عندما نُفكر في أي حرب، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الطيارات الحربية والقنابل والصواريخ واللون الكاكي الذي يميز ملابس الجنود والعسكر. قلما يتبادر إلى الذهن أن أحمر شفاه أو قلم كحل أو ماسكارا يمكن أن تكون هي الأخرى أدوات حرب. مجرد الفكرة قد تُثير الاستنكار والتساؤل. فكيف للموت والجمال أن يلتقيا؟ وكيف يكون للمرأة نفس في التزين ورائحة الموت تفوح من حولها؟ لكن الحقيقة التاريخية تؤكد أنهما فعلاً كانا حليفين في كل الحروب التي شهدها القرن الماضي. أحمر الشفاه بالذات استعمل في الجهود الحربية خلال الحرب العالمية الثانية، إلى حد أنه كان جزءاً من خطاب بروباغندا تحفيز المرأة على الانخراط فيها ودعم القوات المسلحة.
مثال على هذه البروباغندا مقال نشرته مجلة «فوغ» في عام 1942، جاء فيه أن الاهتمام بالجمال «واجب وطني... فهناك الكثير من الأمور الحزينة والقبيحة من حولنا، أصبح لزاماً على المرأة التصدي لها». وحسب ما هو مؤرخ في «متحف الحرب الإمبراطوري» بلندن، فإن «امرأة لا تهتم بجمالها، هي امرأة محبطة وأمر غير مقبول وخطير في الحرب ضد العدو». نتيجة هذه البروباغندا، ارتفعت مبيعات كريمات الوجه ومستحضرات التجميل في الأربعينات، لا سيما بعد تطوع نساء من الطبقات المتوسطة للعمل كممرضات في الخطوط الأمامية. بيد أن انخراط المرأة في الحرب لم يقتصر على التمريض. فقد أجبرها غياب الرجل على القيام بمهام كانت قصراً عليه، كالعمل في مصانع إنتاج أدوات حربية أو قيادة الحافلات العامة وغيرها من الأعمال التي كانت تتطلب ملابس خشنة بخطوط رجالية تخفي تضاريسها. حتى لا تفقد أنوثتها، أو تسمح للإحباط أن يسكنها، لم يكن أمامها سوى سلاح واحد، وهو أحمر الشفاه القاني لرفع مزاجها ومعنويات الجنود، وتشجيعهم على المقاومة، ليعودوا سالمين غالبين. كانت للتجميل وظيفة أخرى لا تقل أهمية ألا وهي استفزاز هتلر بشكل مباشر وشخصي. فالمعروف عنه أنه كان يكره رؤية أحمر الشفاه أو طلاء أظافر على أي امرأة. من هذا المنظور سارعت شركات التجميل آنذاك إلى الترويج لمنتجاتها على أنها حملات وطنية، مثل شركة «تانغي» التي قدمت حملة شعارها «الحرب، المرأة وأحمر الشفاه... سنربح الحرب».
ما يعيشه العالم حالياً بسبب فيروس كورونا، حرب لا تختلف عن أي حرب أخرى. بل يمكن أن تكون أكثر فتكاً وخطراً، لأنها مع عدو غير مرئي. فالولايات المتحدة مثلاً خسرت أرواحاً تفوق ما خسرته في حروبها في أفغانستان والعراق مجتمعة، والضحايا حول العالم لا تزال تتساقط واحدة تلو الأخرى. ولأن العلماء لم يتوصلوا إلى دواء أو لقاح ضده لحد الآن، أصبحت الكمامة السلاح المؤقت إلى أن تُفرج.
كونها تخفي نصف الوجه، جعل أحمر الشفاه يفقد أهميته. وهذا ما أكده المصمم الأميركي مارك جاكوبس، منذ أسبوعين، في مؤتمر صحافي عالمي أجراه على منصة «زووم». كانت المناسبة طرحه مجموعة ماكياج خاصة بالعيون، لم يرض أن تمر مرور الكرام. «فالوقت مناسب جداً لها» حسب قوله، مشيراً إلى أن تصدر الكمامة الواجهة، يعني أن خريطة رسم الوجه ستتغير لتركز على سحر العيون والحواجب. خبير التجميل الأردني راشد توغوج، أكد بدوره هذا الواقع الجديد من خلال جلسة تصوير لعروس بكمامة أبرزت سحر عيونها. علق راشد بأن نظرة سريعة إلى كل الثقافات التي تستعمل النقاب كرمز ثقافي، «تُركز على العيون كنقطة جذب رئيسية، والدليل طبعاً عدد القصائد التي تتغزل بها». هذا إلى جانب أن المرأة استعملتها لإرسال رسائل صامتة وقوية في الوقت ذاته. أمر يعرفه مارك جاكوبس وغيره من صناع الجمال، مثل هدى قطان، العراقية الأصل والمقيمة في دبي. فالمعروف عنها أنها حتى قبل أن تكتسح الكمامة سوق الجمال، انتبهت إلى أهمية العيون وبنت امبراطورية تُقدر بمليارات الدولارات على رموش صناعية، لهذا لم يكن غريباً أن تطرح مؤخراً، وفي عز أزمة «كورونا» ماسكارا تأمل أن تحقق لها ما حققته الرموش من أرباح. لكن هذا لا يعني نهاية أحمر الشفاه، كما أشار مارك جاكوبس، خلال مؤتمره الافتراضي الأخير. كل ما في الأمر أن أهميته ومبيعاته ستتراجع لصالح مستحضرات العيون ما دام لم يطرح أحدهم كمامات شفافة تظهر منها الشفاه.
اللافت أنه كما ظهرت دعايات كثيرة خلال الحرب العالمية الثانية، تُحذر من تأثيرات إهمال المرأة لنفسها، يتبارى خبراء الجمال وعلم النفس حالياً على وسائل التواصل الاجتماعي في التذكير بأن «المظهر السليم في النفسية السليمة». فنحن نحتاج إلى أسلحة متنوعة لمواجهة فيروس كورونا، بدءاً من التأمل بهدف ترتيب أوراق المستقبل إلى استغلال الوقت في تعلم هوايات جديدة، وما شابه من أمور، إلا أنها لا تقل أهمية عن العناية بالنفس من الداخل والخارج، إذ إن المظهر الجميل في الحجر الصحي تحديداً يُعزز من قوة المناعة، لأنه يزيد من الثقة وروح التفاؤل.
مستحضرات التجميل... أسلحة حرب ناعمة
بإخفائها الشفاه وإبرازها للعيون.. الكمامة تُعيد رسم الوجه
مستحضرات التجميل... أسلحة حرب ناعمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة