سرد الألم العراقي

فلاح رحيم في روايته «صوت الطبول من بعيد»

سرد الألم العراقي
TT

سرد الألم العراقي

سرد الألم العراقي

يواصل فلاح رحيم في روايته الثالثة «صوت الطبول من بعيد»، الصادرة عن «دار الرافدين» ببغداد، سلسلة السرد التي ابتدأها برواية «القنافذ في يوم ساخن» عن اللحظة الراهنة بعد 2003، وما يواجهه المثقف العراقي من مراجعات لأفكاره إزاء الواقع الجديد، وعلاقته بالآخر. ومن ثم، عاد إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي برواية «حبات الرمل... حبات المطر»، وهو يسرد قصة بطله «سليم»، أو لنقل فلاح رحيم، الذي يعاني من الحب الموجع الرومانسي في مجتمع تحرسه الأعين التي تراقب أدنى التحركات، وتدفع بالمعارضين إلى السجون، أو إلى التدجين ضمن الحزب الواحد. وبذلك، ظل «سليم» على مدار الروايات الثلاث يستعير «تكتيك القنفذ في الاختفاء» كي يبقى وسط حقل الألغام، حيث الحرب الحقيقية التي أحرقت الأخضر واليابس. وهو يكابد كل هذا الحصار والاغتراب النفسي وسط بيئة طاردة، مضيفاً إليهما سؤال الوجود والعدم، وجدوى الانتماء لفكر محدد يسير بين ضفتيه، طارحاً مشاكسة المثقف الذي لا يركن إلى قناعة ثابتة.
وإذا كانت رواية «القنافذ» تطرح أسئلة عن جدوى التغيير في العراق بعد 2003، ورواية «حبات الرمل... حبات المطر» تسجل الصراع الآيديولوجي وطاحونة الاحتراب الداخلي في سبعينيات التشكل الثقافي والاجتماعي المنفتح نوعاً ما، على أكثر من اتجاه، إزاء القطع الحاد لهذا التشكل على يد السلطة، وصناعتها المستمرة للحروب والسجون السرية، واستهدافها المريع لهذا «الكائن الرقيق الهش»، المثقف العراقي، فإن فلاح رحيم في رواية «صوت الطبول من بعيد» يطرح السؤال الوجودي لبطله سليم، وهو الشخصية نفسها في الروايات الثلاث، مع ربطه بشذرات من الأسماء والحوادث والحوارات لتأكيد استمرار السلسلة. ولكن يبقى لكل رواية عالمها المستقل، لا بسبب التنوع الزماني بل بسبب التبدلات الوجودية للكائن الثقافي الذي يبحث عن وجوده داخل العراق وهو يخوض حرب الاغتراب الداخلي، وبعده عن أصدقاء الأمس وعالم الأمس، والهجرة إلى مدينة لا يعرفها، ثم نشوب الحرب... كل هذا تركه «واهناً أعزل في مواجهة غواية شهية لا تقاوم» (الطبول، ص 164).
وإذا كانت «القنافذ» و«حبات الرمل»، في الروايتين الأوليين، تزيح الزوائد من الصخور لتبرز لنا تمثالاً لشخصية «سليم»، فإن الروائي في رواية «الطبول» يصف عمق التشوه والارتياب من البقاء حياً وسط بؤرة طاردة، إضافة إلى تحولاته الداخلية ونزعته للتخلص من الآيديولوجيا، بمعنى السير باتجاه واحد. لكنه يبقى دائماً حائراً بين نداء العقل والجسد: «يدرك الآن وهو يستعيد دفاع نعيم الغريب عن نفسه أن في نفس الإنسان دهاليز مظلمة لا تنكشف إلا في مواقف صغيرة، تومض وتنطفئ لتتركنا في ظلام الثقة الآمنة بالعقل... صار يتبع هواه غير مستعد لمزيد من التأجيل» (الطبول، ص 163).
الرواية تحكمها الحرب منذ البداية، ويتخللها الموت -مقتل كريم (شقيق سليم) في جبهة القتال الذي يمثل الحياة بكامل مرحها. وحتى حين توهم «سليم» أن انقضاء خدمته العسكرية سيقوده إلى الحرية، فإنه يواجه خارج الخدمة الحياة المحفوفة بالمخاطر بسبب السلطة التي تخاف من المثقف المغاير، حتى أنها رسمت له الجدران التي يجب أن يلوذ بها كي يبقى حياً. ورغم شحة هذه الحرية، فإنها يفتقدها حين يزج به في حرب شرسة لثماني سنوات بين العراق وإيران.
في هذه الرواية، تنازع السرد ثيمتان متشابهتان في الزمن وتقلباته، ولكنهما مختلفتان في المكان: الثيمة الأولى هي «سليم» وواقعه العراقي - الشرقي المقيد، والثيمة الثانية هي «بيانكا» البولندية الآتية من أتون الحزب الواحد أيضاً، التي كانت تعمل مع شركة بولندية في صحراء الرمادي، غرب العراق. ثم ينتقل السرد بسليم من شوارع بغداد والرمادي إلى سواتر الحرب في العمارة، جنوب بغداد، حاملاً كتبه وأسئلته، وحتى علاقته بـ«بيانكا» الأجنبية التي تحمل هم مواجهة السلطة في بلدها، كما يواجه هو السلطة في بلده العراق؛ لم تكن جواباً عن أسئلته المحيرة، بل تحولت هي نفسها إلى سؤال معقد: «أهي الاغتراب الفاغر في صلب كل وقائع الحياة العراقية» (الطبول، ص 351).
وثمة تقاطعات أخرى سعى المؤلف إلى توثيقها لإظهار مقدار ما تفعله الشظايا، لا بالجسد فقط بل بالنفس: «هناك إحساس، نعم هو إحساس لا فكرة، بأن حدثاً عظيماً قد وقع ومزق أرق الخيوط في نسيج حياته مرة وإلى الأبد» (الطبول، ص 308).
يحفل سرد الرواية بالوقائع العراقية، دون فذلكات لغوية أو افتعال زائد عن الحاجة، رغم اكتنازها بالتأمل الفلسفي. ويذكرنا عمل فلاح رحيم هذا بالسرد الثري لنجيب محفوظ وفؤاد التكرلي، من ناحية اللغة الواضحة العميقة في الوقت نفسه، والتقطيع والتنقلات في السيناريو، وكأن العمل مصنوع للدراما، فنحن ننتقل من عائلة سليم في البياع غرب بغداد، إلى أصدقائه في البار، وإلى الرمادي، وإلى السواتر في العمارة جنوب العراق، في خيط سردي واحد، ما إن تكر حبات مسبحته حتى تعود من جديد.
وثمة مقاربتان في بداية الرواية: الأولى الإهداء (إلى ذكرى أخي حسين الذي قتلته الحرب العراقية - الإيرانية في السادسة والعشرين، وكنت يومها أصغره بعامين؛ بينما أصارع الهرم يبقى هو فتياً إلى الأبد) الذي يوحي لنا بأن الموت سيأتي إلى بيوت الجميع، إذ لم يعد الحزب الواحد يحارب الأفكار التي لا تتلاءم مع سياسته فحسب، بل إن الجميع عرضة للفناء، ومن دون معنى.
والمقاربة الفنية الأخرى تتجسد في الصفحات (7) و(8) و(9)، وهي مقدمة للسارد، وإن لم يضع لها عنواناً، شبيهة بمقدمات «ألف ليلة وليلة» في مقاربة الحكاية، ومن ثم الدخول في تفاصليها، فهو يخاطب شخصاً آخر، وسرعان ما نكتشف أنه يخاطب دواخل، ملخصاً في خطابه شخصيات روايته، والأهل والأصدقاء وبيانكا والحرب: «فرصتي الوحيدة لابتكار بداية تدعي أنها الأصل. هكذا فعل الرواة قبلي، وهكذا سأفعل. يدكَ وأنت تصافحني باردة، ووجهك شاحب. لا تقلق، ولا تبتئس، فهناك ما هو أبعد منك ومني في هذه الحكاية. تنحَ جانباً، استرح واترك لي القياد» (الطبول، ص 9).


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.