عاد إلى بلاده بعد غياب طويل، ما زال خائفاً كما كان في اليوم الذي خرج فيه قبل أكثر من أربعين عاماً! عاد عجوزاً منهكاً، لم يستطع استعادة بيته، وقد انتزعه الحكم السابق! لم ينزل في فندق خشية عصابات الخطف والقتل، أنزله قريبه بيتاً صغيراً شبه مهجور. جيء له بسرير وبعض عدة لمطبخ قديم تخرج من أنابيبه صراصير ونمل!
البيت في ضاحية من المدينة الكبيرة، حتى الآن لم ينزل إلى مركزها، لا يريد أن يعرف أحد بعودته، يشعر بأن ماضيه السياسي، وما يحسب من انتماء طائفي لعائلته لا يزالان يلاحقانه، وربما يرسمان له مصيراً قاسياً! هو في البيت منذ أيام قليلة، يخشى أن يكون قريبه أعلم من تبقى من أقارب أو أصدقاء بوجوده ومكانه، أوصاه ألا يفعل ذلك حتى تستقر نفسه. رغم تغير الحكم، كان يخشى أن يلقى عليه القبض في المطار، لكنه مر بسلام، كان وجه الموظف الذي نظر في جوازه، متجهما ونظرته حادة! أكثر من مرة يتوثق من غلقه باب البيت، يستلقي على السرير محاولاً استعادة سكينته وتهدئة أنفاسه! يتساءل «إذا كنت خائفاً حتى الآن، ولا أريد أن أدخل المدينة ولا أرى أحداً، لماذا عدت؟» أحياناً يقول هي نزوة آخر العمر، أحياناً يقول جئت مستطلعاً: «ربما أستقر وأموت هنا، من يدري؟» فجأة يسمع ما يشبه خطى في البيت أو أحداً يحاول فتح الباب؛ فيهب مذعوراً ينظر من الشباك مزيحاً ستارته القديمة المغبرة، يجول بحذر وتوجس في البيت، يعود ليستلقي محاولاً إسكات مخاوفه! ما أن ينعس قليلاً حتى توقظه الأصوات، تنبعث أكثر حدة فتتسارع نبضات قلبه، وينهض ليرى ماذا هناك؟ لكنه لا يجد شيئاً غير سكون البيت وصمته المطبق!
عبثاً يحاول طمأنة نفسه بما سمعه أن الأمن والوئام عادا إلى البلاد بعد ما عاشته من حروب واقتتال طائفي! وإن ما يسمعه، هي أصوات عادية من الشارع، ودماغه المنهك يكبرها ويهولها! لكنه يستيقظ فجأة على يد تهزه لينهض ويقف أمام ملثمين يأمرونه أن يخرج لهم نقوده وأشياءه الثمينة التي يقولون له إنه جلبها من الخارج، وثمة شاب يخرج سكيناً طويلة لامعة!
يظل مذعوراً، يجد أنه لا يزال في منتصف الليل والبيت هادئ، يظل يتقلب في فراشه متفكراً إذا لم تكن كل هذه الأصوات الغريبة لعصابات القتل والسرقة؛ فلمن تكون؟ تذكر أنه كان ينتقد ويشتم رجال الحكم الحاليين أمام كثيرين في الخارج، وربما أحدهم وشى به! وها قد جاء يوم حسابه. تمر ساعة ولا يأتي القتلة، يفكر أن البيت مسكون بالأشباح. ربما البيت لأناس قتلوا، أو هجروا قسراً على مر الحقب وها هي أرواحهم تطوف فيه! تذكر بيته المغتصب، ربما ساكنوه الآن يرونه شبحاً فيه! ابتسم بمرارة، ما جدوى كل هذا، وهو الآن لا يستطيع النوم؟ تناول كيس أدويته ليأخذ حبة منومة، فتوقف «أبقى يقظاً ذلك أفضل، قد أفلت منهم! ما جئت آخذ شيئاً، حتى بيتي يئست منه،. قد أتوسد حجارة هنا وأغط بنوم أبدي» وتطل عليه شمس ربيعية عالية!
لم تنقطع الأصوات والخطوات الغامضة المبهمة، تنطلق بين فترة وأخرى، نهاراً خاصة، تكثر عند الغروب، ومع الظلام تكون لها جلبة مرعبة، قريباً من الفجر تمسك بخناقه وتضع ظهره المرتعش على الجدار وأمامه شاب ملثم يستل من حزامه سكينه الأنيقة اللامعة! فكر أن يترك البيت، ويجد فندقاً، أن يختطف ويقتل فوراً؛ خير من مداهمات القتلة له كل ساعة!
صدفة صغيرة جعلته يعرف حقيقة ما يجري! كان واقفاً يعد قدح القهوة عصراً، سمع الأصوات، انهال معها تراب من أعلى الجدار فوق الطباخ!
رفع رأسه متطلعاً، وجد نافذة صغيرة سدت بصفيحة معدنية مخلعة امتد إليها غصن من شجرة الليمون الجافة فتحولت إلى عش فيه حمامتان!
أسرع ليتطلع إليه من الممر الخارجي، فطارت حمامة، بقيت الأخرى ربما هي الأم، يرى الآن بوضوح معها الأفراخ الثلاثة! انسحب بسرعة كي لا يروعهم، أتى بالكوب وراح يحتسي القهوة واقفاً متفكراً كيف استحال هنا اصطفاق الأجنحة إلى خطى لصوص وقتلة، أيستطيع البقاء؟ أم أن الأمر معكوس؟ هدأت أنفاسه قليلاً، أحس فجأة براحة، يرفع رأسه إلى العش بين لحظة وأخرى كأنه يرى عش طير لأول مرة!
- قاص عراقي
توجس
توجس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة