ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

صلاحيات واسعة لـ«المبعوث الرئاسي الخاص» الروسي في سوريا

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!
TT

ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القاضي بتعيين السفير الروسي لدى دمشق ألكسندر يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لشؤون العلاقة مع سوريا، تساؤلات ونقاشات كثيرة، حول مغزى هذا التوجه ودلالات توقيته.
وتزايدت التكهنات والتأويلات، خصوصاً، لدى أطراف في المعارضة السورية رأت في التطور تجسيداً لما وصف «الانتداب الروسي على سوريا»، وتكريساً لإمساك موسكو تدريجياً بكل مفاتيح القرار السياسية والاقتصادية في البلاد بشكل مباشر. وهكذا، انهالت التسميات على السفير من «المندوب السامي» إلى «بول بريمر الروسي». وقد يكون الوصف الأكثر جاذبية هو ذلك الذي رأى أن يفيموف غدا «الظل الدائم» في سوريا لـ«القيصر».

ألكسندر يفيموف، السفير الذي بات بإمكانه أن يتحدث باسم الرئيس الروسي وهو يخاطب الجهات الرسمية في بلد اعتماده، لم تكن حدود مهامه عندما عُيّن سفيراً لدى دمشق قبل سنتين، تفتح على تكهّنات بأنه سيلعب دوراً مفصلياً في وقت لاحق.
فالدبلوماسي الهادئ الذي تدرج في مناصب عدة، انشغل في غالبية فترة خدمته الوظيفية بالعمل خلف الكواليس، على ملفات معقدة لم يظهر فيها بشكل مباشر. ولذلك تشير معطيات إلى أنه انخرط في سنوات سابقة بمهام تتعلق بالوضع في العراق وفي ليبيا، رغم أنه لم يخدم في هذين البلدين بشكل مباشر.
ولد ألكسندر فلاديميروفيتش يفيموف عام 1958، وكان عمره 22 سنة عندما تخرّج في معهد العلاقات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية. وهذه المؤسسة الأكاديمية المرموقة خرّجت، بالمناسبة، عدداً كبيراً من ألمع الدبلوماسيين الروس، بينهم الراحل يفغيني بريماكوف، ووزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف، ونائب الوزير ميخائيل بوغدانوف وغيرهم، ولم يكن من السهل الحصول على مقعد دراسي فيها، خصوصاً في الحقبة السوفياتية.

دبلوماسي مهني

في عام 1980 بدأ يفيموف حياته المهنية في المؤسسة الدبلوماسية. ويبدو أنه مارس كثيراً من المهام التي تدرج فيها في مواقع مختلفة في أروقة وزارة الخارجية بموسكو، قبل تعيينه ملحقاً في السفارة الروسية بالعاصمة الأردنية عمّان عام 2004، وبقي هناك حتى عام 2008. كانت تلك فترة صعبة ومعقدة نظراً لتطورات الوضع في العراق بعد إطاحة نظام الرئيس صدام حسين، مع كل انعكاسات ذلك على الأردن والمنطقة عموماً.
بيد أن هذه الفترة على صعوبتها، أكسبت يفيموف خبرة طيبة وضعته مباشرة بعد العودة إلى موسكو على رأس قسم في دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الروسية. وفي هذا الموقع أمسك بملفات عدد من البلدان، قبل أن يغدو نائباً لرئيس الدائرة بين عامي 2010 و2013.
ومن ثم، في السنوات الخمس اللاحقة، برز اسم ألكسندر يفيموف كسفير مفوّض فوق العادة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل على تطوير العلاقات الروسية - الإماراتية في المجالات السياسية والاقتصادية، في وقت نجح البلدان في تحقيق تقارب كبير وتوسيع آفاق التعاون بشكل غير مسبوق. وهذا الأمر انعكس على قرار الرئيس فلاديمير بوتين بمنح السفير وسام شرف لـ«تفانيه في تعزيز السياسة الخارجية الروسية» في العام 2017.

الانتقال إلى سوريا

لذلك جاء منطقياً، أن يتقرّر نقل يفيموف في العام التالي، بعد انتهاء مهامه في الإمارات مباشرة إلى سوريا، البلد الذي بات يحظى بأهمية كبرى وأولوية خاصة على رأس سلم اهتمامات موسكو في السياسة الخارجية.
وبالفعل، منذ تسلمه مهامه سفيراً لدى دمشق، عمل يفيموف على ترتيب العلاقة في مرحلة صعبة ومعقّدة. فمن جانب، سرعان ما جرى الإعلان عن انتهاء «المرحلة النشطة» من العمليات العسكرية الروسية، ومع أن بعض البؤر الساخنة بقيت في البلاد، لكن أمكن تثبيت وقف النار تدريجياً واستعادت غالبية المدن السورية حياتها الطبيعية تقريباً. ولكن من جانب آخر، وضع ذلك روسيا أمام استحقاق إطلاق العملية السياسية وإنجاحها، فضلاً عن الاستحقاق الأهم على المستوى الداخلية المتعلق بالنهوض بالاقتصاد المتهاوي... وبين المهام الأساسية التي طرحت في تلك الفترة حشد تأييد دولي لفكرة روسيا بضرورة إطلاق عملية واسعة لإعادة الإعمار وتسهيل عودة اللاجئين.
ولكن هذه المهام لم تكن بالمعنى المباشر ملقاة على عاتق يفيموف. ذلك أنه بجانب وجود ممثلين عن القيادة العسكرية بشكل مباشر في البلاد، كان هناك حضور دائم ولافت للمبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف ونائب الوزير سيرغي فيرشينين في كل الملفات المطروحة على الصعيد الدبلوماسي، بما في ذلك على صعيد تنسيق العمل في إطار «مسار آستانة» والحوارات الدولية والإقليمية المتعلقة بسوريا.
مع هذا، بدا أنه كان للسفير الروسي لدى دمشق الإسهام الأكبر في ترتيب العلاقة الثنائية، وتنشيط وجود عدد من الشركات الروسية، فضلاً عن التوصل إلى توقيع عشرات الاتفاقات ومذكرات التعاون بين الجهات الروسية والسورية المختلفة.
على هذه الخلفية، تحديداً، تم النظر إلى قرار بوتين بتعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً»، على أنه يطلق «مرحلة جديدة» في تعامل موسكو مع العلاقة مع الحكومة السورية. إذ ما كان بوتين يحتاج إلى وجود «مبعوث رئاسي خاص» في سوريا، مع وجود لافرنتييف مبعوث الكرملين لشؤون التسوية، ومع وجود بوغدانوف - وهو مبعوث الرئيس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -، وأيضاً، مع وجود فيرشينين مبعوث الخارجية الروسية إلى المنطقة. هذا، في واقع الأمر، واحد من المؤشرات التي دفعت إلى إطلاق تكهنات كثيرة حول المهام التي سيكلّف بها يفيموف في منصبه الجديد.
أهمية التوقيت

أيضاً لعب اختيار التوقيت دوراً في زيادة هذه التكهنات. إذ جاء قرار بوتين اللافت، في سياق تطورات متسارعة، سبقت وأعقبت هذا التعيين، كان أبرزها الحملات الإعلامية الصاخبة التي وجهت انتقادات قاسية للنظام، واتهمته بالفشل في إدارة البلاد، و«الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام». بل، وذهب بعضها إلى الحديث عن فقدان رئيس النظام بشار الأسد القدرة على التحكم في الأمور «بسبب اتساع رقعة الفساد والفاسدين من حوله»، فضلاً عن تدهور شعبيته إلى مستويات لا تؤهله للنجاح في أي انتخابات مقبلة.
وتبع ذلك، حملة مضادة شنّتها أطراف سورية موالية للنظام اتهمت فيها روسيا بأنها «حققت مكاسب كبرى» في سوريا. وبأنها لم تنقذ النظام كما تقول، بل يعود الفضل في «إنقاذ سوريا من الإرهاب والمؤامرة الكونية» إلى الإيرانيين.
تزامن كل ذلك مع ظهور الخلافات الداخلية بين بعض مكوّنات النظام في دمشق إلى السطح، وبدا أن البلد مقبل على «تصفية حسابات داخلية» لا تقتصر في تداعياتها على مسائل الفساد والملفات الاقتصادية.
في هذه الظروف برز عنصران ضاغطان. تمثل الأول في تفاقم المشاكل المعيشية والاقتصادية بما انعكس على ملايين السوريين، ولقد حذّرت أوساط في موسكو من أن يؤدي ذلك إلى انفجار داخلي قريب ما لم تتخذ خطوات عاجلة وحاسمة.
وبرز العنصر الضاغط الثاني مع اقتراب موعد دخول «قانون قيصر» الأميركي حيز التنفيذ، مع كل التداعيات السلبية التي سترمي بثقلها بقوة على القطاع الاقتصادي والشركات السورية والأجنبية (بما فيها الروسية) المتعاملة مع سوريا. بكلام آخر، بدا أن المرحلة المقبلة، ستكون حاسمة على مختلف المستويات، ويضاف إلى ما سبق، أن موسكو غدت في حاجة ماسة إلى دفع مسار التسوية السياسية؛ لأن الإنجازات الميدانية التي تحققت على الأرض خلال سنوات، قد تواجه هزات ضخمة بسبب الاستحقاقات المقبلة.
هكذا حمل توقيت التعيين دلالات أساسية إلى عزم موسكو العمل بشكل وثيق ومباشر في الملفات الداخلية السورية، وفي الملفات المحيطة بسوريا أيضاً. ولذا لم يكن غريباً أن يترافق قرار تعيين يفيموف تقريباً مع توجه روسي لتوسيع الحضور العسكري وتعزيز وضع القوات الروسية في سوريا... عبر الأمر الرئاسي لوزارتي الخارجية والدفاع بالعمل مع دمشق لتوقيع «بروتوكول» إضافي على اتفاقية الوجود العسكري الروسي في سوريا.

ميزات ومهام للمنصب الجديد

التطور الأساسي الذي أحدثه تعيين يفيموف أنه بات لدى روسيا شخصية تلعب دور «ممثل خاص» عن الرئيس بوتين، قادر على الحديث مع الجهات السورية المختلفة باسمه مباشرة من دون المرور بالقنوات الدبلوماسية. هذا الدور يحمل ثقلاً وقوة لم تمنح لسفير سابق. وفي وقت سابق قال مصدر روسي لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا يعكس أهمية المرحلة المقبلة في سوريا التي تتطلب ديناميكية ميدانية دبلوماسية في اتخاذ قرارات فورية على الأرض مباشرة». وزاد قائلاً «إن كون يفيموف ممثلاً للرئيس الروسي فهو يعني أنه سيكون أقدر على تنفيذ سياسة لا تسمح لأي طرف سوري بالتلاعب والمماطلة... وهذا يأتي بالتوافق على أنه حان الوقت لبدء عملية الانتقال السياسي والتغييرات في سوريا».
الحديث هنا عن الاستحقاقات الداخلية وضرورات مواجهة الفساد والفوضى والترهل والاستعداد للتعامل مع «قانون قيصر». لكن في الوقت ذاته هناك إشارة إلى مدى استعداد موسكو لإطلاق مرحلة جديدة من التعامل مع ملف التسوية في سوريا، تتضمن الشروع في وضع أسس لتنفيذ كامل للقرار الدولي 2254 بعناصره الثلاثة التي اشتملت الانتقال السياسي والإصلاح الدستوري والانتخابات.
كانت موسكو قد ركزت جهودها خلال المرحلة الماضية على المسار الدستوري بصفته المدخل لإطلاق عملية التسوية، لكن هذه الجهود اصطدمت بعراقيل عدة، بينها «تعنت المتشددين من طرفي الحكومة والمعارضة»، وفقاً لتعليق خبير روسي. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن السفير يفيموف سيكون مكلفاً ملف التسوية في منصبه الجديد؛ لأن هذا الملف يبقى بيد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف الذي يواصل تنسيق الجهود في إطار «مسار آستانة» والاتصالات مع الأطراف المختلفة المعنية، بما فيها الأمم المتحدة ومبعوثها إلى سوريا غير بيدرسن. لكنه يعني أن مركز القرار الروسي الأساسي في سوريا انتقل من قاعدة حميميم إلى السفارة في دمشق، بكل ما يعني ذلك من بدء المرحلة الثانية من التدخل الروسي في سوريا بالبناء على العمليات العسكرية التي بدأت في 2015، والانتقال إلى مرحلة الإعمار سياسياً واقتصادياً.
لقد مهد يفيموف لتحركه الجديد بتوجيه إشارة يقلل فيها من حدة التكهنات التي أثيرت بسبب الحملات الإعلامية، فهو قال إن «الأحاديث والتلميحات المتداولة حالياً حول وجود خلافات في العلاقات الروسية - السورية لا أساس لها»، مضيفاً أن العلاقات «أقوى اليوم مما كانت عليه في أي وقت مضى».
بهذا المدخل يتأهب السفير – المبعوث الرئاسي للقيام بمهامه الجديدة في سوريا.
ومع الشق السياسي، المتعلق بفرض الرؤية الروسية على الأطراف السورية، وضبط صراعاتها التي يمكن أن تؤثر على مصالح روسيا، هناك الشق الاقتصادي الذي لا يقل أهمية، ونجاح السفير سابقاً، في مهام تعزيز التعاون الروسي اقتصادياً وتجارياً مع دولة الإمارات تضعه في تسميته الجديدة في مكان مناسب لأن المرحلة المقبلة ستشهد استحقاقات اقتصادية مهمة، تبدأ من مواجهة تداعيات «قانون قيصر» ولا تنتهي بإطلاق عمليات إعادة الإعمار.
يذكر أنه في تاريخ روسيا الحديث كان الكرملين لجأ مرة واحدة في السابق إلى تسمية أحد السفراء «مبعوثاً رئاسياً خاصاً». وحدث ذلك في عام 2001 عندما عيّن فيكتور تشيرنوميردين، رئيس الوزراء السابق آنذاك، سفيراً فوق العادة لدى أوكرانيا، مع تسميته «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع البلد الجار. واكتسب هذا التعيين أهمية فائقة نظراً لإعطاء موسكو أولوية خاصة للعلاقة مع أوكرانيا، في ظل احتدام المنافسة مع الغرب الذي سعى إلى جر الجمهورية السوفياتية السابقة إلى معسكر العداء لروسيا.
بناءً عليه، يأتي تعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً» ليكتسب أيضاً أهمية خاصة مماثلة حالياً، في سوريا، لكن من منظور مختلف بعض الشيء، يتعلق بالدرجة الأولى بالتعامل مع الاستحقاقات الداخلية بعد بروز التباينات بين أطراف السلطة، فضلاً عن أن سوريا تقف أمام استحقاقات كبرى؛ ما يتطلب أن تكون لدى السفير هذه الصلاحيات الواسعة لاتخاذ القرارات على الأرض وفقاً للحاجة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.