«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مخاوف من نجاح الحركة في إرهاب المفاوضين الأفغان للحصول على حصة مهيمنة في الحكومة المقبلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
TT

«طالبان» والولايات المتحدة وماراثون الحرب الطويلة

مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)
مجموعة من مقاتلي «طالبان» على تل في ولاية لغمان (نيويورك تايمز)

في ظلال إحدى شجرات التوت على مقربة من مقبرة تحمل شواهد قبورها رايات حركة «طالبان»، اعترف أحد كبار القادة العسكريين بالحركة في شرق أفغانستان بأنها قد تكبدت الكثير من الخسائر إثر الغارات الأميركية المدمّرة فضلاً عن العمليات العسكرية الحكومية على مدى السنوات العشر الماضية.
بيد أن هذه الخسائر لم تغيّر سوى القليل للغاية من الواقع على أرض القتال، إذ تواصل الحركة المتمردة استبدال القتلى والجرحى بين صفوفها باستقدام المقاتلين الجدد ومواصلة ارتكاب أعمال العنف الوحشية.
وقال مولوي محمد قيس، رئيس الجناح العسكري لحركة «طالبان» في ولاية لغمان بشرق أفغانستان، فيما كان ينتظر العشرات من رجاله ومقاتليه بالقرب من أحد التلال: «القتال عبادة بالنسبة لنا، ولذلك إذا سقط أخ لنا قتيلاً، فلن يتردد الأخ الثاني في تنفيذ مشيئة الله، ولسوف يسير على خطى من سبقوه».

كان ذلك في شهر مارس (آذار) الماضي، وكانت حركة «طالبان» قد وقّعت لتوّها على اتفاق سلام مع الولايات المتحدة يضع الحركة على عتبة بلوغ أشد غاياتها اشتياقاً ألا وهي: المغادرة الكاملة للقوات الأميركية من تراب أفغانستان.
وبذلك، تكون حركة «طالبان» قد تجاوزت القوة الأميركية العظمى عبر 19 عاماً تقريباً من الحرب الطويلة الطاحنة. وسلطت عشرات المقابلات التي أُجريت مع مسؤولي «طالبان» ومقاتليها في ثلاث دول، وكذلك مع المسؤولين الأفغان، والمسؤولين الغربيين، الأضواء على مزيج من المناهج والأجيال القديمة والجديدة التي عاونت الحركة كثيراً في بلوغ تلك الغاية. وبعد عام 2001، أعادت «طالبان» تنظيم نفسها كشبكة لامركزية من المقاتلين وقادة المستويات الدنيا والمخولين بتجنيد العناصر الجديدة والعثور على الموارد المحلية، في حين تتابع القيادة العليا للحركة مجريات الأمور وتطوراتها من داخل باكستان المجاورة.
وتحوّلت الحركة المتمردة إلى اعتماد مخطط من العمليات والهجمات الإرهابية التي فرضت ضغوطاً هائلة وشديدة على الحكومة الأفغانية، وبهدف توسيع مجال محركات التمويل غير المشروعة والقائمة على الجرائم وتجارة المخدرات وتهريبها، وذلك رغم آيديولوجية الحركة الضاربة بجذورها في أعماق التعاليم الدينية الصارمة.
وفي الوقت ذاته، لم تغيّر حركة «طالبان» سوى النّزر اليسير من الأسس الآيديولوجية بالغة القسوة لديها في وقت تتأهب للبدء في المحادثات المباشرة بشأن تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية الحالية. فلم تتراجع الحركة صراحة عن ماضيها المعروف من إيواء العناصر الإرهابية الدولية، ولا هي تراجعت قيد أنملة عن مواصلة الممارسات القمعية تجاه النساء، وتجاه الأقليات التي تعيش في أفغانستان، والتي قيّدت حكومة «طالبان» من نطاق وجودها خلال توليها الحكم في كابل في تسعينات القرن الماضي. وما زالت الحركة المتمردة تعارض بكل قوتها الغالبية العظمى من التغييرات المؤيدة من الغرب والتي جرت في البلاد على مدى العقدين الماضيين.
يقول أمير خان متقي، رئيس أركان الزعيم الأعلى لحركة «طالبان»، في مقابلة نادرة أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز» في مدينة الدوحة: «نودّ تنفيذ الاتفاق (مع الأميركيين) بالكامل حتى يتسنى لنا تحقيق السلام الشامل، ولكن لا يمكننا التزام الصمت المطبق وسجون أفغانستان مليئة برجالنا وإخواننا، عندما يسير نظام الحكومة الأفغانية على منوال نظم الحكم الغربية، ينبغي على حركة (طالبان) الرجوع والمكوث في المنزل، أليس كذلك؟». ثم أضاف قائلاً: «كلا، لن يبقى كل شيء على حاله بعد كل هذه التضحيات الكبيرة، لا يقبل المنطق السليم ذلك أبداً. الحكومة الأفغانية الحالية ترتكن على الأموال الأجنبية، والأسلحة الأجنبية، والتمويلات الأجنبية في كل شيء».
تلوح ذكريات الماضي الكئيب في الأفق. ففي المرة الأخيرة التي غادرت فيها قوة الاحتلال التراب الأفغاني –عندما تمكن المجاهدون الأفغان المدعومون من الولايات المتحدة من إجبار القوات السوفياتية على الانسحاب من البلاد في عام 1989– أطاحت فصائل المجاهدين بالحكومة الأفغانية القائمة وقتذاك، ثم حوّلت أسلحتها إلى صدور بعضها البعض تتقاتل على ما تبقى من أوصال البلاد ورفات الحكم والسلطة. واستمر هذا التقاتل حتى اعتلت حركة «طالبان» سدة المشهد الدموي العنيف في تلك الأيام.
والآن، حتى مع توقف العمليات العسكرية من طرف الولايات المتحدة والقتالية من طرف حركة «طالبان» داخل أفغانستان راهناً، تواصل الحركة المتمردة تكثيف هجماتها الإرهابية ضد القوات الحكومية الأفغانية قبل تلك الهدنة النادرة التي استمرت لمدة ثلاثة أيام لمناسبة عيد الفطر. ويبدو أن تكتيكات الحركة تشير إلى بث الخوف والذعر بين جموع المواطنين من خلال تلك الهجمات.
ويخشى كثيرون من المواطنين الأفغان أن تنجح الحركة المتمردة في مساعيها من إرهاب المفاوضين الأفغان وإجبارهم على التنازل عن حصة كبيرة ومهيمنة في الحكومة الجديدة –التي تواصل «طالبان» تقويض مؤسساتها واغتيال رجالها ومسؤوليها، بالكمائن تارةً وبالسيارات المفخخة تارةً أخرى.
ولقد أوضح القادة الميدانيون من «طالبان» جلياً أنهم احترموا قرار وقف النار فقط من أجل منح القوات الأميركية ممراً آمناً للانسحاب ومغادرة البلاد، كما قال أحد كبار زعماء الحركة في جنوب البلاد، ولكن ليس هناك من تحفظ بشأن مواصلة شن الهجمات ضد قوات الأمن الحكومية الأفغانية.
وقال قائد شاب من أعضاء «الوحدة الحمراء» وهي قوة النخبة التابعة لحركة «طالبان» في ألينغار (ولاية لغمان): «لقد بدأنا القتال هنا ضد الفساد الحكومي قبل الاحتلال الأميركي لبلادنا. وكان الفاسدون هم من توسلوا لقدوم أميركا إلى أفغانستان لعجزهم عن مواصلة القتال ضدنا». وكان ذلك الشاب اليافع طفلاً صغيراً يلعب عندما بدأ الغزو العسكري الأميركي لأفغانستان، ولقد التقى مع فريق مراسلي صحيفة «نيويورك تايمز» في المنطقة التي تسمح فيها الحكومة الأفغانية بوجود عناصر من الحركة المتمردة.
ثم استطرد القائد الشاب، مجهول الهوية وفق طلبه، قائلاً: «جهادنا مستمر إلى يوم القيامة وحتى إقامة نظام الحكم الإسلامي على أراضي أفغانستان».
التجنيد والسيطرة
وحسب التقديرات الأفغانية والأميركية، تملك حركة «طالبان» راهناً عدداً من المقاتلين يتراوح بين 50 و60 ألف مقاتل عامل، فضلاً عن عشرات الآلاف من المسلحين غير المتفرغين، وسواهم من عناصر الدعم والإمداد المحليين.
ولا يمكن اعتبار حركة «طالبان» منظمة متجانسة متماثلة. إذ عكفت قيادة الحركة المتمردة على بناء آلة حربية من أجزاء متباينة ومترامية الأطراف، ودفعت كل خلية من خلاياها إلى محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي على الصعيد المحلي. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة بالكامل، أو التي يمتد نفوذها وتأثيرها بين أوصال المجتمع، تواصل «طالبان» توفير بعض الخدمات، والوساطة في تسوية المنازعات، وتتخذ من نفسها على الدوام وضعية حكومة الظل غير الرسمية.
يقول تيمور شاران، الباحث الأفغاني البارز والمسؤول الحكومي الكبير السابق: «إنها شبكة متمردة تتسم بقدر كبير من اللامركزية مع امتلاك قادتها المقدرة على تعبئة الموارد وتجنيد الأتباع وتأمين الدعم اللوجيستي على مستويات الولايات في وقت الحاجة. غير أن الأنساق العليا من قيادة الحركة تكتسب شرعيتها من الولاء لزعيم واحد فقط».
وعلى مر السنين، ظلت القيادة العليا للحركة تلتزم أماكنها داخل باكستان المجاورة، حيث دعم جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية إعادة تشكيل أوصال الحركة الأفغانية المتمردة. وكانت هذه الملاذات الآمنة قد وفرت قدراً من الاستمرارية لقيادات الحركة في الوقت الذي تعاني فيه المستويات الدنيا من عناصرها الخسائر الفادحة داخل أفغانستان.
كانت معدلات الخسائر والضحايا في صفوف الحركة بالغة الارتفاع في بعض الأحيان، لدرجة أنها وصلت إلى سقوط مئات المقاتلين من عناصر الحركة أسبوعياً جراء حملة القصف الجوي الأميركية الشديدة التي أسقطت فيها الطائرات الحربية ما يقرب من 27 ألف قنبلة منذ عام 2013 –حتى إن حركة «طالبان» استحدثت نظاماً جديداً من عناصر الاحتياطي القتالي لمواصلة ممارسة الضغوط في المناطق التي تكبدت فيها كبرى الخسائر، وذلك حسب إفادات القادة الإقليميين من أبناء الحركة.
وكان العام الماضي موجعاً ومدمراً بالنسبة إلى حركة «طالبان» بصورة خاصة، إذ زعم المسؤولون الأفغان أنهم يحصدون رؤوس عناصر الحركة بمعدلات قتالية غير مسبوقة، حيث يسقط أكثر من 1000 مقاتل من عناصرها بصفة شهرية، وربما ربع إجمالي القوات المقدرة للحركة بحلول نهاية العام. وبالإضافة إلى الغارات الجوية التي شنتها القوات الحكومية الأفغانية، أسقطت الغارات الجوية الأميركية 7400 قنبلة، وهو أكبر معدل مسجل لها خلال السنوات العشر الماضية.
وحتى في ذروة الوجود العسكري الأميركي طويل الأمد، ومع الجهود التنسيقية لمعاونة الحكومة الأفغانية على الصعيد المعنوي واستمالة قلوب المواطنين وعقولهم في ريف أفغانستان، كانت حركة «طالبان» قد تمكنت من الاستمرار في تجنيد الأتباع وما يكفي من الشباب لمواصلة القتال. وتواصل الأسر الأفغانية الفقيرة تلبية نداءات «طالبان» والدفع بزهرة شبابها في أتون الحرب المستعرة للمحافظة على تماسك الحركة المتمردة وصمودها رغم التضحيات.
وأوضح مولوي محمد قيس كيف أن جناحه العسكري في لغمان يملك لجنة نشطة للدعوة والإرشاد، حيث يرتاد أعضاؤها المساجد ويحضرون دروس القرآن الكريم بهدف التقاط وتجنيد العناصر الجديدة للقتال. لكنه أشار إلى أن أغلب المجندين الجدد يأتون من طرف المقاتلين الحاليين الذين يعملون بكل دأب على تجنيد الأقارب والأصدقاء وضمهم إلى صفوف الحركة. وتظل الحاجة إلى الدماء الجديدة قائمة ومستمرة لدى «طالبان»، لا سيما خلال السنوات العشر الماضية. واستطرد مولوي قيس يقول: «لقد فقدنا 80 رجلاً دفعة واحدة من وحدتنا القتالية الحالية»، في إشارة إلى الوحدة القتالية التي تتألف من 100 إلى 150 مقاتلاً.
ومع ذلك، ما زال المجندون يواصلون القدوم والانضمام إلى صفوف الحركة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الكراهية العميقة المتأصلة في نفوس الناس ضد المؤسسات الحكومية والقيم الغربية الدخيلة التي اعتمدتها الحكومة الأفغانية من طرف حلفائها في الغرب. وأردف مولوي قيس في هذا الإطار: «مشكلتنا ليست مع لحومهم وعظامهم، وإنما هي مع النظام الذي يوالونه ويخدمونه».
ويقول المسؤولون الأفغان إنه في المناطق التي لا تفرض فيها حركة «طالبان» سيطرتها الكاملة لتجنيد الأتباع، لا تزال الحركة تعتمد بصورة كبيرة على ما يقرب من مليونين من اللاجئين الأفغان الذين يعيشون داخل باكستان المجاورة، كما يعتمدون على المدارس الدينية المنتشرة هناك في استمالة وتجنيد العناصر الجديدة للقتال في الخطوط الأمامية.
ويقول مسؤولو التجنيد والقادة الميدانيون لدى «طالبان» إنهم لا يدفعون رواتب منتظمة للعناصر القتالية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يغطون النفقات العائلية للمقاتلين في صفوفهم، الأمر الذي ساعدهم كثيراً خلال السنوات الأخيرة على منح قدر معتبر من الحريات لقادة الحركة في كيفية استخدام الموارد المحلية وإدارة غنائم الحرب. ويجري تحصيل بعض الإيرادات عن طريق فرض الضرائب على السلع. ولكن الحركة أصبحت متشابكة للغاية، وبصورة متزايدة، في أعمال الجرائم المحلية وتجارة المخدرات وتهريبها، الأمر الذي رفع من المحفّزات المالية التي تمكن الحركة من مواصلة ما تعدّه «جهاداً مقدساً»!
يقول الملا باقي زاراوار، قائد إحدى وحدات «طالبان» في ولاية هلمند: «إخواننا الذين يقاتلون معنا في صفوف الجهاد الأمامية لا يحصلون من الحركة على رواتب محددة، ولكننا نعتني بنفقاتهم الشخصية، ووقود دراجاتهم البخارية، ومصاريف أسفارهم إلى أسرهم. وإذا ما وقعت في أيديهم الغنائم، فهذا رزقهم».
وبالنسبة إلى المناطق التي تسيطر عليها «طالبان» بصورة جيدة، فإن العديد من عناصر الحركة، وربما بعض القادة أيضاً، يحتفظون لأنفسهم بوظائف أخرى غير القتال.
توقف مولوي قيس، في أثناء المقابلة الشخصية، للاعتذار عن ملابسه المتسخة، وقال إنه كان يطحن الدقيق طوال الصباح، وتلك هي وظيفته اليومية. ولدى العديد من المقاتلين الآخرين وظائف أخرى عندما لا يقاتلون في صفوف الحركة. ولضمان عدم جفاف منابع التجنيد، منحت الحركة الأولوية لعملية معقدة من جمع المعلومات، وصياغة خطاب الحركة من خلال إنتاج مقاطع الفيديو الدعائية الرائعة، فضلاً عن جناح نشط للغاية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتنتشر عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي مقاطع لحالات الإصابة والضحايا بين المدنيين على أيدي القوات الأميركية أو الأفغانية، سواء كانت حقيقية أو مختلقة، وذلك بالاقتران مع مقاطع فيديو أخرى لتدريبات عناصر «طالبان» وهم يقفزون خلال الحلقات المشتعلة بالنار ويطلقون الرصاص من أسلحتهم. وكانت الرسالة من وراء ذلك واضحة: «الانضمام إلينا يعني حياة البطولة والتضحية والفداء». وكانت لديهم رموز قوية يستشهدون بها في رسالتهم: كانوا يقاتلون تحت راية قائدهم الأعلى مولوي هيبة الله أخوند زاده، والذي أرسل ابنه في عملية انتحارية من أجل نصرة قضية «طالبان» ضد الحكومة الأفغانية التي يدعمها «جيش الغزاة» الأميركيين ويقودها المسؤولون الذين تعيش عائلاتهم وأبناؤهم في خارج البلاد.
وبعد اتفاق الحركة مع الجانب الأميركي، كثّفت «طالبان» من جهودها الدعائية، واعتلت موجة الانتصار العارمة التي تنذر بكل سوء. وفي خطبته السنوية بمناسبة عيد الفطر التي صدرت قبل أيام، تعهد زعيم «طالبان» بالعفو عن الخصوم الذين تخلوا عن ولائهم للحكومة الأفغانية.
وتعد مديرية ألينغار، من ولاية لغمان، مثالاً على ترتيبات «طالبان» على الصعيد المحلي والقيام مقام حكومة الظل في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وقال قادة الحركة في المديرية إنهم يجمعون الضرائب، ويرسلون خُمسها تقريباً إلى القيادة المركزية للحركة مع الاحتفاظ بالباقي منها للمقاتلين المحليين. ولديهم أيضاً لجان تشرف على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك الخدمات الصحية، والتعليم، وإدارة الأسواق المحلية.
ولا تزال الحكومة الأفغانية والجهات الدولية المانحة تدفع تكاليف الإمدادات، ورواتب العيادات الصحية، والمدارس المحلية. لكن حركة «طالبان» تدير الأمور بطريقتها الخاصة –في تسوية تمت على مضض بواسطة المنظمات الإغاثية حيث إن البديل يعني عدم توافر الخدمات على الإطلاق. كما أن منهج الحركة المتمردة إزاء التعليم من أبلغ الأدلة الواضحة على أنها تتمسك تماماً بأساليبها القديمة في قمع النساء، والقضاء على الثقافة والفنون في المجتمع.
ومن بين 57 مدرسة في ألينغار، هناك 17 مدرسة منها مخصصة للفتيات، وفقاً لمولوي أحمد هاكمال، رئيس لجنة التعليم في المديرية. بيد أن عناصر «طالبان» في المقاطعة تصر على وقف تعليم الفتيات تماماً بعد الصف السادس، فيما يتعارض مع المتطلبات الدولية للمساعدات التعليمية في البلاد. ومن حيث المناهج الدراسية، ألغت حركة «طالبان» مادة الثقافة كموضوع دراسي ذلك لأنها تشجع على التهتك والابتذال مثل تعليم الفتيات الموسيقى والفنون.
أبناء الفوضى
بعد استيلاء حركة «طالبان» على السلطة في تسعينات القرن الماضي، وهزيمتها للفصائل المتناحرة الأخرى إثر الفراغ السلطوي في الحكم الذي خلفه انسحاب القوات السوفياتية من البلاد، أبدت الولايات المتحدة قدراً من اللامبالاة بأسلوب الحكم القمعي الذي اعتمدته الحركة. غير أن الأمور تغيّرت تماماً في عام 2001، مع اتخاذ قادة تنظيم «القاعدة» الإرهابي من أفغانستان ملاذاً لهم في أعقاب هجمات سبتمبر (أيلول) الإرهابية على الأراضي الأميركية.
وقضى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وقتاً طويلاً في أفغانستان، ولقد حارب ذات مرة إلى الجانب الأميركي ضد القوات السوفياتية مع نهاية حقبة الحرب الباردة. وكان زعيم «طالبان» آنذاك، الملا محمد عمر، قد سمح لأسامة بن لادن ورجاله بالبقاء في أفغانستان، وتوثقت علاقاتهما منذ ذلك الحين، مع إعلان بن لادن الولاء للملا محمد عمر.
وفي أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة، وإثر سعيها الشديد للانتقام والثأر لكرامتها الجريحة، نفد رصيد الصبر لدى الإدارة الأميركية برئاسة جورج دبليو بوش، سيما بعد العديد من طلبات تسليم أسامة بن لادن مباشرةً إلى الحكومة الأميركية التي رفضتها حركة «طالبان»، ومن ثم شرعت الولايات المتحدة في الغزو العسكري لأراضي أفغانستان. وسرعان ما تلاشى نفوذ الحركة التي كانت قد حققت نجاحات باهرة على مختلف الفصائل الأفغانية الأخرى، في مواجهة الغارات الجوية الأميركية الشديدة. وعاد عناصر الحركة إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة والخسران بعد تفكك «إمارة طالبان» التي كانت تؤويهم. وعبر الكثير من زعماء الحركة الحدود إلى باكستان المجاورة أو ربما انتهى بهم المطاف إلى داخل السجون الأميركية.
وقال العديد من قادة «طالبان»، خلال مقابلات شخصية لأجل هذا المقال، إنه خلال الشهور الأولى التي تلت الغزو الأميركي، كانوا بالكاد يحلمون بيوم يتمكنون فيه من محاربة الجيش الأميركي الغازي. غير أن تلك الآمال تهاوت سيما بعد أن أعادت قيادة الحركة تجميع شتاتها في الملاذات الآمنة التي وفّرها لهم الجيش الباكستاني –حتى في الوقت الذي كانت الحكومة الباكستانية تتلقى فيه مئات الملايين من الدولارات من المساعدات الأميركية.
ومن تلك الملاذات الآمنة، شرعت قيادة الحركة في التخطيط لشن حرب الاستنزاف طويلة الأمد ضد القوات الأميركية في أفغانستان. وبدءاً من الهجمات الإقليمية الأكثر خطورة ودموية في عام 2007، عكفت الحركة المتمردة على إحياء وصقل أساليب الحرب القديمة التي نُفّذت بتمويل من حكومة الولايات المتحدة ضد القوات السوفياتية في نفس الجبال وعلى نفس التضاريس، ولكنها باتت الآن موجهة ضد الجيش الأميركي في البلاد.
* خدمة «نيويورك تايمز»



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.