالم من الجائحة التي شلّت كثيراً من حواضر العالم وأغناها.
مرحلة الرفع التدريجي
كحال إسبانيا، بعد 55 يوماً من العزل التام، وتراجع مطّرد في نسبة الإصابات الجديدة والوفيات اليومية، دخلت إيطاليا مرحلة الرفع التدريجي لتدابير الإغلاق، التي اكتملت أخيراً، يحدوها الحرص على إنقاذ الموسم السياحي الذي تعرّض حتى الآن لخسائر تقدّر بما يزيد عن 43 مليار يورو.
القرار قضى بإبقاء المقاهي والمطاعم مقفلة حتى نهاية المرحلة، بمطلع يونيو الحالي، ويفرض استخدام الكمّامات والقفازات في الأماكن العامة المغلقة والمتاجر ووسائل النقل والتزام مسافة التباعد الاجتماعي. ويستثنى من هذه التدابير الأطفال دون السادسة، والأشخاص الذين يواجهون صعوبات بسبب استخدام الكمامات لفترة طويلة. هذا، وسيسمح بزيارة الأقارب والأصدقاء، والانتقال داخل المناطق، لكن ليس بينها سوى لأسباب العمل أو الضرورة القصوى والزيارات الصحية والعائلية المرضيّة. أيضاً سيسمح بممارسة الرياضات الفردية والتنزّه بعيداً عن المنزل، وتفتح الحدائق العامة أبوابها مع حظر التجمعات فيها. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ 18 مايو الماضي صار بإمكان المطاعم والمقاهي أن تستأنف خدمة التوصيل إلى المنازل، كما فتحت المتاحف وصالات العرض الفني أبوابها.
وفي المقابل، من المواضيع التي أثارت جدلاً واسعاً في الفترة الأخيرة فتح دور العبادة، التي سُمح لها باستئناف الصلوات والطقوس الدينية بالتزام تدابير الوقاية والتباعد، وبنسبة 50 في المائة من قدرتها الاستيعابية. وللعلم، توجد في العاصمة الإيطالية روما وحدها 362 كنيسة وكاتدرائية.
التحفظ مستمر
أخيراً، اللجنة العلمية التي تستند الحكومة الإيطالية إلى مشورتها لإدارة الأزمة أبدت تحفظاتها على خطة الحكومة، ورأت فيها مجازفة وتسرّعاً قد تكون كلفته باهظة. بيد أن الحكومة اضطرت للرضوخ إلى ضغوط القطاعات الاقتصادية، وقررت تفويض السلطات الإقليمية صلاحيات إدارة هذه المرحلة لرفع الضغوط السياسية والاقتصادية عنها، وأكدت أنها جاهزة للعودة إلى إجراءات العزل في أي لحظة إذا ما عادت الجائحة في موجة ثانية. كذلك قررت الحكومة التعاقد من 60 ألف متطوع من العاطلين عن العمل ليسهروا في الشوارع والأماكن العامة على إنفاذ تدابير الوقاية والسلامة والتباعد الاجتماعي بعد آلاف الانتهاكات التي سُجّلت في المراحل السابقة.