عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

المحامية المثيرة للجدل دافعت عن بن علي... فازدادت شعبيتها

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»
TT

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

وقفت المحامية الشابة عبير موسي مطلع شهر مارس (آذار) 2011 أمام محكمة نظرت في قضية حل حزب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي «التجمع الدستوري الديمقراطي». يومذاك، لم يتوقع أحد أن تزداد شعبيتها بمرور السنوات تقديراً «لوفائها» لحزبها ولرئيس النظام المنهار، بينما تبرأ فيه معظم كبار المسؤولين السابقين منهما. وفي المقابل، تعرّضت موسي إلى حملة إعلامية غير مسبوقة، وتوقع كثيرون من المراقبين «موتها سياسياً». واتهمها بعض زملائها المحامين اليساريين والإسلاميين أمام المحاكم بالاعتداء عليهم بالعنف المادي عبر «الغاز المخدّر»، وبالدفاع عن «منظومة الفساد والاستبداد التي ثار ضدها الشعب» أواخر 2010 ومطلع 2011. لكن، أخيراً، ساهم إعلان وزارة الداخلية عن إدراج «تنظيمات إرهابية» اسم عبير موسي ضمن قائمة السياسيين المرشحين للاغتيال في زيادة شعبيتها وتعاطف كثيرين معها وسط مخاوف البعض من انزلاق مجدداً تونس باتجاه الاهتزازات الأمنية.

في المرحلة التي تلت سقوط حكم الرئيس التونسي الأسبق زبن العابدين بن علي لم يتوقع أحد أن تصبح محامية وسياسية من الصف الثاني زعيمة بارزة من زعماء المعارضة عام 2020، وحقاً هذا ما حصل مع عبير موسي التي حصلت على 4 في المائة (أي 135 ألف صوت) فقط من أصوات الناخبين في الدور الأول للانتخابات الرئاسية التي نظمت يوم 15 سبتمبر (أيلول) 2019.
ما الذي تغير، ومكّن هذه السياسية المشهد السياسي والبرلماني لتغدو «العدو الأول» لرفاقها القدامى، ثم لحزب «حركة النهضة» وتيار «الإسلام السياسي» وحلفائه اليساريين والليبيراليين، ومن ثم للرئيسين قيس سعيّد والياس الفخفاخ، اللذين رفضت مراراً دعوات وجهاها لها للحوار معها في قصري الرئاسة؟
الوزير محمد الغرياني، آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي، قلل في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «زعامة» عبير موسي ومن رصيدها السياسي. وأورد أنها «لم تكن أبداً عضواً في القيادة المركزية للحزب الحاكم»، بل عينت في يناير (كانون الثاني) 2009 موظفة برتبة «أمينة قارة»، أي مساعدة للأمين العام مكلفة شؤون المرأة، وهذا، بعد تجربة سياسية وحزبية قصيرة «في الصف الثاني لخلية المحامين» المنتمين للحزب، وتجربة إدارية «متواضعة» في إحدى بلديات أحياء العاصمة تونس، وكذلك في جمعية نسائية كانت تدعم بقوة ليلى الطرابلسي حرم الرئيس الراحل بن علي.

- انتقادات... وكاريزما
أيضاً صدرت تصريحات عنيفة ضد موسي عن قياديين سابقين في الدولة والحزب الحاكم، بينهم وزير الخارجية والدفاع الأسبق وزعيم حزب «المبادرة الدستورية» كمال مرجان، ناهيك من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي والمقرّبين منه في حزب «نداء تونس».
إلا أن موسي تحدّت كل «القيادات التاريخية لحزب بورقيبة وبن علي» وكل رؤسائها السابقين، واتهمتهم بـ«التخاذل» و«التواطؤ مع الإخوان الانقلابيين» في يناير 2011 «بدعم من دول غربية وعربية». ورفضت دعوات قائد السبسي للالتحاق مع أنصارها بحزبه قائلة: «لن أترك بيتي وأذهب إلى بيت الجيران».
تصريحات عبير موسي، التي وصفها معظم الساسة والإعلاميين لسنوات بـ«الاستفزازية»، تراكمت. ثم راجت في المواقع الاجتماعية، وساهمت في التسويق لشخصية كاريزماتية قيادية جديدة، ولسياسية طموحة فتحت معارك مع «الكبار» فنجحت في مشاكسة كل خصومها ومعارضيها داخل الحزب الحاكم قبل 2011 ومعارضيه السابقين، وبالأخص، قيادات «النهضة» و«الإخوان» ومن تصفهم بـ«المتخاذلين» الليبيراليين واليساريين المتحالفين معهم..

- البديل الوحيد»؟
وبعدما كشفت انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) الماضي اختلال التوازن داخل المشهد السياسي والحزبي في تونس لصالح التيارات الليبيرالية والإسلامية المحافظة وهزيمة مرشحي «العلمانيين» و«الحداثيين» تغيّر الوضع. إذ بدأت أطراف سياسية وإعلامية وجمعيات نسائية كثيرة تقترب من موسي وتعتبرها «زعيمة صاعدة» و«البديل الوحيد عن الإخوان وأحزاب الإسلام السياسي وحلفائهم»، حسب تقدير الباحث في علماء الاجتماع والإعلامي المنذر بالضيافي في تصريح لـ«الشرق الأوسط».
وفي المقابل، رجّح الباحثان في علم الاجتماع السياسي نور الدين العلوي والحبيب بوعجيلة في لقاءين مع «الشرق الأوسط»، وجود «دعم من لوبيات محلية ودولية لعبير موسي؛ لأنها معادية للثورات العربية ولمسار الانتقالي الديمقراطي في تونس. لذا؛ تقرر تضخيم دورها ودفعها إلى الواجهة كي تتزعم المعارضة».
في هذه الأثناء، التحق بمساندي موسي في معاركها البرلمانية مع قيادات «النهضة» والكتل البرلمانية المتحالفة معها بعض مشاهير الجامعيين والإعلاميين اليساريين والليبيراليين مثل سلوى الشرفي، مديرة معهد الصحافة والإعلام السابقة، والشاعرة الليبيرالية آمال مختار، والكاتب والمدير العام للإذاعة والتلفزة الوطنية سابقا عبد العزيز قاسم، وأستاذ الفلسفة والكاتب حمادي بن جاء بالله.

- «زعيمة وطنية»...
من جانبه، اعتبر المنصف البركوس، القيادي السابق في نقابات الصناعيين والتجار والسياسي المخضرم، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «عبير موسي نجحت في أن تصبح زعيمة سياسية وطنية بعد وفاة الباجي قائد السبسي وانهيار حزبه وفشل تلامذته في خلافته، بمن فيهم رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، ووزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي، والوزير السابق محسن مرزوق، والوزير المستشار السابق ناجي جلول.»... ورأى البركوس، أن «أنصار عبير موسي اليوم تزايدوا فبات عددهم أكبر بكثير من أقلية تعلن وفاءها لسياسات الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي ما بين 1956 و2010».

- ... أم «ظاهرة صوتية»
لكن موسي تظل بالنسبة لنفر من الإعلاميين والسياسيين «ظاهرة صوتية» و«سياسية مشبوهة» تؤدي «دوراً وظيفياً لصالح دول معادية للانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي والاقتصادي في تونس»، على حد تعبير عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري المعارض والناشط الحقوقي البارز قبل 2011. وكان الشابي قد وجه أخيراً في بيان رسمي باسم حزبه انتقادات حادة لموسي، وشكك في وطنيتها، وقلل من جدية الحديث عن دور سياسي وطني يمكن أن تلعبه على رأس المعارضة. وادعى أن غالبية القياديين في حزبها «شخصيات نكرة» ما عدا عضو البرلمان السابق ثامر سعد.
وفي السياق نفسه، قلل المثقف اليساري والمستشار السابق في الرئاسة التونسية ناجي جلول لـ«الشرق الأوسط» من فرص نجاح تزعم عبير موسي للمعارضة التونسية، واعتبر أن «نتائجها في الانتخابات البلدية والرئاسية والبرلمانية الماضية تؤكد أن حجمها سيتراوح في أي انتخابات جديدة بين 4 و10 في المائة فقط؛ لأن الشباب والجيل الجديد من الجنسين لا يبالون كثيراً بالمعارك السياسية الآيديولوجية الموروثة بين بورقيبة وبن علي وقيادات الإخوان المسلمين واليسار الماركسي».

- ألغاز... وتساؤلات
من ناحية أخرى، بينما يثير الكثير من المراقبين السياسيين والإعلاميين في وسائل الإعلام نقاط استفهام حول «الجهات التي تقف وراء عبير موسي» محلياً وإقليمياً ودولياً، يلاحظ آخرون أنها بدأت تكسب فعلاً مساندة مالية وإعلامية وسياسية من بعض رجال الأعمال وأوساط مؤثرة في صنع القرار الوطني، الذين دأبوا على زيارة مكتبها والتحاور معها. ثم إن موسي التي ولدت وتنتمي إلى منطقة الساحل التونسي، موطن الرئيسين بورقيبة وبن علي، ابنة عائلة ضباط في الأمن، فوالدها أمني سابق وزوجها عقيد في وزارة الداخلية حالياً. ولقد ساهم إعلان وزارة الداخلية أخيراً عن إدراج «تنظيمات إرهابية» اسم موسي ضمن قائمة السياسيين المرشحين للاغتيال في زيادة شعبيتها. وحقاً، توالت بيانات التضامن مع موسي مع التحذير من «سيناريو» دفع تونس نحو مسلسل من الاغتيالات السياسية على غرار ما حصل في 2013. وانخرط في إصدار مثل هذه البيانات رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورؤساء الأحزاب المشاركة في الحكم ومسؤولون كبار في الدولة وفي الحزب الحاكم قبل يناير 2011، مثل الوزراء البشير التكاري، وأحمد عياض الودرني، والصادق شعبان.
هكذا تغيّر المناخ السياسي لصالح عبير موسي تدريجياً داخل الطبقة السياسية الحاكمة السابقة، ولم تعد «معزولة» مثلما كان عليه وضعها مطلع 2011، عندما انسحب معظم رموز الدولة والحزب الحاكم السابق من المشهد السياسي. ومن ثم، اتهموها بـ«المراهقة السياسية» عندما قررت الوقوف «ضد التيار»، وخوض صراع مع «الثوريين»، والترافع - وهي محامية في الـ35 من العمر - أمام المحاكم ضد «الحكام الجدد الذين انقلبوا على حكم بن علي» وضد من تحالف معهم من رموز النظام السابق بزعامة الرئيسين الباجي قائد السبسي، وفؤاد المبزّع، ورئيس الحكومة الانتقالية الأولى محمد الغنوشي.
نعم، عاد تيار من «الطبقة السياسية الحاكمة السابقة» لدعم عبير موسي بعد سنوات من تجاهلها وإهمالها والتشكيك في نجاعة تحركاتها ضد من وصفتهم بـ«الانقلابيين» وشككت في «ثوريتهم» ووطنيتهم، بما في ذلك القيادات السابقة للمعارضة التي فازت أحزابها في انتخابات «أكتوبر2011» بزعامة المنصف المرزوقي، ومصطفى بن جعفر، وراشد الغنوشي، وأحمد نجيب الشابي، وغيره من قيادات اليسار الماركسي والقوميين.

- الإنصاف والمصالحة الوطنية
غير أن المسار السياسي لعبير موسي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، يبدو رهين أوراق عديدة تتجاوز معاركها مع «الانقلابيين» و«الإخوان» و«الثورجيين»، من بينها «سيناريوهات» تطور مسار العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة الوطنية.
لقد تصدّرت عبير موسي منذ بضع سنوات قائمة الشخصيات الذين انتقدت بحدّه الزعيمة الحقوقية اليسارية سهام بن سدرين، رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» التي كلفت بالتحقيق في ملفات العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة ما بين 2014 و2019. وينتقد مسؤولون سابقون في حزب قائد السبسي، مثل الوزير الأسبق عبد العزيز العاشوري، موسي... ويتهمونها بتعطيل مسار المصالحة بين رموز الدولة ورجال الأعمال قبل ثورة 2011 وبعدها، وهو ما أدى في نظرهم إلى تمديد مسلسل المحاكمات بينهم.
وللعلم، تسبب مسار المصالحة، الذي تبنّاه البرلمان السابق وزعيما الحزبين الكبيرين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، في إعادة إحالة مئات من الوزراء وكبار الموظفين في الدولة على المحاكم التي كلفتها هيئة «الإنصاف والمصالحة»، بقيادة بن سدرين، بإعادة محاكمة «رموز النظام السابق» بتهم التعذيب والفساد المالي والسياسي. لكن موسي تتمادى في معارضتها لكل أشكال المصالحة مع من تصفهم بـ«الإخوان والسياسيين المتخاذلين المتحالفين معهم». وتستدل على ما تعتبره نجاحاً في سياستها أن القضاء ألغى قبل سنة ونصف السنة حكماً بسجنها لمدة 6 أشهر بعد شكوى ضدها وجهها إليها المحامي نبيل بدشيش، اتهمها فيها بالاعتداء عليه بـ«غاز يشلّ الحركة»، خلال جلسة في المحكمة أسفرت عن حلّ حزب بن علي في مارس 2011. ولقد خاضت موسي معركة مع نقابة المحامين والمنظمات الحقوقية، واتهمتها بتلفيق التهم ضدها، مدعية أن الهدف من وراء محاكمتها محاولة إرباكها سياسياً.
لكن هل تكفي المعارك السياسية «ضد الآخر» وحدها لأن تصنع من عبير موسي زعيمة فعلية لكل معارضي الحكومة ورئيس الجمهورية وقيادات «النهضة»... أم يصبح مفعول تلك المعارك عكسياً في مرحلة تستفحل فيها معاناة الشباب من البطالة والتهميش التي قد تزداد تعقيها بسبب معضلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية بعد أزمة «كوفيد - 19»؟
الردّ قد يأتي قريباً من الشارع ضد غالبية السياسيين، سواءً في الحكم وفي المعارضة، بمن فيهم عبير موسي ورفاقها.

- بطاقة هوية
- ولدت عبير موسي في بلدة جمّال، بمحافظة المنستير، يوم 15 مارس (آذار) عام 1975.
- تحمل درجة الماجستير في القانون وشهادة الدراسات المعمقة في القانون الاقتصادي وقانون الأعمال.
- محامية في نقابة المحامين في محكمة التعقيب.
- نائبة رئيس بلدية أريانة (ضواحي العاصمة تونس).
- عضو في المنتدى الوطني للمحامين في التجمع الدستوري الديمقراطي والأمينة العامة للجمعية التونسية لضحايا الإرهاب.
- في يناير 2010، عيّنت نائبة للأمين العام للمرأة في « التجمع الدستوري الديمقراطي».
- انضمت عام 2011 إلى «الحركة الدستورية» (التي أسسها رئيس الوزراء السابق حامد القروي).
- عيّنت في 13 أغسطس (آب) 2016 رئيساً للحركة الدستورية، التي صارت «الحزب الدستوري الحر».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.