توجس

توجس
TT

توجس

توجس

عاد إلى بلاده بعد غياب طويل، ما زال خائفاً كما كان في اليوم الذي خرج فيه قبل أكثر من أربعين عاماً! عاد عجوزاً منهكاً، لم يستطع استعادة بيته، وقد انتزعه الحكم السابق! لم ينزل في فندق خشية عصابات الخطف والقتل، أنزله قريبه بيتاً صغيراً شبه مهجور. جيء له بسرير وبعض عدة لمطبخ قديم تخرج من أنابيبه صراصير ونمل!
البيت في ضاحية من المدينة الكبيرة، حتى الآن لم ينزل إلى مركزها، لا يريد أن يعرف أحد بعودته، يشعر بأن ماضيه السياسي، وما يحسب من انتماء طائفي لعائلته لا يزالان يلاحقانه، وربما يرسمان له مصيراً قاسياً! هو في البيت منذ أيام قليلة، يخشى أن يكون قريبه أعلم من تبقى من أقارب أو أصدقاء بوجوده ومكانه، أوصاه ألا يفعل ذلك حتى تستقر نفسه. رغم تغير الحكم، كان يخشى أن يلقى عليه القبض في المطار، لكنه مر بسلام، كان وجه الموظف الذي نظر في جوازه، متجهما ونظرته حادة! أكثر من مرة يتوثق من غلقه باب البيت، يستلقي على السرير محاولاً استعادة سكينته وتهدئة أنفاسه! يتساءل «إذا كنت خائفاً حتى الآن، ولا أريد أن أدخل المدينة ولا أرى أحداً، لماذا عدت؟» أحياناً يقول هي نزوة آخر العمر، أحياناً يقول جئت مستطلعاً: «ربما أستقر وأموت هنا، من يدري؟» فجأة يسمع ما يشبه خطى في البيت أو أحداً يحاول فتح الباب؛ فيهب مذعوراً ينظر من الشباك مزيحاً ستارته القديمة المغبرة، يجول بحذر وتوجس في البيت، يعود ليستلقي محاولاً إسكات مخاوفه! ما أن ينعس قليلاً حتى توقظه الأصوات، تنبعث أكثر حدة فتتسارع نبضات قلبه، وينهض ليرى ماذا هناك؟ لكنه لا يجد شيئاً غير سكون البيت وصمته المطبق!
عبثاً يحاول طمأنة نفسه بما سمعه أن الأمن والوئام عادا إلى البلاد بعد ما عاشته من حروب واقتتال طائفي! وإن ما يسمعه، هي أصوات عادية من الشارع، ودماغه المنهك يكبرها ويهولها! لكنه يستيقظ فجأة على يد تهزه لينهض ويقف أمام ملثمين يأمرونه أن يخرج لهم نقوده وأشياءه الثمينة التي يقولون له إنه جلبها من الخارج، وثمة شاب يخرج سكيناً طويلة لامعة!
يظل مذعوراً، يجد أنه لا يزال في منتصف الليل والبيت هادئ، يظل يتقلب في فراشه متفكراً إذا لم تكن كل هذه الأصوات الغريبة لعصابات القتل والسرقة؛ فلمن تكون؟ تذكر أنه كان ينتقد ويشتم رجال الحكم الحاليين أمام كثيرين في الخارج، وربما أحدهم وشى به! وها قد جاء يوم حسابه. تمر ساعة ولا يأتي القتلة، يفكر أن البيت مسكون بالأشباح. ربما البيت لأناس قتلوا، أو هجروا قسراً على مر الحقب وها هي أرواحهم تطوف فيه! تذكر بيته المغتصب، ربما ساكنوه الآن يرونه شبحاً فيه! ابتسم بمرارة، ما جدوى كل هذا، وهو الآن لا يستطيع النوم؟ تناول كيس أدويته ليأخذ حبة منومة، فتوقف «أبقى يقظاً ذلك أفضل، قد أفلت منهم! ما جئت آخذ شيئاً، حتى بيتي يئست منه،. قد أتوسد حجارة هنا وأغط بنوم أبدي» وتطل عليه شمس ربيعية عالية!
لم تنقطع الأصوات والخطوات الغامضة المبهمة، تنطلق بين فترة وأخرى، نهاراً خاصة، تكثر عند الغروب، ومع الظلام تكون لها جلبة مرعبة، قريباً من الفجر تمسك بخناقه وتضع ظهره المرتعش على الجدار وأمامه شاب ملثم يستل من حزامه سكينه الأنيقة اللامعة! فكر أن يترك البيت، ويجد فندقاً، أن يختطف ويقتل فوراً؛ خير من مداهمات القتلة له كل ساعة!
صدفة صغيرة جعلته يعرف حقيقة ما يجري! كان واقفاً يعد قدح القهوة عصراً، سمع الأصوات، انهال معها تراب من أعلى الجدار فوق الطباخ!
رفع رأسه متطلعاً، وجد نافذة صغيرة سدت بصفيحة معدنية مخلعة امتد إليها غصن من شجرة الليمون الجافة فتحولت إلى عش فيه حمامتان!
أسرع ليتطلع إليه من الممر الخارجي، فطارت حمامة، بقيت الأخرى ربما هي الأم، يرى الآن بوضوح معها الأفراخ الثلاثة! انسحب بسرعة كي لا يروعهم، أتى بالكوب وراح يحتسي القهوة واقفاً متفكراً كيف استحال هنا اصطفاق الأجنحة إلى خطى لصوص وقتلة، أيستطيع البقاء؟ أم أن الأمر معكوس؟ هدأت أنفاسه قليلاً، أحس فجأة براحة، يرفع رأسه إلى العش بين لحظة وأخرى كأنه يرى عش طير لأول مرة!
- قاص عراقي



الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ
TT

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

يعد التغير المناخي من المواضيع المُقلقة والمهمة عالمياً، وهو من الملفات الرئيسية التي توليها الدول أهمية كبرى، حيث تظهر حاجة عالمية وشاملة واتفاق شبه كُلِّي من دول العالم على أهمية الالتزام بقضايا التغير المناخي والاستدامة لحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

هذه القضية المهمة عبَّر عنها بعض الفنانين الذين استخدموا الفن لرفع الوعي بالقضايا البيئية. حيث كان الفن إحدى وسائل نشطاء البيئة للتعريف والتأثير في قضايا المناخ والاحتباس الحراري، لاعتقادهم أن الحقائق العلمية وحدها قد تكون غير كافية، ولأهمية التأثير في العاطفة، وهو ما يمكن للفن عمله.

ومن فناني البيئة العالميين الفنان الدنماركي أولافور إيلياسون، الذي عيَّنه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سفيراً للنوايا الحسنة للطاقة المتجددة والعمل المناخي عام 2019م، حيث تركز أعماله المعاصرة والتفاعلية على التعبير عن ظواهر الاحتباس الحراري، وكان أحد أشهر أعماله «مشروع الطقس» الذي عُرض في متحف «تيت مودرن» في لندن، وجذب أعداداً هائلة من الجماهير، إذ هدف هذا العمل التفاعلي إلى الإيحاء للمشاهدين باقترابهم من الشمس، ولتعزيز الرسالة البيئية لهذا العمل ضمِّن كتالوج المعرض مقالات وتقارير عن أحداث الطقس المتغيرة.

المناخ والبيئة

إن التعبير عن قضايا المناخ والبيئة نجده كذلك في الفن التشكيلي السعودي، وهو ليس بمستغرب، حيث يعد هذا الاهتمام البيئي انعكاساً لحرص واهتمام حكومة المملكة بهذه القضية، والتزامها الراسخ في مواجهة مشكلة التغير المناخي، حيث صادقت المملكة على اتفاقية باريس لتغير المناخ في عام 2016، وهو أول اتفاق عالمي بشأن المناخ. كما أطلقت المملكة مبادرتَي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»، لتسريع العمل المناخي وحماية البيئة وتعزيز التنمية المستدامة. وهو ما يجعل الفرصة مواتية للفنانين السعوديين للمشاركة بشكل أكبر في التعبير عن القضايا البيئية، مما يسهم في عكس جهود المملكة تجاه هذه القضايا ومشاركة الجمهور في الحوار حولها.

فعلى سبيل المثال، عبَّرت الفنانة التشكيلية منال الضويان عن البيئة في عمل شهير أنتجته عام 2020م، في معرض DESERT-X في مدينة العلا، بعنوان «يا تُرى هل تراني؟»، حيث كان العمل عبارة عن منصات تفاعلية للقفز في صحراء العلا، في إيحاء غير مباشر بالواحات الصحراوية والبِرَك المائية التي تتكون في الصحراء بعد موسم الأمطار، لكنها اختفت نتيجة للتغير المناخي والري غير المسؤول، وتأثيره البيئي في الطبيعة من خلال شح المياه واختفاء الواحات في المملكة.

الفن البيئي

كما نجد الفن البيئي بشكل واضح في أعمال الفنانة التشكيلية زهرة الغامدي التي ركزت في تعبيرها الفني على المواضيع البيئية من خلال خامات الأرض المستمدة من البيئة المحلية؛ مثل الرمال والأحجار والجلود والنباتات المأخوذة من البيئة الصحراوية كالشوك والطلح، وكيفية تحولها نتيجة العوامل المؤثرة فيها كالجفاف والتصحر والتلوث البيئي، كما في عملها «كوكب يختنق؟» الذي استخدمت فيه أغصان الأشجار المتيبسة وبقايا خامات بلاستيكية، لمواجهة المتلقي والمشاهد بما يمكن أن تُحدثه ممارسات الإنسان من تأثير بيئي سلبي، وللتذكير بالمسؤولية المشتركة لحماية كوكب الأرض للأجيال القادمة.

إن الفن البيئي لدى زهرة الغامدي يتمثل في نقل المكونات الطبيعية للأرض والبيئة المحلية وإعادة تشكيلها في قاعة العرض بأسلوب شاعري يستدعي المتلقي للانغماس في العمل الفني والطبيعة والشعور بها والتفاعل معها لتعزيز الارتباط بالأرض، فمن خلال إعادة تشكيل هذه الخامات البيئية يتأكد التجذر بالأرض والوطن والارتباط به.

وقد نجد التعبير عن المواضيع البيئية أكثر لدى التشكيليات السعوديات من زملائهن من الرجال، وقد يكون ذلك طبيعياً نتيجة حساسية المرأة واهتمامها بمثل هذه القضايا. وهو ما يثبته بعض الدراسات العلمية؛ إذ حسب دراسة من برنامج «ييل» للتواصل بشأن التغير المناخي، بعنوان «اختلافات الجنسين في فهم التغير المناخي» تظهر المرأة أكثر ميلاً إلى الاهتمام بالبيئة، كما أن للنساء آراء ومعتقدات أقوى مؤيدة للمناخ وتصورات أعلى للمخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية، وقد فسر الباحثون هذه الاختلافات بأنها نتيجة اختلافات التنشئة الاجتماعية بين الجنسين، والقيم الناتجة عن ذلك كالإيثار والرحمة وإدراك المخاطر.

ومع أن الفن استُخدم كثيراً للتوعية بالقضايا البيئية، إلا أن بعض نشطاء البيئة حول العالم استخدموه بطريقة مختلفة للفت النظر حول مطالبهم، مثل أعمال الشغب والتخريب لأهم الأعمال الفنية في المتاحف العالمية، وقد استهدف بعض هؤلاء الناشطين أشهر الأعمال الفنية التي تعد أيقونات عالمية كلوحة «دوار الشمس» لفان غوخ، ولوحتي «الموناليزا» و«العشاء الأخير» لدافنشي. تخريب هذه الأعمال ليس لأنها مناهضة للبيئة بقدر ما هي محاولة لفت النظر نحو قضاياهم، لكن لتحقيق التغيير المطلوب، أيهما أجدى، التعبير الإيجابي من خلال الفن، أم السلبي من خلال تخريبه؟

إن الفن التشكيلي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل له دور حاسم ومؤثر في تشكيل الوعي بالقضايا البيئية، فهو يدعو لإعادة التفكير في علاقتنا بها، والعمل معاً لمستقبل أكثر استدامة. إضافةً إلى دوره بصفته موروثاً ثقافياً للأجيال المقبلة، إذ يسجل تجربتنا في مواجهة هذا التحدي العالمي.

* كاتبة وناقدة سعودية