لويزا ووه تسأل عن معنى أن تكون «غزاويا».. وتجيب

ذات مساء حين أطلقت «تلغرام بوكس» كتاب «قابلني في غزة»

لويزا تتحدث في مكتبة «وولف صن آند تيي»  -  غلاف «قابلني في غزة»
لويزا تتحدث في مكتبة «وولف صن آند تيي» - غلاف «قابلني في غزة»
TT

لويزا ووه تسأل عن معنى أن تكون «غزاويا».. وتجيب

لويزا تتحدث في مكتبة «وولف صن آند تيي»  -  غلاف «قابلني في غزة»
لويزا تتحدث في مكتبة «وولف صن آند تيي» - غلاف «قابلني في غزة»

جلست لويزا ووه، في صالة مكتبة «وولف صن آند تيي» الصغيرة، ولكن المعروفة في منطقتها على الأقل، هادئة، في مساء خصص لإطلاق كتابها الجديد «قابلني في غزة»، وسط ترقب الحضور لما ستقوله عن غزة، المراسلة السابقة لهيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي في أنغولا، التي جعلت من حقوق الإنسان، والعيش بين من فقدوا حقوقهم الشخصية والاجتماعية الإنسانية والوطنية، ومكافحة جرائم الاتجار بالبشر، عملا دؤوبا لها في أكثر من منظمة محلية في بريطانيا، وعلى المستوى الدولي.
قدّم ميتشيل البرت، المحرر في دار نشر «تلغرام بوكس»، التي أصدرت الكتاب، لويزا أولا، من أمام منصّة لا وجود لها، بكلمات قليلة، لكنها كافية لبعث ذلك الترقب، تعرّفنا من خلالها أكثر على لويزا: عاشت في قطاع غزة وعملت، في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 2007, إلى أبريل (نيسان) 2009. ومن أعمالها الأخرى: «سماع الطيور تحلق: عام من الترحال في منغوليا»، و«بيع أولغا» وهي قصص عن الاتجار بالبشر.
تقدمت لويزا إلى المكان المخصص لها، وهو قابل للتغيير، إذ لا منصة ولا طاولة معدة للمتحدثين، وبدلا من التحدث عن كتابها مباشرة، أخذت الجميع إلى غزة، تلبية لدعوتها التي يحملها عنوان الكتاب «قابلني في غزة». تحدثت عن الناس هناك. عن حياة لا تشبه الحياة في أي مكان. ثم دخلت ذاكرتها المسجلة في الكتاب، وطافت بنا عبر الحكايات التي لا تشبه حكايات الآخرين. عن غزة التي تعيش بين «احتلالين» اثنين عاشت لويزا مع سكان مخيمات غزة تفاصيلهما: احتلال إسرائيلي زاد عمره على 64 سنة، لملم مستوطناته التي حالت دون سكان خان يونس مثلا وبحرهم الذي يعشقونه كالسماء، في عهد شارون، وخرج. لكنه أبقى مفاتيح كل المعابر - عدا رفح الذي احتفظت به مصر في جيبها - بيد حكومته، وأورثه لمن جاء بعده. استبدل الاحتلال الإسرائيلي «الحصار» باسمه المعلن، وواصله، وما يزال يشدده، حتى اليوم. أما «الاحتلال الآخر»، فهو سيل من التقاليد والممارسات والمظاهر التي نمت وترعرعت في ظل حكم حماس في غزة. روت لويزا بفرح ظاهر مسترجع من زمن أحبته، كيف دعاها صديق وزوجته، إلى سهرة رأس السنة في بيته. وكيف التقت مجموعة من حركة فتح ومن خارجها في البيت واحتفلوا سرا، غنوا ورقصوا حتى ملّ منهم السهر، وعادت هي إلى مقر إقامتها ببعض فرحها وما جمعته من سعادة في تلك الليلة التي لا يحتفل فيها بقية العالم علانية وحسب، بل ويزعجون الكون بصخبهم وبألعابهم النارية، حتى يكاد المرء يسمع صوت فرحهم بالعام الجديد في أستراليا، بينما يحتفل في قبرص مثلا. وحين خرجت لويزا من دائرة الفرح، بدأت تقص حكايات أخرى عن المعاناة التي لا تراها شعوب الغرب بمجملها، في وسائل الإعلام المبرمجة على تجهيلهم بحقائق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
تروي لويزا قصصا عن الاحتفالات المسيحية خلال شهر رمضان، عن حب الناس للبحر، عن التحديات التي يواجهها هذا الشعب الذي لا يقهر، رغم الصراع القاسي والعنيف، والدموي أيضا، المستمر مع منذ نكبة 1948.
حقا: «هل عرف الغزاويون السعادة يوما؟ وهل عكس مراسلو التلفزة في تقاريرهم حياة الناس العادية في أكبر سجن مفتوح في العالم؟».
ردّت لويزا على أسئلة طرحتها على الغلاف الداخلي لكتابها. فتحدثت بحميمية بالغة الدف، وبنبرة لا تخلو من حنين بلغ حافة اللهفة على العودة إلى «أكبر سجن مفتوح» في العالم. ذكرت أسماء عدد من العائلات الغزاوية كأنها تخاطبهم. سألتها مقاطعا، إن كانت التقت أحدا من عائلتي. أجابت بالنفي، وقالت غزة كبيرة ومكتظة: «ليتني تعرّفت عليك من قبل». «والدتي هناك في مخيم خان يونس». قلت. كانت والدتي لم تزل على قيد الحياة قبل قرابة عام ونصف العام. بكت لويزا. أبكتني لويزا. تعانقنا. صفق الحاضرون لغزاويين أحدهما أصلي، والآخر اسكوتلندي (لويزا) التي «تبناها» كثيرون في غزة خلال سنوات إقامتها بين أهاليها.
يقع كتاب «قابلني في غزة»، في 300 صفحة من القطع المتوسط. وينقسم إلى 5 أجزاء، تسبقها صفحتان من الكلمات العربية الأكثر استخداما مما يرد في متن الكتاب، وكذلك بعض التعابير الخاصة مثل «أبو» و«نقاب» و«نكبة» و«حفلة»، وكلمات الترحيب العامية، وأسماء النباتات الشهيرة التي لا تفارق مأدبة الفلسطينيين مثل الزعتر والنعناع، وحتى «الزنانة» التي يطلقها الغزاويون على الطائرة من دون طيار التي لا تفارق سماء القطاع على مدار الساعة، وغيرها. يلي ذلك، تقديم من 4 صفحات من سرد روائي شيق. وخاتمة، تقدم فيها المؤلفة الشكر لكل من ساعدها خلال إقامتها في غزة وسهّل لها سبل حركتها، ووفر لها ما ترغب فيه من لقاءات وحوارات ومعلومات. وخصت لويزا بالذكر، المحامي راجي الصوراني وفريقه من المدافعين عن حقوق الإنسان في غزة. وكذلك بعض من عملت معهم مباشرة: خليل، وحمدي، ومنى، وجنان، وريم وصلاح. ثم مجموعة أصدقائها في غزة، الذين شكرتهم على الضحك والبهجة والفرح، والكرم، والدعم الذي لاقته منهم. وعددت أسماءهم فردا فردا.
«قابلني في غزة» بمجمله، مشاهد متعددة تشكل بانوراما للحياة في غزة، وجدارية قاسية التفاصيل، وممتعة أيضا حول الحياة في الشريط الفلسطيني المحاصر من الخارج ومن الداخل أيضا. إنه مشاهد متلاحقة في إيقاع مشوق، لسيرة روائية للواقع الذي عاشته المؤلفة، ولنماذج غزاوية تعبر عن ملامح حياة بأكملها.



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.