أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

الوزير الخريج من «جونز هوبكنز» انتصر في مواجهاته مع «الكوليرا» و{حمى الوادي المتصدع» و{الإخوان»

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار
TT

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

حوّلت تصريحات عفوية لوزير الصحة السوداني الدكتور أكرم علي التوم، إلى «بطل» عند البعض لشفافيته الصادمة، وإلى «فاشل» مثير للغضب عند سودانيين رأوا فيها استفزازاً غير مسبوق. وكان كلام الوزير قد جاء في أحد إيجازاته اليومية، وفيه حذّر المواطنين من انتشار فيروس «كوفيد - 19»، إذ قال: «هذا مرض لا علاج له، كل ما نفعله هو أن نصرف لك محاليل وريدية (دربات) ومسكّن للألم (بنادول)، وإذا اختنقتَ نعطيك أكسجين، وإن ضاقت عليك فستموت».

تصريحات الوزير أكرم التوم الصادمة حول جائحة «كوفيد - 19» شغلت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، التي اعتبرتها بعضها «شفافية مطلوبة». وفي المقابل، داخل السودان، بينما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ناقمة على هذه الصراحة المُفرطة، واستقبلها بعض السودانيين بموجة من السخرية، اعتبرها آخرون جدية غير معهودة في المسؤولين السودانيين، وغرّد عدد من النشطاء المؤيدين للتوم. ومن بين التغريدات تغريدة لناشط في موقع «تويتر» جاء فيها: «في كل الأزمات والأوبئة من الملاريا إلى الكورونا (الكوفيد - 19)، فإن سعادة الوزير كان واقعياً وقوياً ومقاتلاً وإنسانياً، بذات البساطة والسماحة والاحترام».

«سوابق» صراحة الوزير

في الواقع كلام التوم الجريء والصادم لم يبدأ بتصريحه المخيف بشأن الجائحة، فلقد سبق له أن صدم التقاليد الصحية السودانية، عندما أعلن بعد زهاء شهر من تسميته وزيراً للصحة عن وصول الأوضاع في ولاية النيل الأزرق (جنوب الخرطوم) مع بلوغ مرض الكوليرا مرحلة الوباء، وأبلغ «منظمة الصحة العالمية» بأمر المنطقة الموبوءة، فتدخلت وقدمت المساعدات لوزارته، وقضت على الكوليرا المزمنة في تلك الولاية... مع العلم بأن السلطات الصحية في عهد حكم المعزول عمر البشير كانت تقلل من شأنها، وتعتبرها مجرد «إسهال مائي».
أيضاً، «صدم» الوزير التوم في أكتوبر (تشرين الأول) أوساط مصدّري اللحوم السودانيين بكشفه عن تفشي «حمّى الوادي صالمتصدع» في القطيع الحيواني في ولاية نهر النيل (شمال البلاد)، صوهو القرار الذي لقي استهجاناً كبيراً للخسائر التي سببها لرعاة الماشية ومصدّري اللحوم والماشية، استغله إعلام الجماعات الإسلامية في شن حملات مناوئة قاسية ضده، إلا أنه لم ينحنِ لها، بل واصل جهوده لمواجهة الوباء مستعيناً بعلاقاته بالمنظمات الدولية. وبالفعل بعد أشهر قليلة أفلح الرجل في مواجهة الوباء، وكان أن أعلنت «منظمة الصحة العالمية» خلو القطيع السوداني من «حمى الوادي المتصدع» التي تصيب الإنسان والحيوان، وعادت صادرات اللحوم والمواشي السودانية إلى أسواقها مجدداً.

خلفية عائلية

بالمناسبة، تعدّ حاجة كاشف، والدة أكرم التوم، واحدة من أشهر النساء اللاتي تبنين قضية المرأة في السودان، وبسبب شهرتها تحوّلت إلى «أيقونة» في الاتحاد النسائي السوداني، الذي تُعد واحدة من مؤسساته إلى جانب فاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهرة وأخريات من الرائدات.
وشكلت هذه النخبة من الرائدات أول مكتب تنفيذي للاتحاد، وبما يخصها، تقديراً لجهودها التعليمية وفي قضية المرأة، منحت درجة وزير.
أما والده علي التوم، الذي تُوفي في عام 2005، ونقلت نعيه «الشرق الأوسط» في حينه؛ فهو أحد خبراء الاقتصاد السوداني، وشغل إلى جانب ذلك منصب وزير الزراعة في إحدى حكومات الرئيس الأسبق جعفر النميري. ويُعدّ أحد رواد الحركة الوطنية السودانية، وشغل عدداً من الوظائف في «منظمة الأغذية العالمية».
واختير أكرم المولود وسط هذه الأسرة المستنيرة والمتنفذة وزيراً للصحة، ليكمل تسلسل الاستيزار الموروث في أسرته، كأنه وزير بالوراثة يصدق عليه قول الشاعر الشهير سيف الدين الدسوقي: «مُذ كنتُ غراماً في عيني أمي وأبي... وحملتُ الحُبّ معي بدمي».
وفي يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2019 أدى «الوزير الابن» اليمين الدستورية وزيراً للصحة في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ليتوّج وزيراً ابن وزير وابن وزيرة.

البداية والنشأة

ولد الوزير أكرم على التوم في أم درمان 18 سبتمبر (أيلول) 1961. وتخرج بشهادة بكالوريوس الطب والجراحة في جامعة الخرطوم عام 1985، وعمل طبيبا عمومياً في السودان، قبل أن ينال منحة «فولبرايت» للدراسات العليا في 1993. ويحصل على الماجستير في الصحة العامة من جامعة جونز هوبكنز الأميركية الشهيرة 1993.
وحقاً، يحتكم الرجل على سيرة باذخة في مجاله، فلقد عمل في «منظمة الصحة العالمية»، ونال جائزة أفضل مدير للصحة في إقليم أفريقيا عام 2009، ثم انتخب عام 2015 «زميلاً متميزاً» في كلية الصحة العامة، في الكلية الملكية للأطباء الباطنيين في المملكة المتحدة.
اشتهر أكرم التوم بأنه الشخص الذي تولّى صياغة «استراتيجية الصحة للقارة الأفريقية 2016 - 2030. لصالح (منظمة الصحة العالمية)، التي أجازها وزراء الصحة الأفارقة، واعتمدت كاستراتيجية صحية لأفريقيا من قبل رؤساء دول الاتحاد الأفريقي».
عمل التوم طبيباً لمدة 6 سنوات في السودان، ولمدة 24 سنة في مجال الصحة العامة مع «منظمة الصحة العالمية». وإبان فترة عمله هناك، كان من الملتزمين بمشاريع «التنمية المستدامة» في بلاده وفي أفريقيا، إضافة إلى نشر التغطية الصحية الشاملة للفئات المهمّشة والمُستَلبة في المجتمع، من خلال عمله في تطوير وتنسيق وسن السياسات الصحية في المجتمعات الأفريقية، بما فيها إجراء إصلاحات في سياسات الصحة العامة والتخطيط الصحي الاستراتيجي.
‏وللوزير التوم خبرات ثرية في مجالات برامج الصحة الإنجابية المتكاملة، وصحة الأم والطفل والمراهقين، والتغذية، ومكافحة الأمراض السارية وغير السارية، بالإضافة إلى خبرته في إدارة البرامج الصحية والتنموية، وتقديم الاستشارات الفنية لبلدان ثرية وأخرى منخفضة ومتوسطة الدخل، بجانب الدول الهشة في مجال الصحة، في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
فضلاً عما تقدم، اشتغل التوم خلال عمله مع «منظمة الصحة العالمية» في العديد من دول العالم، وعمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، و«اليونسيف» و«البنك الدولي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» و«برنامج الغذاء العالمي». وكذلك عمل التوم مع الجهات المانحة مثل «الأمم المتحدة»، و«الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا»، فضلاً عن الحكومة الأميركية، وغيرها. ومن ثم، أسهم في استقطاب الموارد للدول الفقيرة من المانحين، وأنشأ شراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي في الدول التي عمل بها.

نظام صحي مهترئ

أما في السودان، فقد ورث التوم نظاماً صحياً مهترئاً خربه النظام المعزول، وقضى تماماً على قطاعه العام لصالح سماسرته من «تجار الصحة». وهو ما فرض على الوزير الجديد منذ أيامه الأول الاصطدام مع «لوبيات» الاتجار في الدواء... وتعهَّد بإعادة العافية إلى القطاع الصحي العام، وإنشاء بنية صحية مؤسسية تتيح العلاج المجاني للمواطنين، وتفكيك «كارتيلات» الإسلاميين الصحية الخاصة.
ولكن قبل أن يكمل التوم مخططه، داهمت السودان والعالم جائحة «كوفيد - 19»، فأربكت حسابته الصحية وخططه. إذ تركته الجائحة، التي شلت الأنظمة الصحية في بلدان العالم المتقدمة والثرية، شبه أعزل، سلاحه مثلوم، والمؤسسات الصحية في البلاد تفتقر إلى كل شيء. لكنه قاد بصراحته المعهودة مواجهة الجائحة. ومع أنه لقي ما لقي من عنت، فإنه أفلح في استقطاب دعم مقدّر.
لم تعجب طريقته المتحدّية في إدارة الشأن الصحي الكثيرين، فسارع كثيرون، وبالأخص، قطاع المستثمرين في الصحة والدواء من أنصار النظام القديم، لوضع الحواجز أمامه، وإثارة الحنق ضده. غير أن الرجل صمد في المواجهة، إلى أن جاءت الطامة الكبرى، حين تسرّبت شائعات عن وجود «اتفاق» بين مكوّنات الحكم الانتقالي لإقالته من الوزارة.

شائعات الإقالة

لقد دأب التوم على تسمية تدابيره لمواجهة الجائحة الحالية، ففي 12 مايو (أيار) الحالي، نقلت «العين الإخبارية» عن مصادر أن اجتماعاً لشركاء الحكم (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، قوى إعلان الحرية والتغيير) أوصى بإقالته بعد حملته الفاشلة في مواجهة أزمة تفشي الجائحة، بيد أن «قوى الحرية والتغيير» نفت أن تكون قد أوصت بذلك، فسارع مجلس السيادة إلى نشر خبر في مواقعة الرسمية على الإنترنت، وأكد فيه توافق الأطراف الثلاثة على إقالته، ثم سُحب الخبر من المواقع، وبعدما أعلن رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك ومجلسه تجديد ثقتهما في وزير الصحة، ونفيا عزمهم على إقالته، أعاد المجلس السيادي نشر الخبر مجدداً.
جاء هذا الارتباك حول الخبر، لصالح أكرم التوم. إذ أعلنت «لجان المقاومة» (تنظيمات شبابية في الأحياء نظمت المواكب التي أسقطت نظام البشير) دعمها غير المحدود للرجل، وهدّدت بخرق حظر التجوال والإجراءات الاحترازية التي قررتها وزارة الصحة، وتسيير المواكب الاحتجاجية وحرق الإطارات في الشوارع تضامناً مع الوزير، باعتباره أحد وزراء حكومة الثورة... بل وخرجت مواكب احتجاجية محدودة في بعض أنحاء العاصمة الخرطوم لتأييد الوزير.
أكثر من هذا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي دعماً للتوم، ونشط «تريند» في موقعي «تويتر» و«فيسبوك» تحت «هاشتاغ»: «شكراً دكتور أكرم، شكراً لجيشنا الأبيض»، معتبرين إقالته مؤامرة من «فلول نظام الإسلاميين»، وتضمّنت تغريدات من قبيل «دكتور أكرم من ضمن أفضل الأطباء حول العالم، من الذين استطاعوا التصدي لفيروس كورونا».
في المقابل، أخذ عليه أنصار النظام السابق تصريحات إبان الأيام الأولى لبدء تفشي الجائحة قال فيها: «نحن قدرنا على نظام البشير، ولن تغلبنا (الكورونا) الصغيرة هذه». ولكن، حين انتشر الوباء في البلاد، اتخذوا منها مادة سخرية للتقليل منه ضمن صراعهم مع الحكومة الانتقالية، واستغلوا تهديده بالموت لمصابي الجائحة حال عدم الالتزام بالحظر، بمقولة منسوبة لوزير الصحة السابق بحر أبو قرادة قال فيها: «نحن نصرف أموالاً طائلة على مرضى السرطان، وفي الآخر يموتون».
وهكذا انقسم المغردون إلى فريقين: الأول ضمّ منتقدين رفضوا تصريحاته الصادمة وكونها أول مرة ينتقد فيها وزير المواطنين بهذه الطريقة (وعلى الوسائط كافة)، ومع هؤلاء جماعات رأوا فيها محاولة لتغطية عجز الحكومة عن وقف انتشار الوباء. والثاني، ضم فئة مناصرة له اعتبرته أفضل وزير يمكن أن يتوفر للبلاد، استناداً إلى دوره في صياغة استراتيجية الصحة العالمية في أفريقيا، وجائزة بوصفه أفضل مدير طبي في الإقليم.
وبينما تتباين الآراء بشأن الوزير، وتسخر من ضعف نظامه الصحي، جاءت التوم «تزكية غير متوقعة» من «منظمة الصحة العالمية»، إذ جرى انتخابه واحداً من نواب الجمعية «العامة لهيئة الصحة العالمية»، ممثلاً لمنطقة الشرق الأوسط ولمدة عام، في دورتها الـ73، وقالت المنظمة إنه أحد 34 شخصاً يمتلكون مؤهلات فنية في ميدان الصحة معيّنين من قبل دولة عضو انتخبوا لعضوية المجلس من قبل جمعية الصحة.
ولكن، رغم هذا، ومع كل خبراته، فإن مستقبل الوزير أكرم التوم مرتبط بمدى نجاحه في الحد من انتشار «كوفيد - 19»، مثل فارس بلا جواد؛ إذ انتشرت الجائحة في كل ولايات البلاد، وتصاعدت أعداد المصابين بصورة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي، بينما يقلل أعداد من السودانيين من مخاطر المرض، ولا يقيمون اعتباراً للإجراءات الصحية، بما فيها حظر التجوال وإغلاق العاصمة الخرطوم... ويقف على رأسهم رموز النظام المعزول الذين خرجوا في مظاهرة احتجاجية هتفوا خلالها «ما في كورونا... ما تغشونا»، وتهدف لإضعاف الحكومة الانتقالية، من خلال استهداف الوزير.
أيضاً لقي التوم انتقادات حادة على طريقة إدارته للأزمة وطريقة تعامله مع عائدين إلى البلاد، سُمِح لهم بالدخول دون الخضوع للإجراءات الصحية رغم إغلاق المطارات والمعابر والموانئ. ومن ناحية ثانية، يواجه التوم أزمة السودانيين العالقين خارج البلاد، الذين رفض السماح لهم بدخول البلاد، خاصة من مصر، وهو أحد محرّكات تصريحه المثير للجدل، الذي قال فيه: «لن أسمح بعودة العالقين في مثل هذه الظروف، ولو رغبتم في عودة أحبائكم، فعليكم بالالتزام بالحظر والإغلاق».
ولأن التحدّي مثل تنين يضع هدية على فمه، وضع التوم كمّامته الطبية على فمه، مواجهاً الصعاب التي تعيشها حكومة «الفترة الانتقالية»، والجائحة التي فاقمتها، وغدر بعض الرفاق الذين أداروا له الأكتاف الباردة.
وحتى الآن، ظَلّ الوزير، ابن الوزيرة حاجة كاشف، وابن الوزير علي التوم، محتفظاً بكرسيه القَلِق رغم أنف الراغبين بإزاحته.


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.