أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

الوزير الخريج من «جونز هوبكنز» انتصر في مواجهاته مع «الكوليرا» و{حمى الوادي المتصدع» و{الإخوان»

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار
TT

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

حوّلت تصريحات عفوية لوزير الصحة السوداني الدكتور أكرم علي التوم، إلى «بطل» عند البعض لشفافيته الصادمة، وإلى «فاشل» مثير للغضب عند سودانيين رأوا فيها استفزازاً غير مسبوق. وكان كلام الوزير قد جاء في أحد إيجازاته اليومية، وفيه حذّر المواطنين من انتشار فيروس «كوفيد - 19»، إذ قال: «هذا مرض لا علاج له، كل ما نفعله هو أن نصرف لك محاليل وريدية (دربات) ومسكّن للألم (بنادول)، وإذا اختنقتَ نعطيك أكسجين، وإن ضاقت عليك فستموت».

تصريحات الوزير أكرم التوم الصادمة حول جائحة «كوفيد - 19» شغلت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، التي اعتبرتها بعضها «شفافية مطلوبة». وفي المقابل، داخل السودان، بينما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ناقمة على هذه الصراحة المُفرطة، واستقبلها بعض السودانيين بموجة من السخرية، اعتبرها آخرون جدية غير معهودة في المسؤولين السودانيين، وغرّد عدد من النشطاء المؤيدين للتوم. ومن بين التغريدات تغريدة لناشط في موقع «تويتر» جاء فيها: «في كل الأزمات والأوبئة من الملاريا إلى الكورونا (الكوفيد - 19)، فإن سعادة الوزير كان واقعياً وقوياً ومقاتلاً وإنسانياً، بذات البساطة والسماحة والاحترام».

«سوابق» صراحة الوزير

في الواقع كلام التوم الجريء والصادم لم يبدأ بتصريحه المخيف بشأن الجائحة، فلقد سبق له أن صدم التقاليد الصحية السودانية، عندما أعلن بعد زهاء شهر من تسميته وزيراً للصحة عن وصول الأوضاع في ولاية النيل الأزرق (جنوب الخرطوم) مع بلوغ مرض الكوليرا مرحلة الوباء، وأبلغ «منظمة الصحة العالمية» بأمر المنطقة الموبوءة، فتدخلت وقدمت المساعدات لوزارته، وقضت على الكوليرا المزمنة في تلك الولاية... مع العلم بأن السلطات الصحية في عهد حكم المعزول عمر البشير كانت تقلل من شأنها، وتعتبرها مجرد «إسهال مائي».
أيضاً، «صدم» الوزير التوم في أكتوبر (تشرين الأول) أوساط مصدّري اللحوم السودانيين بكشفه عن تفشي «حمّى الوادي صالمتصدع» في القطيع الحيواني في ولاية نهر النيل (شمال البلاد)، صوهو القرار الذي لقي استهجاناً كبيراً للخسائر التي سببها لرعاة الماشية ومصدّري اللحوم والماشية، استغله إعلام الجماعات الإسلامية في شن حملات مناوئة قاسية ضده، إلا أنه لم ينحنِ لها، بل واصل جهوده لمواجهة الوباء مستعيناً بعلاقاته بالمنظمات الدولية. وبالفعل بعد أشهر قليلة أفلح الرجل في مواجهة الوباء، وكان أن أعلنت «منظمة الصحة العالمية» خلو القطيع السوداني من «حمى الوادي المتصدع» التي تصيب الإنسان والحيوان، وعادت صادرات اللحوم والمواشي السودانية إلى أسواقها مجدداً.

خلفية عائلية

بالمناسبة، تعدّ حاجة كاشف، والدة أكرم التوم، واحدة من أشهر النساء اللاتي تبنين قضية المرأة في السودان، وبسبب شهرتها تحوّلت إلى «أيقونة» في الاتحاد النسائي السوداني، الذي تُعد واحدة من مؤسساته إلى جانب فاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهرة وأخريات من الرائدات.
وشكلت هذه النخبة من الرائدات أول مكتب تنفيذي للاتحاد، وبما يخصها، تقديراً لجهودها التعليمية وفي قضية المرأة، منحت درجة وزير.
أما والده علي التوم، الذي تُوفي في عام 2005، ونقلت نعيه «الشرق الأوسط» في حينه؛ فهو أحد خبراء الاقتصاد السوداني، وشغل إلى جانب ذلك منصب وزير الزراعة في إحدى حكومات الرئيس الأسبق جعفر النميري. ويُعدّ أحد رواد الحركة الوطنية السودانية، وشغل عدداً من الوظائف في «منظمة الأغذية العالمية».
واختير أكرم المولود وسط هذه الأسرة المستنيرة والمتنفذة وزيراً للصحة، ليكمل تسلسل الاستيزار الموروث في أسرته، كأنه وزير بالوراثة يصدق عليه قول الشاعر الشهير سيف الدين الدسوقي: «مُذ كنتُ غراماً في عيني أمي وأبي... وحملتُ الحُبّ معي بدمي».
وفي يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2019 أدى «الوزير الابن» اليمين الدستورية وزيراً للصحة في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ليتوّج وزيراً ابن وزير وابن وزيرة.

البداية والنشأة

ولد الوزير أكرم على التوم في أم درمان 18 سبتمبر (أيلول) 1961. وتخرج بشهادة بكالوريوس الطب والجراحة في جامعة الخرطوم عام 1985، وعمل طبيبا عمومياً في السودان، قبل أن ينال منحة «فولبرايت» للدراسات العليا في 1993. ويحصل على الماجستير في الصحة العامة من جامعة جونز هوبكنز الأميركية الشهيرة 1993.
وحقاً، يحتكم الرجل على سيرة باذخة في مجاله، فلقد عمل في «منظمة الصحة العالمية»، ونال جائزة أفضل مدير للصحة في إقليم أفريقيا عام 2009، ثم انتخب عام 2015 «زميلاً متميزاً» في كلية الصحة العامة، في الكلية الملكية للأطباء الباطنيين في المملكة المتحدة.
اشتهر أكرم التوم بأنه الشخص الذي تولّى صياغة «استراتيجية الصحة للقارة الأفريقية 2016 - 2030. لصالح (منظمة الصحة العالمية)، التي أجازها وزراء الصحة الأفارقة، واعتمدت كاستراتيجية صحية لأفريقيا من قبل رؤساء دول الاتحاد الأفريقي».
عمل التوم طبيباً لمدة 6 سنوات في السودان، ولمدة 24 سنة في مجال الصحة العامة مع «منظمة الصحة العالمية». وإبان فترة عمله هناك، كان من الملتزمين بمشاريع «التنمية المستدامة» في بلاده وفي أفريقيا، إضافة إلى نشر التغطية الصحية الشاملة للفئات المهمّشة والمُستَلبة في المجتمع، من خلال عمله في تطوير وتنسيق وسن السياسات الصحية في المجتمعات الأفريقية، بما فيها إجراء إصلاحات في سياسات الصحة العامة والتخطيط الصحي الاستراتيجي.
‏وللوزير التوم خبرات ثرية في مجالات برامج الصحة الإنجابية المتكاملة، وصحة الأم والطفل والمراهقين، والتغذية، ومكافحة الأمراض السارية وغير السارية، بالإضافة إلى خبرته في إدارة البرامج الصحية والتنموية، وتقديم الاستشارات الفنية لبلدان ثرية وأخرى منخفضة ومتوسطة الدخل، بجانب الدول الهشة في مجال الصحة، في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
فضلاً عما تقدم، اشتغل التوم خلال عمله مع «منظمة الصحة العالمية» في العديد من دول العالم، وعمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، و«اليونسيف» و«البنك الدولي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» و«برنامج الغذاء العالمي». وكذلك عمل التوم مع الجهات المانحة مثل «الأمم المتحدة»، و«الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا»، فضلاً عن الحكومة الأميركية، وغيرها. ومن ثم، أسهم في استقطاب الموارد للدول الفقيرة من المانحين، وأنشأ شراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي في الدول التي عمل بها.

نظام صحي مهترئ

أما في السودان، فقد ورث التوم نظاماً صحياً مهترئاً خربه النظام المعزول، وقضى تماماً على قطاعه العام لصالح سماسرته من «تجار الصحة». وهو ما فرض على الوزير الجديد منذ أيامه الأول الاصطدام مع «لوبيات» الاتجار في الدواء... وتعهَّد بإعادة العافية إلى القطاع الصحي العام، وإنشاء بنية صحية مؤسسية تتيح العلاج المجاني للمواطنين، وتفكيك «كارتيلات» الإسلاميين الصحية الخاصة.
ولكن قبل أن يكمل التوم مخططه، داهمت السودان والعالم جائحة «كوفيد - 19»، فأربكت حسابته الصحية وخططه. إذ تركته الجائحة، التي شلت الأنظمة الصحية في بلدان العالم المتقدمة والثرية، شبه أعزل، سلاحه مثلوم، والمؤسسات الصحية في البلاد تفتقر إلى كل شيء. لكنه قاد بصراحته المعهودة مواجهة الجائحة. ومع أنه لقي ما لقي من عنت، فإنه أفلح في استقطاب دعم مقدّر.
لم تعجب طريقته المتحدّية في إدارة الشأن الصحي الكثيرين، فسارع كثيرون، وبالأخص، قطاع المستثمرين في الصحة والدواء من أنصار النظام القديم، لوضع الحواجز أمامه، وإثارة الحنق ضده. غير أن الرجل صمد في المواجهة، إلى أن جاءت الطامة الكبرى، حين تسرّبت شائعات عن وجود «اتفاق» بين مكوّنات الحكم الانتقالي لإقالته من الوزارة.

شائعات الإقالة

لقد دأب التوم على تسمية تدابيره لمواجهة الجائحة الحالية، ففي 12 مايو (أيار) الحالي، نقلت «العين الإخبارية» عن مصادر أن اجتماعاً لشركاء الحكم (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، قوى إعلان الحرية والتغيير) أوصى بإقالته بعد حملته الفاشلة في مواجهة أزمة تفشي الجائحة، بيد أن «قوى الحرية والتغيير» نفت أن تكون قد أوصت بذلك، فسارع مجلس السيادة إلى نشر خبر في مواقعة الرسمية على الإنترنت، وأكد فيه توافق الأطراف الثلاثة على إقالته، ثم سُحب الخبر من المواقع، وبعدما أعلن رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك ومجلسه تجديد ثقتهما في وزير الصحة، ونفيا عزمهم على إقالته، أعاد المجلس السيادي نشر الخبر مجدداً.
جاء هذا الارتباك حول الخبر، لصالح أكرم التوم. إذ أعلنت «لجان المقاومة» (تنظيمات شبابية في الأحياء نظمت المواكب التي أسقطت نظام البشير) دعمها غير المحدود للرجل، وهدّدت بخرق حظر التجوال والإجراءات الاحترازية التي قررتها وزارة الصحة، وتسيير المواكب الاحتجاجية وحرق الإطارات في الشوارع تضامناً مع الوزير، باعتباره أحد وزراء حكومة الثورة... بل وخرجت مواكب احتجاجية محدودة في بعض أنحاء العاصمة الخرطوم لتأييد الوزير.
أكثر من هذا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي دعماً للتوم، ونشط «تريند» في موقعي «تويتر» و«فيسبوك» تحت «هاشتاغ»: «شكراً دكتور أكرم، شكراً لجيشنا الأبيض»، معتبرين إقالته مؤامرة من «فلول نظام الإسلاميين»، وتضمّنت تغريدات من قبيل «دكتور أكرم من ضمن أفضل الأطباء حول العالم، من الذين استطاعوا التصدي لفيروس كورونا».
في المقابل، أخذ عليه أنصار النظام السابق تصريحات إبان الأيام الأولى لبدء تفشي الجائحة قال فيها: «نحن قدرنا على نظام البشير، ولن تغلبنا (الكورونا) الصغيرة هذه». ولكن، حين انتشر الوباء في البلاد، اتخذوا منها مادة سخرية للتقليل منه ضمن صراعهم مع الحكومة الانتقالية، واستغلوا تهديده بالموت لمصابي الجائحة حال عدم الالتزام بالحظر، بمقولة منسوبة لوزير الصحة السابق بحر أبو قرادة قال فيها: «نحن نصرف أموالاً طائلة على مرضى السرطان، وفي الآخر يموتون».
وهكذا انقسم المغردون إلى فريقين: الأول ضمّ منتقدين رفضوا تصريحاته الصادمة وكونها أول مرة ينتقد فيها وزير المواطنين بهذه الطريقة (وعلى الوسائط كافة)، ومع هؤلاء جماعات رأوا فيها محاولة لتغطية عجز الحكومة عن وقف انتشار الوباء. والثاني، ضم فئة مناصرة له اعتبرته أفضل وزير يمكن أن يتوفر للبلاد، استناداً إلى دوره في صياغة استراتيجية الصحة العالمية في أفريقيا، وجائزة بوصفه أفضل مدير طبي في الإقليم.
وبينما تتباين الآراء بشأن الوزير، وتسخر من ضعف نظامه الصحي، جاءت التوم «تزكية غير متوقعة» من «منظمة الصحة العالمية»، إذ جرى انتخابه واحداً من نواب الجمعية «العامة لهيئة الصحة العالمية»، ممثلاً لمنطقة الشرق الأوسط ولمدة عام، في دورتها الـ73، وقالت المنظمة إنه أحد 34 شخصاً يمتلكون مؤهلات فنية في ميدان الصحة معيّنين من قبل دولة عضو انتخبوا لعضوية المجلس من قبل جمعية الصحة.
ولكن، رغم هذا، ومع كل خبراته، فإن مستقبل الوزير أكرم التوم مرتبط بمدى نجاحه في الحد من انتشار «كوفيد - 19»، مثل فارس بلا جواد؛ إذ انتشرت الجائحة في كل ولايات البلاد، وتصاعدت أعداد المصابين بصورة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي، بينما يقلل أعداد من السودانيين من مخاطر المرض، ولا يقيمون اعتباراً للإجراءات الصحية، بما فيها حظر التجوال وإغلاق العاصمة الخرطوم... ويقف على رأسهم رموز النظام المعزول الذين خرجوا في مظاهرة احتجاجية هتفوا خلالها «ما في كورونا... ما تغشونا»، وتهدف لإضعاف الحكومة الانتقالية، من خلال استهداف الوزير.
أيضاً لقي التوم انتقادات حادة على طريقة إدارته للأزمة وطريقة تعامله مع عائدين إلى البلاد، سُمِح لهم بالدخول دون الخضوع للإجراءات الصحية رغم إغلاق المطارات والمعابر والموانئ. ومن ناحية ثانية، يواجه التوم أزمة السودانيين العالقين خارج البلاد، الذين رفض السماح لهم بدخول البلاد، خاصة من مصر، وهو أحد محرّكات تصريحه المثير للجدل، الذي قال فيه: «لن أسمح بعودة العالقين في مثل هذه الظروف، ولو رغبتم في عودة أحبائكم، فعليكم بالالتزام بالحظر والإغلاق».
ولأن التحدّي مثل تنين يضع هدية على فمه، وضع التوم كمّامته الطبية على فمه، مواجهاً الصعاب التي تعيشها حكومة «الفترة الانتقالية»، والجائحة التي فاقمتها، وغدر بعض الرفاق الذين أداروا له الأكتاف الباردة.
وحتى الآن، ظَلّ الوزير، ابن الوزيرة حاجة كاشف، وابن الوزير علي التوم، محتفظاً بكرسيه القَلِق رغم أنف الراغبين بإزاحته.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.