ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

صلاحيات واسعة لـ«المبعوث الرئاسي الخاص» الروسي في سوريا

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!
TT

ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القاضي بتعيين السفير الروسي لدى دمشق ألكسندر يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لشؤون العلاقة مع سوريا، تساؤلات ونقاشات كثيرة، حول مغزى هذا التوجه ودلالات توقيته.
وتزايدت التكهنات والتأويلات، خصوصاً، لدى أطراف في المعارضة السورية رأت في التطور تجسيداً لما وصف «الانتداب الروسي على سوريا»، وتكريساً لإمساك موسكو تدريجياً بكل مفاتيح القرار السياسية والاقتصادية في البلاد بشكل مباشر. وهكذا، انهالت التسميات على السفير من «المندوب السامي» إلى «بول بريمر الروسي». وقد يكون الوصف الأكثر جاذبية هو ذلك الذي رأى أن يفيموف غدا «الظل الدائم» في سوريا لـ«القيصر».

ألكسندر يفيموف، السفير الذي بات بإمكانه أن يتحدث باسم الرئيس الروسي وهو يخاطب الجهات الرسمية في بلد اعتماده، لم تكن حدود مهامه عندما عُيّن سفيراً لدى دمشق قبل سنتين، تفتح على تكهّنات بأنه سيلعب دوراً مفصلياً في وقت لاحق.
فالدبلوماسي الهادئ الذي تدرج في مناصب عدة، انشغل في غالبية فترة خدمته الوظيفية بالعمل خلف الكواليس، على ملفات معقدة لم يظهر فيها بشكل مباشر. ولذلك تشير معطيات إلى أنه انخرط في سنوات سابقة بمهام تتعلق بالوضع في العراق وفي ليبيا، رغم أنه لم يخدم في هذين البلدين بشكل مباشر.
ولد ألكسندر فلاديميروفيتش يفيموف عام 1958، وكان عمره 22 سنة عندما تخرّج في معهد العلاقات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية. وهذه المؤسسة الأكاديمية المرموقة خرّجت، بالمناسبة، عدداً كبيراً من ألمع الدبلوماسيين الروس، بينهم الراحل يفغيني بريماكوف، ووزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف، ونائب الوزير ميخائيل بوغدانوف وغيرهم، ولم يكن من السهل الحصول على مقعد دراسي فيها، خصوصاً في الحقبة السوفياتية.

دبلوماسي مهني

في عام 1980 بدأ يفيموف حياته المهنية في المؤسسة الدبلوماسية. ويبدو أنه مارس كثيراً من المهام التي تدرج فيها في مواقع مختلفة في أروقة وزارة الخارجية بموسكو، قبل تعيينه ملحقاً في السفارة الروسية بالعاصمة الأردنية عمّان عام 2004، وبقي هناك حتى عام 2008. كانت تلك فترة صعبة ومعقدة نظراً لتطورات الوضع في العراق بعد إطاحة نظام الرئيس صدام حسين، مع كل انعكاسات ذلك على الأردن والمنطقة عموماً.
بيد أن هذه الفترة على صعوبتها، أكسبت يفيموف خبرة طيبة وضعته مباشرة بعد العودة إلى موسكو على رأس قسم في دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الروسية. وفي هذا الموقع أمسك بملفات عدد من البلدان، قبل أن يغدو نائباً لرئيس الدائرة بين عامي 2010 و2013.
ومن ثم، في السنوات الخمس اللاحقة، برز اسم ألكسندر يفيموف كسفير مفوّض فوق العادة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل على تطوير العلاقات الروسية - الإماراتية في المجالات السياسية والاقتصادية، في وقت نجح البلدان في تحقيق تقارب كبير وتوسيع آفاق التعاون بشكل غير مسبوق. وهذا الأمر انعكس على قرار الرئيس فلاديمير بوتين بمنح السفير وسام شرف لـ«تفانيه في تعزيز السياسة الخارجية الروسية» في العام 2017.

الانتقال إلى سوريا

لذلك جاء منطقياً، أن يتقرّر نقل يفيموف في العام التالي، بعد انتهاء مهامه في الإمارات مباشرة إلى سوريا، البلد الذي بات يحظى بأهمية كبرى وأولوية خاصة على رأس سلم اهتمامات موسكو في السياسة الخارجية.
وبالفعل، منذ تسلمه مهامه سفيراً لدى دمشق، عمل يفيموف على ترتيب العلاقة في مرحلة صعبة ومعقّدة. فمن جانب، سرعان ما جرى الإعلان عن انتهاء «المرحلة النشطة» من العمليات العسكرية الروسية، ومع أن بعض البؤر الساخنة بقيت في البلاد، لكن أمكن تثبيت وقف النار تدريجياً واستعادت غالبية المدن السورية حياتها الطبيعية تقريباً. ولكن من جانب آخر، وضع ذلك روسيا أمام استحقاق إطلاق العملية السياسية وإنجاحها، فضلاً عن الاستحقاق الأهم على المستوى الداخلية المتعلق بالنهوض بالاقتصاد المتهاوي... وبين المهام الأساسية التي طرحت في تلك الفترة حشد تأييد دولي لفكرة روسيا بضرورة إطلاق عملية واسعة لإعادة الإعمار وتسهيل عودة اللاجئين.
ولكن هذه المهام لم تكن بالمعنى المباشر ملقاة على عاتق يفيموف. ذلك أنه بجانب وجود ممثلين عن القيادة العسكرية بشكل مباشر في البلاد، كان هناك حضور دائم ولافت للمبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف ونائب الوزير سيرغي فيرشينين في كل الملفات المطروحة على الصعيد الدبلوماسي، بما في ذلك على صعيد تنسيق العمل في إطار «مسار آستانة» والحوارات الدولية والإقليمية المتعلقة بسوريا.
مع هذا، بدا أنه كان للسفير الروسي لدى دمشق الإسهام الأكبر في ترتيب العلاقة الثنائية، وتنشيط وجود عدد من الشركات الروسية، فضلاً عن التوصل إلى توقيع عشرات الاتفاقات ومذكرات التعاون بين الجهات الروسية والسورية المختلفة.
على هذه الخلفية، تحديداً، تم النظر إلى قرار بوتين بتعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً»، على أنه يطلق «مرحلة جديدة» في تعامل موسكو مع العلاقة مع الحكومة السورية. إذ ما كان بوتين يحتاج إلى وجود «مبعوث رئاسي خاص» في سوريا، مع وجود لافرنتييف مبعوث الكرملين لشؤون التسوية، ومع وجود بوغدانوف - وهو مبعوث الرئيس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -، وأيضاً، مع وجود فيرشينين مبعوث الخارجية الروسية إلى المنطقة. هذا، في واقع الأمر، واحد من المؤشرات التي دفعت إلى إطلاق تكهنات كثيرة حول المهام التي سيكلّف بها يفيموف في منصبه الجديد.
أهمية التوقيت

أيضاً لعب اختيار التوقيت دوراً في زيادة هذه التكهنات. إذ جاء قرار بوتين اللافت، في سياق تطورات متسارعة، سبقت وأعقبت هذا التعيين، كان أبرزها الحملات الإعلامية الصاخبة التي وجهت انتقادات قاسية للنظام، واتهمته بالفشل في إدارة البلاد، و«الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام». بل، وذهب بعضها إلى الحديث عن فقدان رئيس النظام بشار الأسد القدرة على التحكم في الأمور «بسبب اتساع رقعة الفساد والفاسدين من حوله»، فضلاً عن تدهور شعبيته إلى مستويات لا تؤهله للنجاح في أي انتخابات مقبلة.
وتبع ذلك، حملة مضادة شنّتها أطراف سورية موالية للنظام اتهمت فيها روسيا بأنها «حققت مكاسب كبرى» في سوريا. وبأنها لم تنقذ النظام كما تقول، بل يعود الفضل في «إنقاذ سوريا من الإرهاب والمؤامرة الكونية» إلى الإيرانيين.
تزامن كل ذلك مع ظهور الخلافات الداخلية بين بعض مكوّنات النظام في دمشق إلى السطح، وبدا أن البلد مقبل على «تصفية حسابات داخلية» لا تقتصر في تداعياتها على مسائل الفساد والملفات الاقتصادية.
في هذه الظروف برز عنصران ضاغطان. تمثل الأول في تفاقم المشاكل المعيشية والاقتصادية بما انعكس على ملايين السوريين، ولقد حذّرت أوساط في موسكو من أن يؤدي ذلك إلى انفجار داخلي قريب ما لم تتخذ خطوات عاجلة وحاسمة.
وبرز العنصر الضاغط الثاني مع اقتراب موعد دخول «قانون قيصر» الأميركي حيز التنفيذ، مع كل التداعيات السلبية التي سترمي بثقلها بقوة على القطاع الاقتصادي والشركات السورية والأجنبية (بما فيها الروسية) المتعاملة مع سوريا. بكلام آخر، بدا أن المرحلة المقبلة، ستكون حاسمة على مختلف المستويات، ويضاف إلى ما سبق، أن موسكو غدت في حاجة ماسة إلى دفع مسار التسوية السياسية؛ لأن الإنجازات الميدانية التي تحققت على الأرض خلال سنوات، قد تواجه هزات ضخمة بسبب الاستحقاقات المقبلة.
هكذا حمل توقيت التعيين دلالات أساسية إلى عزم موسكو العمل بشكل وثيق ومباشر في الملفات الداخلية السورية، وفي الملفات المحيطة بسوريا أيضاً. ولذا لم يكن غريباً أن يترافق قرار تعيين يفيموف تقريباً مع توجه روسي لتوسيع الحضور العسكري وتعزيز وضع القوات الروسية في سوريا... عبر الأمر الرئاسي لوزارتي الخارجية والدفاع بالعمل مع دمشق لتوقيع «بروتوكول» إضافي على اتفاقية الوجود العسكري الروسي في سوريا.

ميزات ومهام للمنصب الجديد

التطور الأساسي الذي أحدثه تعيين يفيموف أنه بات لدى روسيا شخصية تلعب دور «ممثل خاص» عن الرئيس بوتين، قادر على الحديث مع الجهات السورية المختلفة باسمه مباشرة من دون المرور بالقنوات الدبلوماسية. هذا الدور يحمل ثقلاً وقوة لم تمنح لسفير سابق. وفي وقت سابق قال مصدر روسي لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا يعكس أهمية المرحلة المقبلة في سوريا التي تتطلب ديناميكية ميدانية دبلوماسية في اتخاذ قرارات فورية على الأرض مباشرة». وزاد قائلاً «إن كون يفيموف ممثلاً للرئيس الروسي فهو يعني أنه سيكون أقدر على تنفيذ سياسة لا تسمح لأي طرف سوري بالتلاعب والمماطلة... وهذا يأتي بالتوافق على أنه حان الوقت لبدء عملية الانتقال السياسي والتغييرات في سوريا».
الحديث هنا عن الاستحقاقات الداخلية وضرورات مواجهة الفساد والفوضى والترهل والاستعداد للتعامل مع «قانون قيصر». لكن في الوقت ذاته هناك إشارة إلى مدى استعداد موسكو لإطلاق مرحلة جديدة من التعامل مع ملف التسوية في سوريا، تتضمن الشروع في وضع أسس لتنفيذ كامل للقرار الدولي 2254 بعناصره الثلاثة التي اشتملت الانتقال السياسي والإصلاح الدستوري والانتخابات.
كانت موسكو قد ركزت جهودها خلال المرحلة الماضية على المسار الدستوري بصفته المدخل لإطلاق عملية التسوية، لكن هذه الجهود اصطدمت بعراقيل عدة، بينها «تعنت المتشددين من طرفي الحكومة والمعارضة»، وفقاً لتعليق خبير روسي. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن السفير يفيموف سيكون مكلفاً ملف التسوية في منصبه الجديد؛ لأن هذا الملف يبقى بيد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف الذي يواصل تنسيق الجهود في إطار «مسار آستانة» والاتصالات مع الأطراف المختلفة المعنية، بما فيها الأمم المتحدة ومبعوثها إلى سوريا غير بيدرسن. لكنه يعني أن مركز القرار الروسي الأساسي في سوريا انتقل من قاعدة حميميم إلى السفارة في دمشق، بكل ما يعني ذلك من بدء المرحلة الثانية من التدخل الروسي في سوريا بالبناء على العمليات العسكرية التي بدأت في 2015، والانتقال إلى مرحلة الإعمار سياسياً واقتصادياً.
لقد مهد يفيموف لتحركه الجديد بتوجيه إشارة يقلل فيها من حدة التكهنات التي أثيرت بسبب الحملات الإعلامية، فهو قال إن «الأحاديث والتلميحات المتداولة حالياً حول وجود خلافات في العلاقات الروسية - السورية لا أساس لها»، مضيفاً أن العلاقات «أقوى اليوم مما كانت عليه في أي وقت مضى».
بهذا المدخل يتأهب السفير – المبعوث الرئاسي للقيام بمهامه الجديدة في سوريا.
ومع الشق السياسي، المتعلق بفرض الرؤية الروسية على الأطراف السورية، وضبط صراعاتها التي يمكن أن تؤثر على مصالح روسيا، هناك الشق الاقتصادي الذي لا يقل أهمية، ونجاح السفير سابقاً، في مهام تعزيز التعاون الروسي اقتصادياً وتجارياً مع دولة الإمارات تضعه في تسميته الجديدة في مكان مناسب لأن المرحلة المقبلة ستشهد استحقاقات اقتصادية مهمة، تبدأ من مواجهة تداعيات «قانون قيصر» ولا تنتهي بإطلاق عمليات إعادة الإعمار.
يذكر أنه في تاريخ روسيا الحديث كان الكرملين لجأ مرة واحدة في السابق إلى تسمية أحد السفراء «مبعوثاً رئاسياً خاصاً». وحدث ذلك في عام 2001 عندما عيّن فيكتور تشيرنوميردين، رئيس الوزراء السابق آنذاك، سفيراً فوق العادة لدى أوكرانيا، مع تسميته «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع البلد الجار. واكتسب هذا التعيين أهمية فائقة نظراً لإعطاء موسكو أولوية خاصة للعلاقة مع أوكرانيا، في ظل احتدام المنافسة مع الغرب الذي سعى إلى جر الجمهورية السوفياتية السابقة إلى معسكر العداء لروسيا.
بناءً عليه، يأتي تعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً» ليكتسب أيضاً أهمية خاصة مماثلة حالياً، في سوريا، لكن من منظور مختلف بعض الشيء، يتعلق بالدرجة الأولى بالتعامل مع الاستحقاقات الداخلية بعد بروز التباينات بين أطراف السلطة، فضلاً عن أن سوريا تقف أمام استحقاقات كبرى؛ ما يتطلب أن تكون لدى السفير هذه الصلاحيات الواسعة لاتخاذ القرارات على الأرض وفقاً للحاجة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.