ليبيا... «دليل للمبتدئين»

خلفيات الصراع وأطرافه الأساسية وموازين القوى

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
TT

ليبيا... «دليل للمبتدئين»

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)

في زمن «كورونا» ورغم هيمنة تداعيات هذا الوباء على عناوين الأخبار منذ شهور، ظلّت ليبيا، ولأسباب مختلفة، محافظة على موطئ قدم لها في مقدم تطورات العالم العربي، والآن، كما يبدو، في مقدم اهتمامات الدول الكبرى... وحروبها الخفية.
فماذا يحصل في ليبيا حقيقة؟ وكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
يسلّط هذا التقرير - وهو بمثابة «دليل للمبتدئين» - الضوء على بعض خلفيات الصراع في ليبيا، وعلى أطرافه الأساسية، وموازين القوى فيه، وأيضاً على التحالفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك «الحرب الباردة» الدائرة حالياً على الأرض الليبية بين الأميركيين والروس.

كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
في فبراير (شباط) من عام 2011، وفي خضم ما عُرف آنذاك بـ«الربيع العربي» الذي أطاح لتوّه بنظامي الرئيسين الراحلين زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، اندلعت «انتفاضة» ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي الذي رد بتهديد الثائرين ضد نظامه بملاحقتهم «زنقة زنقة» حتى القضاء عليهم. جمع القذافي جيشاً جراراً ضم متطوعين من أبرز مدن غرب البلاد وقبائلها التي ظلّت على ولائها لنظامه، وعندما وصلت هذه القوات إلى أبواب مدينة بنغازي، مهد الثورة ضده في شرق البلاد، تحركت دول غربية، على رأسها فرنسا، ونجحت في إصدار قرار من مجلس الأمن (القرار 1973) يسمح بإجراءات لـ«حماية المدنيين». تبيّن لاحقاً أن القرار كان في الواقع جزءاً من خديعة تعرضت لها روسيا، بحسب ما يقول مسؤولوها. إذ سرعان ما أصدرت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة موقفاً مشتركاً فسّرت فيه حماية المدنيين بأنه يعني تدخلاً عسكرياً لإطاحة النظام. وهكذا كان. لم تكتفِ الطائرات الفرنسية بضرب الرتل المتقدم نحو بنغازي وتدميره، بل شارك حلف «الناتو» بأكمله في عملية تدمير القوات الحكومية الليبية أينما وجدت، والسماح لجماعات الثوار بإسقاط القذافي وقتله في مسقط رأسه، مدينة سرت، في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
ما بعد القذافي

اقتراع 2012: أول برلمان لليبيا بعد سقوط نظام القذافي (غيتي)

خطت ليبيا خطوة مبشّرة نحو الانتقال إلى نظام ديمقراطي يخلف «جماهيرية العقيد»، فنظّمت في يوليو (تموز) 2012 انتخابات تعددية لاختيار برلمان انتقالي (المؤتمر الوطني). حقق «تحالف القوى الوطنية»، بزعامة الراحل محمود جبريل، تقدماً واضحاً في هذه الانتخابات، لكن تكتلات عدة يهيمن عليها الإسلاميون تدخلت لحرمانه من نيل منصب رئيس الوزراء. قيل وقتها الكثير في خصوص خلفيات استهداف جبريل، وربطها كثيرون بموقف قطر منه كونه اعترض، مع آخرين، على ما اعتبره تدخلاً واضحاً منها في فرض شخصيات بعينها لتولي مناصب أساسية في الدولة الليبية في فترة ما بعد القذافي.
في عام 2014، عادت ليبيا إلى صناديق الاقتراع واختارت برلماناً جديداً (مجلس النواب). ورغم أن جميع المرشحين تقدموا بوصفهم مستقلين، فإن نتيجة الاقتراع مثّلت هزيمة مدوية للإسلاميين الذين خسروا في مواجهة تحالف من الليبرالييين والوطنيين. لكن الاقتراع تمثّل في المقابل بمشاركة متدنية جداً من المواطنين (18 في المائة فقط)، ورفض الإسلاميون القبول بنتيجته. فقد كانت الأوضاع في البلاد تسير نحو مزيد من التأزم... والانفجار.

تنامي قوة الجماعات الإسلامية

مؤيدون وأعضاء في جماعة «أنصار الشريعة» في بنغازي عام 2012 (غيتي)

شهدت ليبيا، في السنوات التي تلت قلب نظام القذافي، تنامياً كبيراً في نشاط الجماعات الإسلامية التي كانت مقموعة ومحظورة على مدى عقود. فإلى جانب جماعة «الإخوان» التي أسست حزباً سياسياً (العدالة والبناء)، ظهر على الساحة تنظيم «أنصار الشريعة» الذي ضم متشددين أنشأوا لاحقاً فروعاً لتنظيم «القاعدة»، ومن بعده وريثه ومنافسه تنظيم «داعش». وقد انعكس خلاف «القاعدة» و«داعش» في سوريا على علاقة أنصارهما في ليبيا.
سيطر أنصار «القاعدة» على مدينة درنة التي عُرفت سابقاً بسيل المتطوعين الانتحاريين الذين شكلوا مدداً لا ينقطع لزعيم فرع «القاعدة» في العراق، أبي مصعب الزرقاوي، في الأعوام 2004 و2005 و2006. في المقابل، سيطر أنصار «داعش» على أجزاء من مدينة بنغازي، عاصمة شرق البلاد، قبل أن يقيموا «إمارة» في مدينة سرت، مسقط رأس القذافي. نفّذ «داعش» بعضاً من أبشع جرائمه خلال سيطرته على سرت (بما في ذلك قطع رؤوس أقباط مصريين وإثيوبيين كانوا يحاولون الهجرة إلى أوروبا)، لكنه لم يكن لوحده. فقد حصلت جرائم أخرى عديدة يُشتبه في أن متشددين قاموا بها - سواء قتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي عام 2012، أو اغتيال عشرات الضباط والعسكريين الذين كانوا يُقتلون واحداً تلو الآخر بدم بارد في شرق البلاد تحديداً.
ظهور حفتر

أسهمت تلك الاغتيالات في تنامي التأييد للمشير خليفة حفتر في محاولته إعادة تجميع ما تبقى من الجيش الليبي السابق الذي تفكك بعد سقوط نظام القذافي. كان الإسلاميون منذ البداية معارضين لأي دور لحفتر في مستقبل ليبيا. فهو ينتمي، في نظرهم، إلى حقبة القذافي. كان ضابطاً سابقاً في جيشه، وشارك في الحرب مع تشاد في ثمانينات القرن الماضي، وأسر، ثم انضم إلى المعارضة (جبهة الإنقاذ)، لكنه اختلف مع قادتها، وظل يعيش بالمنفى في الولايات المتحدة حتى اندلاع الثورة ضد القذافي فحزم حقائبه وعاد إلى ليبيا، حيث شارك في القتال ضد قوات الزعيم الليبي.
لكن دوره في تلك الحرب ظل هامشياً، وزاده تهميشاً تكتل الإسلاميين ضده في حقبة ما بعد العقيد. لكن كثيراً من الذين اعتبروا أنفسهم جزءاً من النظام السابق فضّلوا تجاهل دوره في الحرب لإطاحة العقيد عام 2011 والانخراط في جهده لإعادة تجميع القوات المسلحة باعتبارها جزءاً أساسياً من أي محاولة حقيقية هدفها وقف انحدار البلاد نحو مزيد من الفوضى والتفكك وسقوطها في أيدي الجماعات المتشددة.
لكن ذلك لم يعنِ بالطبع التحاق جميع أنصار النظام السابق بحفتر. فشريحة لا بأس بها من هؤلاء يبدو أنها ما زالت تراهن على دور ما لنجل القذافي، سيف الإسلام، الذي أفرج عنه في عام 2017 بعد احتجازه منذ عام 2011 في مدينة الزنتان (الجبل الغربي). ولم يظهر سيف علناً منذ إعلان الإفراج عنه، ما فتح باب التكهنات حول مكان وجوده (هو ما زال مطلوباً من المحكمة الجنائية الدولية لدوره في محاولة قمع الثورة ضد والده). وترددت معلومات أنه انتقل من الزنتان إلى جنوب ليبيا حيث ما زال هناك مؤيدون له، قبل أن ينتقل إلى مدينة بني وليد جنوب شرقي طرابلس. ومعروف أن هذه المدينة، وقبيلتها الورفلة، وقفت إلى جانب سيف الإسلام وحمته بعد فراره من طرابلس في صيف عام 2011. وفي هذه المدينة فقد سيف أصابع يده وأصيب بجروح شديدة بقصف لطائرات «الناتو»، ما اضطره إلى الفرار جنوباً حيث أسره ثوار قرب مدينة أوباري ونقلوه إلى الزنتان. وليس واضحاً اليوم كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حفتر وسيف إذا كان عليهما التعايش في المنطقة ذاتها.

عمليتا «الكرامة» و«فجر ليبيا»

قوات «فجر ليبيا» عام 2014 (غيتي)

أطلق حفتر محاولته الأولى للإمساك بزمام الأمور في ليبيا في بدايات عام 2014، إذ أعلن في فبراير (شباط) حل المؤتمر الوطني العام الذي أراد التمديد لنفسه بعد انتهاء ولايته، ثم أطلق في مايو (أيار) حملة عسكرية ضد الجماعات الإسلامية (أنصار الشريعة) التي سيطرت على بنغازي. أطلق حفتر على هجومه «عملية الكرامة».
في المقابل وفي الوقت ذاته، أطلقت جماعات إسلامية، بعضها من طرابلس نفسها وبعضها من مدينة مصراتة، عملية «فجر ليبيا» لطرد جماعات منافسة لها من العاصمة ومحيطها، لا سيما الجماعات التي جاءت من الجبل الغربي (الزنتان تحديداً). ونجحت قوات «فجر ليبيا» في الواقع في طرد مقاتلي الزنتان من مواقعهم جنوب طرابلس، رغم أن ذلك أدى إلى تدمير مطار طرابلس الدولي بالطائرات الموجودة فيه.

اتفاق الصخيرات

في محاولة لإنقاذ ليبيا من الغرق في مزيد من الفوضى، نجحت الأمم المتحدة في جمع شريحة واسعة من الفرقاء الليبيين في الصخيرات (المغرب) حيث تم توقيع اتفاق، في ديسمبر (كانون الأول) 2015، نتج عنه قيام حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج (في مارس/ آذار 2016). انتزعت هذه الحكومة تمثيل ليبيا أمام الأمم المتحدة، لكن معارضيها ظلوا يشككون في شرعيتها بحكم أنها لم تنل ثقة مجلس النواب الليبي الذي اتخذ من طبرق مقراً له في شرق البلاد بعد سيطرة الجماعات التي يهيمن عليها الإسلاميون على طرابلس (في أعقاب «فجر ليبيا»).
وهكذا اتسع الشرخ السياسي في ليبيا في أعقاب اتفاق الصخيرات عوض أن يتم جسره. سيطرت الجماعات المؤيدة للإسلاميين إلى حد كبير على مقاليد الأمور في طرابلس، ما أعطى الانطباع بأن السراج خاضع لها. في المقابل، نجح معارضو الإسلاميين بقيادة حفتر، وبتأييد من مجلس النواب، في فرض نفوذهم في شرق البلاد، ما جلب لهم دعماً من أطراف عربية ترى في الإسلاميين مصدراً للفوضى في العالم العربي.
القضاء على الجماعات المتشددة

سرت مدمرة بعد سيطرة القوات الموالية لـ«الوفاق» عليها عام 2016 (غيتي)

شكل ظهور الجماعات المتشددة في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي مصدر قلق للدول الغربية، خصوصاً في ضوء إقامة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» موطئ قدم لهما على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، الأمر الذي يسهّل لهما تنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
تُرجم هذا القلق على صعيدين.
تمثل الأول في دعم الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى عملية ضخمة لطرد «داعش» من «إمارة سرت». راهنت هذه الدول في تنفيذ هذه العملية على قوات تابعة لحكومة «الوفاق» جاءت تحديداً من مدينة مصراتة، غرب سرت. وبعد قصف جوي عنيف استمر لشهور، نجحت قوات مصراتة (عملية البنيان المرصوص)، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، في دخول سرت التي تحوّلت إلى أنقاض بعدما قاتل عناصر «داعش» فيها حتى الموت. قُتل مئات المقاتلين من شبان مصراتة في معارك سرت. لكن هذا الدم الباهظ رسّخ موقع المدينة في تركيبة السلطة الجديدة في طرابلس، وعزز، في المقابل، الشكاوى من دورها المتنامي في الهيمنة على مقاليد الأمور في البلاد منذ سقوط القذافي. ومعروف أن هذه المدينة عرضت على عامة الناس جثمان القذافي وابنه المعتصم بعد قتلهما عام 2011 ثم دفنتهما في مكان لا يعرفه أحد.
ورغم مغادرة القوات الغربية التي ساندت مصراتة ونسقت القصف الجوي ضد «داعش» في سرت، فإن إيطاليا أبقت على قوة عسكرية لتأمين حماية مستشفى أقامته في مصراتة. وفُسّرت تلك الخطوة من قبل معارضيها بأنها تعني دعماً إيطالياً لمصراتة في مواجهة خصومها.
في المقابل، برز المشير حفتر بدوره نتيجة قتاله الجماعات المتشددة في بنغازي ومناطق واسعة من شرق البلاد (ولاحقاً غربها). فرغم انطلاقه بعدد محدود من الجنود الذين كانوا محاصرين لوقت طويل ويتعرضون لهجوم تلو الآخر من الإسلاميين على مطار بنينا قرب بنغازي، فإن حفتر تمكن، ببطء، من استعادة زمام المبادرة ونجح في نهاية المطاف بطرد أنصار «داعش» و«القاعدة» من بنغازي، ثم من درنة، وبقية مدن شرق البلاد.
تم هذا الإنجاز بعد كثير من الدماء والتضحيات، ونتج عنه كم هائل من الدمار حوّل أجزاء من بنغازي إلى أنقاض. في الواقع، كان حفتر يحظى في تلك الفترة بدعم سري من فرنسا التي أرسلت جنوداً من قواتها الخاصة لمساندته. لكن سرعان ما انفضح الدور الفرنسي عندما سقطت مروحية فرنسية قرب مطار بنينا (في يوليو 2016) وقُتل فيها جنديان، فاضطرت فرنسا إلى الاعتراف بوجود لها في ليبيا. وعندما وسع حفتر هجومه ليشمل مشارف العاصمة الليبية في بدايات عام 2019، انكشف مجدداً أن فرنسا تلعب، على الأرجح، دوراً سرياً في دعمه، إذ عثرت القوات الموالية لـ«الوفاق» عندما استعادت السيطرة على مدينة غريان على صواريخ متطورة كانت في حوزة قوات فرنسية.
وليس واضحاً إذا كان حفتر قد شعر بأن الفرنسيين لا يقدمون له الدعم الكافي لـ«طرد الميليشيات» من طرابلس، بحسب وصفه. إلا أن الظاهر أنه لجأ إلى مصدر دعم آخر تمثّل بروسيا التي زارها المشير حفتر أكثر من مرة. ورغم النفي الروسي الرسمي لتقديم دعم لقواته، فإن الواضح - والموثّق وفق تقارير الأمم المتحدة - أنه يحظى بالفعل بدعم من «مرتزقة» جنّدتهم مجموعة «فاغنر» الروسية. يُقدّر عدد هؤلاء بنحو 1500 عنصر، وقد ساندوا، كما يبدو، تقدم قوات حفتر حتى أبواب طرابلس. لكن الإعلام الرسمي للجيش الوطني الذي يقوده حفتر، يصر على نفي وجود «مرتزقة روس».

التدخل التركي

التدخل التركي في ليبيا أوقف زحف قوات المشير حفتر على طرابلس (رويترز)

كانت هيمنة الجماعات المرتبطة بـ«الإخوان» على حكومة السراج مصدراً أساسياً للخلاف مع حفتر. ومع تقدم قوات الأخير نحو طرابلس العام الماضي ظهر إلى العلن مدى اعتماد حكومة السراج على دعم «الإخوان». إذ وقّع السراج، في نهايات 2019، اتفاقات أمنية وعسكرية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي لـ«الإخوان» في العالم العربي. أرسل الرئيس التركي كميات ضخمة من السلاح إلى طرابلس ومصراتة ومدن أخرى في غرب البلاد، وتم ذلك علناً في بواخر حملت مئات العربات العسكرية وبجسر جوي نقل آلافاً من «المرتزقة السوريين» الذين جندتهم تركيا من الفصائل التابعة لها في سوريا (حكومة «الوفاق» هي من يدفع مرتباتهم من خزينة الدولة الليبية). وأتبع إردوغان كل ذلك بإرسال بعض من أحدث تقنيات جيشه العضو الأساسي في حلف «الناتو»: طائرات درون مسيّرة (بيرقدار)، وبوارج حربية، وأجهزة تشويش متطورة، وربما أيضاً منظومات صاروخية للدفاع الجوي (هوك) لحماية غرف عمليات القوات التركية في غرب ليبيا. أسهم هذا الدعم التركي الضخم في قلب موازين المعركة ضد حفتر. فقد نجحت الطائرات التركية في تدمير منظومات الدفاع الجوي (بانتسير) التي كانت تحمي قوات حفتر والقوات التي تقاتل إلى جانبه («مرتزقة فاغنر»). كما تمكنت الطائرات التركية من خنق قوات حفتر اقتصادياً. فقد كانت هذه القوات بحاجة إلى إمدادات، وبما أن ليبيا بلد صحراوي فإن صهاريج النفط وشاحنات نقل الغذاء كان عليها أن تقطع مسافات طويلة وهي مكشوفة للطيران التركي قبل الوصول إلى وجهتها جنوب طرابلس.

انسحاب قوات «فاغنر»

أرغمت الضربات التركية «مرتزقة فاغنر» على الانسحاب من معركة طرابلس، بحسب ما أكدت حكومة «الوفاق» التي قالت إن هذه القوات شوهدت وهي تنسحب بآلياتها باتجاه مدينة بني وليد ومنها إلى وجهة غير معروفة (جواً وبراً). وبما أن المنسحبين لم يتعرضوا لقصف تركي، فقد سرت تكهنات بأن خطوتهم تم التوافق عليها سراً بين الأتراك والروس. لكن تطوراً مفاجئاً أعاد خلط الأوراق. ففي وقت كانت فيه قوات «فاغنر» تنسحب من مدينة بني وليد، بحسب ما قالت حكومة «الوفاق»، وصل سرب من الطائرات الروسية الحديثة (ميغ 29 وسوخوي 24) إلى شرق ليبيا. حطت في طبرق في البداية، ثم انتقلت إلى قاعدة الجفرة بوسط البلاد. وبحسب القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، قاد الطائرات طيارون من القوات المسلحة الروسية. طاروا من روسيا مباشرة. توقفوا في سوريا، حيث أعيد طلاء طائراتهم لتمويه مصدرها، ومنها إلى ليبيا لمساندة «المرتزقة الروس» وقوات حفتر، بحسب ما أكد الأميركيون. لكن لم يُسجل حتى اليوم أي دور لهذه الطائرات في المعارك الجارية جنوب طرابلس حيث تعرضت قوات «الجيش الوطني الليبي» لنكسات متتالية هددت بخسارة كل مكاسبها في غرب ليبيا. وليس واضحاً تماماً إذا كان إرسال هذه الطائرات هدفه توجيه رسالة لتركيا وحلفائها لوقف تقدمهم نحو الشرق والجنوب، أم لضمان احتفاظ قوات حفتر بموطئ قدم جنوب طرابلس. ويرجح أن تتوضح هذه الصورة وفق التطورات التي ستحصل في الأيام المقبلة.
وإذا نجح الأتراك فعلاً في طرد قوات حفتر من غرب البلاد، فإن خطوتهم المقبلة قد تكون جنوب ليبيا أو وسطها. لكن المنطقة عبارة عن صحراء مترامية الأطراف من الصعب الحفاظ على السيطرة عليها في ظل غياب الدعم الجوي.

الموقف الأميركي

أميركا اتهمت روسيا بنشر طائرات حربية في مطار الجفرة بليبيا (أفريكوم)

كان واضحاً أن الأميركيين، في مواقفهم الأخيرة، أخذوا صف حكومة السراج في نزاعها مع حفتر. ولعل بيان «أفريكوم» الأخير في خصوص الطائرات الروسية كان الأكثر وضوحاً في المواقف الأميركية. إذ اعتبر أن إنشاء الروس قاعدة لهم في ليبيا سيشكل خطراً على أمن أوروبا، علماً بأن للروس قاعدة أخرى على سواحل المتوسط في طرطوس السورية. وبهذا يتضح أن الأميركيين يعتبرون الوجود الروسي في ليبيا أكثر خطراً، استراتيجياً، من الوجود التركي (العثماني بحسب إردوغان). واعتمد الأميركيون نفس هذه السياسة في سوريا، إذ وقفوا إلى جانب الأتراك لمنع روسيا وقوات النظام السوري من السيطرة على إدلب، رغم أنها معقل للإسلاميين بما في ذلك الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة». وإضافة إلى هذه الجماعات، تنشط في إدلب جماعات عدة تنتمي إلى تيارات «إخوانية» وتعمل تحت إشراف تركي مباشر.
ويقول منتقدون للدور التركي إن سماح الأميركيين لإردوغان بإنشاء موطئ قدم له على سواحل ليبيا يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا ربما لا يصل إلى مستوى التهديد العسكري الروسي، لكنه يمكن أن يوازيه من نواحٍ أخرى. ويستحضر هؤلاء مواقف إردوغان الأخيرة، خلال عملية إدلب، عندما أعلن فتح أبواب بلاده أمام ملايين المهاجرين للعبور نحو أوروبا، وهو ما يمكن أن يكرره الرئيس التركي مع الأوروبيين عندما يريد أن يبتزهم فيهددهم بفتح سواحل ليبيا أمام المهاجرين الآتين من دول أفريقيا ما وراء الصحراء. لكن هذا الخطر لا يبدو أنه يُقلق الأميركيين - أو {الدولة العميقة} التي تخشى {الدب الروسي} في وزارتي الخارجية والدفاع - بقدر ما يقلقهم وجود «فاغنر» والروس في ليبيا.

وماذا عن دور دول الإقليم؟

كانت مصر من أوائل الداعمين لحفتر، إذ إن حدودها الغربية كانت مصدر قلق لها على مدى سنوات، حيث كان أعضاء في جماعات مسلحة يتسللون من ليبيا لتنفيذ هجمات وتهريب السلاح ثم يعودون إليها. وتأكدت مخاوف المصريين فعلاً عندما نجحت قوات حفتر في اعتقال أحد أبرز المطلوبين المصريين الضابط السابق المتطرف هشام عشماوي الذي كان يختبئ في مدينة درنة في أكتوبر 2018. سُلّم عشماوي إلى مصر حيث أُعدم. ولا تكشف مصر نوعية الدعم الذي تقدمه للجيش الوطني الليبي، لكن حكومة «الوفاق» دأبت على اتهامها، مع الإمارات والأردن على وجه الخصوص، بمساعدة حفتر.
وتتركز مزاعم «الوفاق» على قاعدتي الجفرة والخادم، حيث توجد طائرات مسيرة صينية الصنع (لونغ وينغ) يشغلها خبراء أجانب. لكن ليس كل ما تقول حكومة «الوفاق» يتبين أنه صحيح في هذا المجال، فقد روّجت وسائل إعلام مرتبطة بها لوجود قوات مصرية في قاعدة الوطية (عقبة بن نافع) بغرب ليبيا، لكن عندما سقطت القاعدة في أيدي {الوفاق} قبل أسابيع لم يظهر أي وجود لقوات مصرية فيها، بل تبيّن أن المدافعين عنها كانوا من أبناء المدن القريبة منها وتحديداً في الجبل الغربي. ولا تنفي الإمارات، من جهتها، معارضتها للميليشيات في ليبيا وتقول إنها تدعم الحل السياسي. وتولى الأردن، من جهته، تدريب قوات ليبية في إطار عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد القذافي. أما تونس والجزائر فتقولان إنهما لا تتدخلان في الشؤون الليبية، لكن رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي أثار جدلاً في بلاده بتهنئته «الوفاق» على استعادة قاعدة الوطية. وتقول الجزائر، من جهتها، إنها مستعدة لاستضافة حوار ليبي - ليبي لإنهاء النزاع في البلاد.



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.