بعد أيام، نُكمل، نحنُ سكان هذا الكوكب «مائة يومٍ من العزلة»، عزلة ستظل تُقرأُ فصولها حتى بعد مائة عام من حدوثها، تماماً مثلما نقرأ سيرة «ماكوندو» القرية الخيالية الغافية على ضفاف النهر في كولومبيا، التي ابتكرها مسرحاً لأحداث روايته الشهيرة غابرييل خوسيه ماركيز.
قريتنا الكونية أفضل حالاً من قرية ماركيز، رغم أننا نخوض الصراعات نفسها: صراع الأجيال، والطبقات، والحداثة، والخرافة، والاستعمار... لكنّ قريتنا باقية، وقرية «ماكوندو» دمرتها الرياح.
غداً الخميس، يبدأ العالم يتنفس الصعداء، ويخرج رويداً رويداً من الكهف الذي سُجن فيه، ولم يكن السجّان سوى فيروس لا يُرى بالعين المجردة. وبعد ثلاثة أسابيع تقريباً سيتمكن القسم الأكبر من البشر من الوقوف على الصخرة ملوحين بشارات النصر.
أكبر إنجاز أننا لم نُهزم. فقدنا الآلاف، وشحّ الهواء من رئة الملايين، ولكن هذه الأرض ما زالت تتنفس!
لن يعود العالم إلى ما كان عليه قبل الجائحة؛ لن ينقلب رأساً على عقب، لكنه سيتجدد. الأفكار والمفاهيم والوسائل التي كانت سائدة قبل سيكون أمامها امتحان عسير لكي تثبت أنها ما زالت صالحة لمرحلة ما بعد الوباء. ثمة صدمة كهربائية سريعة وخاطفة، ولكنها صاعقة ومزلزلة، أصابت هذا الكوكب، واستهدفت في الصميم خلاصة ما بناه الإنسان الحرّ من مفاهيم العولمة، واقتصاد السوق، والتجارة الدولية، والديمقراطية، والمجتمع الدولي، وحتى حقوق الإنسان.
كنا على وشك الإيمان بأن وسائل الاتصال جعلتنا نسكن الغرفة الواحدة، حتى وجدنا أنفسنا غير قادرين على زيارة آبائنا وأمهاتنا، وكنا نحلم بمركبات خفيفة تطير في الهواء، حتى وجدنا الطائرات رابضة في المطارات، وكنا على وشك الإيمان بعالم الرفاه، حتى فوجئنا بجيوش العاطلين عن العمل يجثمون على أنفاس الاقتصاد العالمي. اكتشفنا أن الأمم المتحضرة بدت أمام هذه الجائحة عاجزة عن استخدام رصيدها الحضاري، بسرعة هائلة ارتدت نحو التوحش، وإلا فكيف يمكن تفسير نزعة الازدحام على شراء الأسلحة الفردية في الولايات المتحدة، وكيف نفّسر استيلاء دول متحضرة على شحنات الأدوية العابرة نحو جيرانها الأكثر تضرراً.
الأمم العظمى القوية عربّد الفيروس التافه في منظوماتها العملاقة، وتركها تتخبط في عجزها وضعفها، وأدخلها في «التيه» الذي بدا في تبادل التلاوم والتصارع والمناطحة، وتهديد العالم في الألفية الثالثة بعودة الحروب الباردة... شيء يشبه ما حذّر منه الروائي اللبناني أمين معلوف من «غرق الحضارات»، حيث فقدنا سمة الصراع بين الحضارات، ودخلنا بفعل الفوضى وانعدام العقلانية مرحلة «غرق الحضارات». معلوف يرى القوى المنتصرة، والمهزومة، كلاهما في حالة تراجع، وفي خطر الانهيار.
ربما يكون الوصول إلى هذه الذروة ضرورة للانفكاك من الهيمنة والتسلط باسم النظام الدولي، ومنح الدول فرصة للانعتاق من التحالفات المكبلة، أو يسمح ببروز أقطاب جديدة تخلق نماذج متعددة ومتنافسة.
هذا أيضاً ربما يمنح فسحة للتفكير خارج الصندوق، فحاجاتنا بعد الجائحة ستخضع للتقييم والمراجعة، وعادة ما يُبدع البشر في تلبية احتياجاتهم الجماعية.
«مائة يومٍ من العزلة»!
«مائة يومٍ من العزلة»!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة