أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

الوزير الخريج من «جونز هوبكنز» انتصر في مواجهاته مع «الكوليرا» و{حمى الوادي المتصدع» و{الإخوان»

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار
TT

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

حوّلت تصريحات عفوية لوزير الصحة السوداني الدكتور أكرم علي التوم، إلى «بطل» عند البعض لشفافيته الصادمة، وإلى «فاشل» مثير للغضب عند سودانيين رأوا فيها استفزازاً غير مسبوق. وكان كلام الوزير قد جاء في أحد إيجازاته اليومية، وفيه حذّر المواطنين من انتشار فيروس «كوفيد - 19»، إذ قال: «هذا مرض لا علاج له، كل ما نفعله هو أن نصرف لك محاليل وريدية (دربات) ومسكّن للألم (بنادول)، وإذا اختنقتَ نعطيك أكسجين، وإن ضاقت عليك فستموت».

تصريحات الوزير أكرم التوم الصادمة حول جائحة «كوفيد - 19» شغلت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، التي اعتبرتها بعضها «شفافية مطلوبة». وفي المقابل، داخل السودان، بينما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ناقمة على هذه الصراحة المُفرطة، واستقبلها بعض السودانيين بموجة من السخرية، اعتبرها آخرون جدية غير معهودة في المسؤولين السودانيين، وغرّد عدد من النشطاء المؤيدين للتوم. ومن بين التغريدات تغريدة لناشط في موقع «تويتر» جاء فيها: «في كل الأزمات والأوبئة من الملاريا إلى الكورونا (الكوفيد - 19)، فإن سعادة الوزير كان واقعياً وقوياً ومقاتلاً وإنسانياً، بذات البساطة والسماحة والاحترام».

«سوابق» صراحة الوزير

في الواقع كلام التوم الجريء والصادم لم يبدأ بتصريحه المخيف بشأن الجائحة، فلقد سبق له أن صدم التقاليد الصحية السودانية، عندما أعلن بعد زهاء شهر من تسميته وزيراً للصحة عن وصول الأوضاع في ولاية النيل الأزرق (جنوب الخرطوم) مع بلوغ مرض الكوليرا مرحلة الوباء، وأبلغ «منظمة الصحة العالمية» بأمر المنطقة الموبوءة، فتدخلت وقدمت المساعدات لوزارته، وقضت على الكوليرا المزمنة في تلك الولاية... مع العلم بأن السلطات الصحية في عهد حكم المعزول عمر البشير كانت تقلل من شأنها، وتعتبرها مجرد «إسهال مائي».
أيضاً، «صدم» الوزير التوم في أكتوبر (تشرين الأول) أوساط مصدّري اللحوم السودانيين بكشفه عن تفشي «حمّى الوادي صالمتصدع» في القطيع الحيواني في ولاية نهر النيل (شمال البلاد)، صوهو القرار الذي لقي استهجاناً كبيراً للخسائر التي سببها لرعاة الماشية ومصدّري اللحوم والماشية، استغله إعلام الجماعات الإسلامية في شن حملات مناوئة قاسية ضده، إلا أنه لم ينحنِ لها، بل واصل جهوده لمواجهة الوباء مستعيناً بعلاقاته بالمنظمات الدولية. وبالفعل بعد أشهر قليلة أفلح الرجل في مواجهة الوباء، وكان أن أعلنت «منظمة الصحة العالمية» خلو القطيع السوداني من «حمى الوادي المتصدع» التي تصيب الإنسان والحيوان، وعادت صادرات اللحوم والمواشي السودانية إلى أسواقها مجدداً.

خلفية عائلية

بالمناسبة، تعدّ حاجة كاشف، والدة أكرم التوم، واحدة من أشهر النساء اللاتي تبنين قضية المرأة في السودان، وبسبب شهرتها تحوّلت إلى «أيقونة» في الاتحاد النسائي السوداني، الذي تُعد واحدة من مؤسساته إلى جانب فاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهرة وأخريات من الرائدات.
وشكلت هذه النخبة من الرائدات أول مكتب تنفيذي للاتحاد، وبما يخصها، تقديراً لجهودها التعليمية وفي قضية المرأة، منحت درجة وزير.
أما والده علي التوم، الذي تُوفي في عام 2005، ونقلت نعيه «الشرق الأوسط» في حينه؛ فهو أحد خبراء الاقتصاد السوداني، وشغل إلى جانب ذلك منصب وزير الزراعة في إحدى حكومات الرئيس الأسبق جعفر النميري. ويُعدّ أحد رواد الحركة الوطنية السودانية، وشغل عدداً من الوظائف في «منظمة الأغذية العالمية».
واختير أكرم المولود وسط هذه الأسرة المستنيرة والمتنفذة وزيراً للصحة، ليكمل تسلسل الاستيزار الموروث في أسرته، كأنه وزير بالوراثة يصدق عليه قول الشاعر الشهير سيف الدين الدسوقي: «مُذ كنتُ غراماً في عيني أمي وأبي... وحملتُ الحُبّ معي بدمي».
وفي يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2019 أدى «الوزير الابن» اليمين الدستورية وزيراً للصحة في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ليتوّج وزيراً ابن وزير وابن وزيرة.

البداية والنشأة

ولد الوزير أكرم على التوم في أم درمان 18 سبتمبر (أيلول) 1961. وتخرج بشهادة بكالوريوس الطب والجراحة في جامعة الخرطوم عام 1985، وعمل طبيبا عمومياً في السودان، قبل أن ينال منحة «فولبرايت» للدراسات العليا في 1993. ويحصل على الماجستير في الصحة العامة من جامعة جونز هوبكنز الأميركية الشهيرة 1993.
وحقاً، يحتكم الرجل على سيرة باذخة في مجاله، فلقد عمل في «منظمة الصحة العالمية»، ونال جائزة أفضل مدير للصحة في إقليم أفريقيا عام 2009، ثم انتخب عام 2015 «زميلاً متميزاً» في كلية الصحة العامة، في الكلية الملكية للأطباء الباطنيين في المملكة المتحدة.
اشتهر أكرم التوم بأنه الشخص الذي تولّى صياغة «استراتيجية الصحة للقارة الأفريقية 2016 - 2030. لصالح (منظمة الصحة العالمية)، التي أجازها وزراء الصحة الأفارقة، واعتمدت كاستراتيجية صحية لأفريقيا من قبل رؤساء دول الاتحاد الأفريقي».
عمل التوم طبيباً لمدة 6 سنوات في السودان، ولمدة 24 سنة في مجال الصحة العامة مع «منظمة الصحة العالمية». وإبان فترة عمله هناك، كان من الملتزمين بمشاريع «التنمية المستدامة» في بلاده وفي أفريقيا، إضافة إلى نشر التغطية الصحية الشاملة للفئات المهمّشة والمُستَلبة في المجتمع، من خلال عمله في تطوير وتنسيق وسن السياسات الصحية في المجتمعات الأفريقية، بما فيها إجراء إصلاحات في سياسات الصحة العامة والتخطيط الصحي الاستراتيجي.
‏وللوزير التوم خبرات ثرية في مجالات برامج الصحة الإنجابية المتكاملة، وصحة الأم والطفل والمراهقين، والتغذية، ومكافحة الأمراض السارية وغير السارية، بالإضافة إلى خبرته في إدارة البرامج الصحية والتنموية، وتقديم الاستشارات الفنية لبلدان ثرية وأخرى منخفضة ومتوسطة الدخل، بجانب الدول الهشة في مجال الصحة، في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
فضلاً عما تقدم، اشتغل التوم خلال عمله مع «منظمة الصحة العالمية» في العديد من دول العالم، وعمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، و«اليونسيف» و«البنك الدولي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» و«برنامج الغذاء العالمي». وكذلك عمل التوم مع الجهات المانحة مثل «الأمم المتحدة»، و«الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا»، فضلاً عن الحكومة الأميركية، وغيرها. ومن ثم، أسهم في استقطاب الموارد للدول الفقيرة من المانحين، وأنشأ شراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي في الدول التي عمل بها.

نظام صحي مهترئ

أما في السودان، فقد ورث التوم نظاماً صحياً مهترئاً خربه النظام المعزول، وقضى تماماً على قطاعه العام لصالح سماسرته من «تجار الصحة». وهو ما فرض على الوزير الجديد منذ أيامه الأول الاصطدام مع «لوبيات» الاتجار في الدواء... وتعهَّد بإعادة العافية إلى القطاع الصحي العام، وإنشاء بنية صحية مؤسسية تتيح العلاج المجاني للمواطنين، وتفكيك «كارتيلات» الإسلاميين الصحية الخاصة.
ولكن قبل أن يكمل التوم مخططه، داهمت السودان والعالم جائحة «كوفيد - 19»، فأربكت حسابته الصحية وخططه. إذ تركته الجائحة، التي شلت الأنظمة الصحية في بلدان العالم المتقدمة والثرية، شبه أعزل، سلاحه مثلوم، والمؤسسات الصحية في البلاد تفتقر إلى كل شيء. لكنه قاد بصراحته المعهودة مواجهة الجائحة. ومع أنه لقي ما لقي من عنت، فإنه أفلح في استقطاب دعم مقدّر.
لم تعجب طريقته المتحدّية في إدارة الشأن الصحي الكثيرين، فسارع كثيرون، وبالأخص، قطاع المستثمرين في الصحة والدواء من أنصار النظام القديم، لوضع الحواجز أمامه، وإثارة الحنق ضده. غير أن الرجل صمد في المواجهة، إلى أن جاءت الطامة الكبرى، حين تسرّبت شائعات عن وجود «اتفاق» بين مكوّنات الحكم الانتقالي لإقالته من الوزارة.

شائعات الإقالة

لقد دأب التوم على تسمية تدابيره لمواجهة الجائحة الحالية، ففي 12 مايو (أيار) الحالي، نقلت «العين الإخبارية» عن مصادر أن اجتماعاً لشركاء الحكم (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، قوى إعلان الحرية والتغيير) أوصى بإقالته بعد حملته الفاشلة في مواجهة أزمة تفشي الجائحة، بيد أن «قوى الحرية والتغيير» نفت أن تكون قد أوصت بذلك، فسارع مجلس السيادة إلى نشر خبر في مواقعة الرسمية على الإنترنت، وأكد فيه توافق الأطراف الثلاثة على إقالته، ثم سُحب الخبر من المواقع، وبعدما أعلن رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك ومجلسه تجديد ثقتهما في وزير الصحة، ونفيا عزمهم على إقالته، أعاد المجلس السيادي نشر الخبر مجدداً.
جاء هذا الارتباك حول الخبر، لصالح أكرم التوم. إذ أعلنت «لجان المقاومة» (تنظيمات شبابية في الأحياء نظمت المواكب التي أسقطت نظام البشير) دعمها غير المحدود للرجل، وهدّدت بخرق حظر التجوال والإجراءات الاحترازية التي قررتها وزارة الصحة، وتسيير المواكب الاحتجاجية وحرق الإطارات في الشوارع تضامناً مع الوزير، باعتباره أحد وزراء حكومة الثورة... بل وخرجت مواكب احتجاجية محدودة في بعض أنحاء العاصمة الخرطوم لتأييد الوزير.
أكثر من هذا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي دعماً للتوم، ونشط «تريند» في موقعي «تويتر» و«فيسبوك» تحت «هاشتاغ»: «شكراً دكتور أكرم، شكراً لجيشنا الأبيض»، معتبرين إقالته مؤامرة من «فلول نظام الإسلاميين»، وتضمّنت تغريدات من قبيل «دكتور أكرم من ضمن أفضل الأطباء حول العالم، من الذين استطاعوا التصدي لفيروس كورونا».
في المقابل، أخذ عليه أنصار النظام السابق تصريحات إبان الأيام الأولى لبدء تفشي الجائحة قال فيها: «نحن قدرنا على نظام البشير، ولن تغلبنا (الكورونا) الصغيرة هذه». ولكن، حين انتشر الوباء في البلاد، اتخذوا منها مادة سخرية للتقليل منه ضمن صراعهم مع الحكومة الانتقالية، واستغلوا تهديده بالموت لمصابي الجائحة حال عدم الالتزام بالحظر، بمقولة منسوبة لوزير الصحة السابق بحر أبو قرادة قال فيها: «نحن نصرف أموالاً طائلة على مرضى السرطان، وفي الآخر يموتون».
وهكذا انقسم المغردون إلى فريقين: الأول ضمّ منتقدين رفضوا تصريحاته الصادمة وكونها أول مرة ينتقد فيها وزير المواطنين بهذه الطريقة (وعلى الوسائط كافة)، ومع هؤلاء جماعات رأوا فيها محاولة لتغطية عجز الحكومة عن وقف انتشار الوباء. والثاني، ضم فئة مناصرة له اعتبرته أفضل وزير يمكن أن يتوفر للبلاد، استناداً إلى دوره في صياغة استراتيجية الصحة العالمية في أفريقيا، وجائزة بوصفه أفضل مدير طبي في الإقليم.
وبينما تتباين الآراء بشأن الوزير، وتسخر من ضعف نظامه الصحي، جاءت التوم «تزكية غير متوقعة» من «منظمة الصحة العالمية»، إذ جرى انتخابه واحداً من نواب الجمعية «العامة لهيئة الصحة العالمية»، ممثلاً لمنطقة الشرق الأوسط ولمدة عام، في دورتها الـ73، وقالت المنظمة إنه أحد 34 شخصاً يمتلكون مؤهلات فنية في ميدان الصحة معيّنين من قبل دولة عضو انتخبوا لعضوية المجلس من قبل جمعية الصحة.
ولكن، رغم هذا، ومع كل خبراته، فإن مستقبل الوزير أكرم التوم مرتبط بمدى نجاحه في الحد من انتشار «كوفيد - 19»، مثل فارس بلا جواد؛ إذ انتشرت الجائحة في كل ولايات البلاد، وتصاعدت أعداد المصابين بصورة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي، بينما يقلل أعداد من السودانيين من مخاطر المرض، ولا يقيمون اعتباراً للإجراءات الصحية، بما فيها حظر التجوال وإغلاق العاصمة الخرطوم... ويقف على رأسهم رموز النظام المعزول الذين خرجوا في مظاهرة احتجاجية هتفوا خلالها «ما في كورونا... ما تغشونا»، وتهدف لإضعاف الحكومة الانتقالية، من خلال استهداف الوزير.
أيضاً لقي التوم انتقادات حادة على طريقة إدارته للأزمة وطريقة تعامله مع عائدين إلى البلاد، سُمِح لهم بالدخول دون الخضوع للإجراءات الصحية رغم إغلاق المطارات والمعابر والموانئ. ومن ناحية ثانية، يواجه التوم أزمة السودانيين العالقين خارج البلاد، الذين رفض السماح لهم بدخول البلاد، خاصة من مصر، وهو أحد محرّكات تصريحه المثير للجدل، الذي قال فيه: «لن أسمح بعودة العالقين في مثل هذه الظروف، ولو رغبتم في عودة أحبائكم، فعليكم بالالتزام بالحظر والإغلاق».
ولأن التحدّي مثل تنين يضع هدية على فمه، وضع التوم كمّامته الطبية على فمه، مواجهاً الصعاب التي تعيشها حكومة «الفترة الانتقالية»، والجائحة التي فاقمتها، وغدر بعض الرفاق الذين أداروا له الأكتاف الباردة.
وحتى الآن، ظَلّ الوزير، ابن الوزيرة حاجة كاشف، وابن الوزير علي التوم، محتفظاً بكرسيه القَلِق رغم أنف الراغبين بإزاحته.


مقالات ذات صلة

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.


خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.