جاهزية تمتد من الاستطلاع والتخطيط إلى التجنيد وتنفيذ الهجمات

علي كوراني
علي كوراني
TT

جاهزية تمتد من الاستطلاع والتخطيط إلى التجنيد وتنفيذ الهجمات

علي كوراني
علي كوراني

وزع الباحثان الأميركيان آيوان بوب وميتشل سيبلر ورقتهما عن «الجاهزية العملانية لإيران و(حزب الله) في الغرب» على سبعة محاور، كالآتي:
1- الجاهزية العملانية: نشاطات المخابرات والمراقبة
كانت إحدى السمات المميزة لجاهزية إيران و«حزب الله» للتخطيط العملياتي في الغرب هي الالتزام المتواصل لجهة جمع معلومات استخبارية دقيقة والقيام بنشاطات مراقبة للأهداف التي يمكن أن تدعم التخطيط للهجوم على المدى الطويل.
في بعض الحالات، قام الإيرانيون بنشاطات لجمع معلومات استخبارية وفي حالات أخرى قام بها مغتربون لبنانيون يعملون نيابة عن «حزب الله» بعدما امتزجوا بمجتمعات الشتات لإخفاء جهودهم.
وشهدت مدينة نيويورك أنشطة جمع معلومات استخباراتية من قبل كل من الإيرانيين وعناصر «حزب الله»، مما يدل على المنهجية والأهداف المحتملة. في حال إيران، اكتشفت شرطة نيويورك والسلطات الفيدرالية بين عامي 2002 و2010 ما لا يقل عن ست حوادث تتعلق بدبلوماسيين إيرانيين، حين كان المؤلفان يعملان في الشرطة، وكافحا للتصدي للاستطلاع العدائي في مدينة نيويورك.
وامتدت نشاطات جمع الاستخبارات والمراقبة الإيرانية إلى أبعد من مدينة نيويورك. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، اعترف رجلان بذنب العمل عميلين غير شرعيين للحكومة الإيرانية بتهم ناشئة عن مراقبة منشأتين يهوديتين في شيكاغو وكذلك أعضاء أميركيين في جماعة معارضة إيرانية منفية، هي مجاهدين خلق.
وفي 3 ديسمبر (كانون الأول) 2019، حُكم على علي كوراني بالسجن 40 عاماً بتهمة القيام «بنشاطات إرهابية سرية نيابة عن منظمة الجهاد الإسلامي التابعة لحزب الله». ولا تزال قضية سامر الدبق قيد النظر في المحاكم.
2- غطاء دبلوماسي وتجاري وثقافي معقول لإخفاء نشاطات التشغيل
خلال زيارة قام بها عام 2008 فريق من وحدة الاستخبارات في نيويورك (بما في ذلك أحد المؤلفين) لبيونس آيرس، حدد مسؤولو الاستخبارات الأرجنتينية كيف كان «حزب الله»، بالتعاون مع عناصر من المخابرات الإيرانية، مسؤولاً عن هجومين منفصلين في بوينس آيرس، عام 1992 ضد السفارة الإسرائيلية وعام 1994 ضد الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية. وفي كلتا الحالين، استفادت إيران من شبكة استخبارات محلية معقدة للغاية تم تطويرها منذ منتصف الثمانينات، وكانت تديرها السفارة الإيرانية ومستشاريتها الثقافية في بوينس آيرس. وأخبر مسؤولو الاستخبارات الأرجنتينية المؤلفين أن قرار مهاجمة الأرجنتين عام 1994 اتخذ على أعلى المستويات في الهيكل الحكومي الإيراني. واستخدم الإيرانيون الغطاء الدبلوماسي والتجاري وغير الحكومي - الديني لإخفاء شبكتهم على الأرض في أميركا الجنوبية.
وعلى غرار المنظمات المختبئة تحت أنواع مختلفة من الأغطية في بوينس آيرس، يشمل حضور إيران في مدينة نيويورك مؤسسة العلوي، وهي منظمة غير ربحية مكرسة ظاهراً للأعمال الخيرية وتعزيز الثقافة الفارسية والإسلامية. لكن في ديسمبر (كانون الأول) 2009، قال النائب بريت بهارا إن هذه المؤسسة «كانت فعلاً واجهة للحكومة الإيرانية». ويبدو أن هناك أدلة «لا جدال فيها» على ارتباطات المؤسسة بالحكومة الإيرانية.
3- التسلل إلى الجماعات الإيرانية المعارضة
تستخدم أجهزة الأمن الإيرانية مجموعة من التكتيكات لحماية النظام، بما في ذلك اختراق مجموعات المعارضة. وقد قامت هذه الوكالات «بتحديد واستئصال المعارضين والمنشقين داخل البلد وخارجه». ففي التسعينات، ركزت عناصر داخل المخابرات الإيرانية على استهداف المعارضة خارج إيران ويعتقد أنها كانت مسؤولة عن اغتيال عدد من المنشقين، وبينهم شهبور بختيار، آخر رئيس وزراء في عهد الشاه، الذي تعرض للطعن والخنق حتى الموت في منزله في فرنسا من قبل ثلاثة عملاء إيرانيين في أغسطس (آب) 1991.
ويُزعم أن المخابرات الإيرانية تستخدم منظمة مقرها باريس تسمى «دعم اللاجئين الإيرانيين» لتجنيد طالبي اللجوء الإيرانيين في فرنسا، من أجل التجسس على المواطنين الإيرانيين المقيمين هناك. ولوحظت ظاهرة مماثلة لرصد المجتمع المحلي في مدينة نيويورك بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية لعام 2009 ومظاهرات الشوارع لدعم الحركة الخضراء في إيران.
ولدى المخابرات الإيرانية تاريخ من التسلل إلى مجموعات المعارضة مثل منظمة مجاهدين خلق، التي كشفت علناً عام 2002 أن إيران تخفي منشأتين نوويتين سريتين تقعان في نطنز وأراك.
4 - التخطيط اللوجيستي لهجمات مستقبلية محتملة
غالباً ما تتميز طريقة عمل إيران و«حزب الله» بالتخطيط اللوجيستي المتقدم للهجمات المستقبلية المحتملة. في بعض الحالات الأخيرة، ركز هذا التحضير على التراكم والتخزين السري للمواد المتفجرة لهجمات مستقبلية محتملة. وبحسب مصادر المخابرات الإسرائيلية، كما ورد في الصحافة الإسرائيلية، فإن جهد الوحدة 910 في «حزب الله» ينطوي على «تخطيط طويل الأمد لهجمات إرهابية ضخمة غيّرت اللعبة». وأجرى «حزب الله» مراراً وتكراراً عبر القارات المختلفة هذا التخطيط اللوجيستي المتقدم من خلال إنشاء مخزونات كبيرة من أكياس الثلج الخاصة بـ«الإسعافات الأولية» والتي تبدو غير مؤذية، ولكنها مملوءة بنترات الأمونيوم. وهذا الدليل المميز لـ«حزب الله» من أجل تخزين المتفجرات حول العالم قد ثبت من خلال اكتشافات في تايلاند وقبرص والمملكة المتحدة.
كانت المرة الأولى التي يقوم فيها «حزب الله» بتخزين نترات الأمونيوم في أكياس ثلج مخصصة للإسعافات الأولية في تايلاند في عام 2012 وارتبطت بجهود عضو الوحدة 910 المذكور سابقاً، سامر الدبق.
5- إعداد «حزم استهداف بشرية لاغتيال الخصوم والأعداء»
«حزم الاستهداف» هي ملف معلومات «يمكّن وحدة استخبارات أو وحدة عسكرية من العثور على تهديد وإصلاحه وتتبعه وتحييده. تتضمن حزمة الهدف البشري المعلومات التي جرى جمعها عن الفرد، مثل المركز الرسمي للفرد، وتحليل نقاط الضعف الشخصية أو الفرص الأخرى لاستغلال الفرد وتأكيد هوية وموقع الفرد». ويمكن أن تتضمن الحزمة المستهدفة «عمليات القبض - القتل». هناك أدلة قوية على أن تجميع حزم الاستهداف البشرية كان عنصراً ثابتاً في طريقة عمل إيران و«حزب الله» في الغرب مع أمثلة في هولندا وفرنسا والدنمارك ومدينة نيويورك والعاصمة واشنطن.
وعلى سبيل المثال، في أمستردام، من المحتمل أن المنشق الإيراني المناهض للنظام، أحمد مولا نيسي، كان على الأرجح ضحية لعملية تصفية من إيران و«حزب الله» في أواخر عام 2017 عندما قتل بالرصاص أمام شقته بصفته قائدا لـ«أسمالا»، وهي حركة تروج لحقوق الأحوازيين العرب الذين يشعرون بالاضطهاد في منطقة خوزستان الإيرانية الغنية بالنفط، لجأ مولا نيسي إلى هولندا منذ عام 2005. في الشهر الذي سبق الهجوم، كان مولا نيسي ذهب إلى الشرطة للتعبير عن مخاوفه على سلامته. وبدا أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يشير إلى الاغتيال المزعوم في مايو (أيار) 2018 عندما قال في بيان: «اليوم، تقوم قوة القدس الإيرانية بعمليات اغتيال سرية في قلب أوروبا».
6- حرفة مكافحة التجسس والأمن العملياتي
السمة المميزة الأخرى لعمليات التجسس التي تقوم بها إيران و«حزب الله» هي استخدام حركات المراقبة المضادة وأمن العمليات المعقد. وجرى استخدام مجموعة متنوعة من طرق التجسس هذه في الولايات المتحدة. ومن الأمثلة على ذلك قضية دوسدار، التي توضحها معلومات نشرتها وزارة العدل الأميركية، وفيها أنه «من 25 يوليو (تموز) حتى 30 يوليو 2017، كان دوسدار في كوستا ميسا بولاية كاليفورنيا، حيث التقى مرات بغورباني. واستخدم دوستدار حرفة مخابراتية وأدار طرق الكشف عن المراقبة قبل وأثناء وبعد اجتماعاته مع غورباني. كما استخدم دوستدار حرفة مثل (تغيير الملابس قبل كل اجتماع، وزيارة مواقع الاجتماع قبل الاجتماع الفعلي، والوصول والمغادرة من كل اجتماع. بطريقة دائرية)». ولاحظت فرق المراقبة بمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أيضاً أن «دوستدار كان يسير ببطء وكان ينظر باستمرار حول محيطه» ونظر إلى «انعكاس نوافذ المتاجر أثناء مروره، بما يتفق مع التحقق من المراقبة». وحرفة المخابرات وتدابير المراقبة المضادة هذه كانت منسجمة مع تلقي التدريب من «جهاز مخابرات إيراني».
7- استقدام عاملين بجنسيات مزدوجة وجوازات سفر غربية
لدى إيران و«حزب الله» تاريخ في تجنيد عملاء على مستوى العالم من داخل الشتات الشيعي، ويفضل أن تكون لديهم جوازات سفر غربية. ومن الأمثلة على ذلك، منصور أربابسيار، وهو مواطن أميركي من أصل إيراني، الذي اعتقل في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 واتهم بالتآمر لقتل السفير السعودي لدى الولايات المتحدة عادل الجبير. وطبقاً لوثائق المحكمة، فإن أربابسيار ادعى أنه تم تجنيده من قبل أحد أقاربه في إيران الذي كان عضواً رفيع المستوى في فيلق القدس لدى الحرس الثوري. وبالمثل، فإن الاعتقالات الأخيرة لنشطاء وحدة «حزب الله 910» علي كوراني وسامر الدبق وأليكسي صعب في الولايات المتحدة، تعزز فكرة أن «حزب الله» يركز تجنيده الخارجي على الأفراد المقيمين في الغرب، ممن يحملون جنسيتين مزدوجتين ويمكنهم الوصول إلى الغرب بجوازات سفر أجنبية.
ووفقاً لوثائق المحكمة، جند كوراني لأنه مقيم في الولايات المتحدة. وبالمثل، اعتقل سامر الدبق لصلته بـ«حزب الله» ويدعي أنه جنّد لأنه مواطن أميركي. وعلى الرغم من أن أليكسي صعب جند في لبنان قبل أن يمضي وقتاً في الولايات المتحدة في غضون خمس سنوات من دخوله القانوني، فقد تقدم بطلب للحصول على الجنسية في الولايات المتحدة بعد ذلك، وفقاً لوثائق المحكمة، عبر زواج احتيالي.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.