«بن لادن الصحراء» سيرة لشاب مغمور أصبح أبرز قادة «القاعدة» بالساحل

مراسل سابق لـ«بي بي سي» عايش يوميات التنظيم.. وواجه الاتهام بالتجسس

مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
TT

«بن لادن الصحراء» سيرة لشاب مغمور أصبح أبرز قادة «القاعدة» بالساحل

مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة
مؤلف الكتاب الأمين محمد سالم مع أحد قيادات القاعدة

لم يكن الصحافي العربي محمد الأمين الذي خبر منطقة الساحل والصحراء يخطط عندما زار مالي أول مرة، أن يقدم للعالم شخصية تعتبر الأكثر تأثيرا في التنظيمات المتشددة في المنطقة. لكن مهماته الصحافية قادته إلى نقاط مظلمة وغير معروفة من تاريخ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» من خلال تتبع سيرة أهم قادته.
اختار المراسل السابق للخدمة الفرنسية في «بي بي سي» أن يسلط الضوء على التنظيم المتشدد عبر زاوية من يعتبر أبرز قادته ورجله القوي والفاعل في منطقة الساحل والصحراء، الجزائري مختار بلمختار (المعروف بخالد أبو العباس و«الأعور»)، القائد الحالي لكتيبة «الموقعين بالدماء»، والتي عرفت أيضا بـ«المرابطين» و«الملثمين»، ومن أعنف عملياتها هجوم «عين أميناس» في الجزائر، العام الماضي.
«بن لادن الصحراء» كتاب هو الأول من نوعه، يقدم في 208 صفحات؛ صورة مقربة لتنظيم شهد توسعا كبيرا خلال العقدين الأخيرين، وكان وراء ذلك بلمختار الذي انتقل من شاب مغمور عائد من القتال في أفغانستان (ذهب إليها 1991 وعمره 19 عاما)، إلى القيادي الأبرز في المجموعات المتشددة في المنطقة.
الكتاب الصادر باللغة الفرنسية، عن منشورات «لا مارتنيير» في فرنسا أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يعتبر «تحقيقا غير مسبوق حول شخصية مشهورة، لكنها غير معروفة»، بحسب الناشر.
يضم الكتاب 10 فصول أساسية، و4 أخرى تمهيدية وختامية، ويحمل الفصل العاشر عنوان «على خطى بن لادن الصحراء»، بينما تروي الفصول الأولى يوميات التنظيم وتاريخه.
ويقول مؤلف الكتاب الصحافي الموريتاني المقيم في فرنسا الأمين ولد محمد سالم إنه يقدم «بروفايل» عن أقدم قائد سلفي متشدد في منطقة الصحراء الكبرى، والعقل المدبر لأكثر العمليات، وصاحب الخبرة والتأثير والنفوذ، على الرغم من أنه لم يكن معروفا خلال السنوات الأخيرة، حيث صبت الصحافة اهتمامها باتجاه قائد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عبد المالك درودكال، والقيادي الآخر عبد الحميد أبوزيد؛ وتغاضت عن بلمختار.
ويقول الأمين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إنه اعتمد على عمل ميداني خلال أشهر من الإقامة المتقطعة في تمبكتو وغاو وكيدال شمال مالي بين 2010 و2013 قبل سيطرة الجماعات المتشددة عليها وأثناء سيطرتها وبعد طردها.
الصحافي المغامر، والذي يعمل حاليا مراسلا لصحيفتي «لا تربين دو جنيف» السويسرية و«سيد إست» الفرنسية، يقول إنه حاول قدر المستطاع ألا يعتمد على المصادر الرسمية (المخابرات ورجال الأمن)، مع أنه لجأ مرات لمسؤولين سياسيين وأمنيين، لكنه ركز في تحقيقه الاستقصائي، على عناصر من مقربي بلمختار في مقدمتهم الحسن ولد الخليل (المعروف بجليبيب) الناطق باسمه وساعده الأيمن. وكذلك عمر ولد حماها القائد العسكري للتنظيم وصهر بلمختار، وحمادة محمد خيرو مؤسس «جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» ورئيس «مجلس القضاء» في غاو، إضافة إلى تجار ومهربين ووجهاء قبليين تعايشوا وعملوا مع بلمختار ويعرفونه عن قرب.
تعود البدايات الأولى لظهور قوة بلمختار حين باغت نقطة عسكرية للجيش الموريتاني على الحدود مع الجزائر وقت صلاة الفجر، يوم 4 يونيو (حزيران)، فقتل 15 جنديا وقائدهم وأصيب 17 بجروح، من أصل 53 عسكريا، بينما قتل 6 متشددين من أصل أكثر من 150 شنوا الهجوم.
تحولت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في الجزائر إلى «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» فكان لبلمختار دور محوري في الفصل الجديد، وبدأ عملية توغل داخل الأراضي المالية ولم تعد الجزائر هي القاعدة الارتكازية الوحيدة. ويوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 2007، كان عناصر من أتباع بلمختار ينفذون أول هجوم ضد الفرنسيين في المنطقة، حيث قتلوا 4 سياح قرب مدينة آلاك الموريتانية (نحو 260 كلم جنوب شرقي نواكشوط)، وبعدها بيومين نفذ مسلحون آخرون هجوما قتلوا خلاله جنديا موريتانيا في منطقة «الغلاوية» في ولاية آدرار شمال البلاد. فكان الهجومان المتتاليان سببا مباشرا في إلغاء سباق باريس - داكار الشهير وتحويله إلى أميركا الجنوبية، بعد 28 سنة في أفريقيا.
يروي الكتاب، كيف كان بلمختار غامضا في بدايته، لكنه تمكن من توطيد قدميه في منطقة كانت عصية، وتمكن من «اختراق» الصحراء، وقيادة أكثر العمليات الإرهابية إثارة.
يقول المؤلف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إن الجزائري بلمختار (المولود 1972 بغرداية جنوب الجزائر) مقتنع أنه «على حق» ويطمح في تجسيد حلم أن يكون بن لادن آخر في عمق الصحراء. ويصفه بأنه «إنسان جهادي متشدد ومتعصب، لكنه مؤمن جدا بكل ما يقوم به».

* البداية.. زواج مصلحة

* عرف الجزائري المتشدد كيف يعزز وجوده في منطقة أغلب سكانها من العرب والطوارق المحافظين. فاختار الزواج من فتاة تنتمي لإحدى الأسر النبيلة من «أولاد إدريس» وهم من قبيلة البرابيش العربية، في منطقة «لرنب» شمال مالي، والتي يغلب عليها الطابع البدوي. وتعيش على الأسواق الأسبوعية المتنقلة في المنطقة الحدودية بين موريتانيا ومالي.
ويشير الكتاب إلى أن هذا الزواج شكل نقطة تحول كبرى لبلمختار، ولكن عقد القران لم يمر مرور الكرام، فقد اعتاد السكان المحليون أن يكون الزواج داخليا فقط، ورغم أن بلمختار ينتمي لقبيلة «الشعانبة» العربية بالجزائر وأحد فروع «بني سليم»، فإنه بالنسبة للبرابيش هو رجل من بيئة مختلفة. «فكانت هذه المرة الأولى في التاريخ التي تتزوج فيها فتاة نبيلة من البرابيش مع رجل ليس من مقامها»، يقول محمد محمود أحد الشهود على الزواج.
كانت تلك البداية الفعلية ليصبح «بن لادن الصحراء» نافذا، معتمدا على تحالف قائم على «زواج مصلحة»، فبات يعرف المنطقة وتفاصيلها أكثر من أهلها. ومن ثم استطاع تجنيد المئات من مختلف البلدان المحيطة من العرب والطوارق والزنوج، ولم يعد يركز على العناصر الجزائرية فقط.
ويروي الكتاب عن مصدر حكومي مالي، كيف أن هذا الزواج شكل «صفقة جيدة» لكلا الطرفيين، فبلمختار أصبح في حماية واحدة من أقوى القبائل بشمال مالي، كما أن أسرة زوجته غنية. وبالتالي أصبح هناك «تبادل للأعمال»، حيث كان هو وتنظيمه يجدون سوقا جيدة للتبييض، وبيع السيارات المسروقة من الجزائر، كما أنه اشترك في أعمال تجارية مع أصهاره.
ويتقصى الكتاب أسطور «السيد مالبورو» التي كان يوصف بها بلمختار في إشارة لبيعه السجائر المهربة؛ قائلا إن كل التحقيقات والمقابلات تؤكد أنه لا يعمل في تهريب المخدرات والسجائر، وإنما يعتمد على الأموال التي يجنيها من الفديات التي تقدمها الدول الغربية لإطلاق سراح مواطنيها المختطفين. بحسب عمر ولد حماها القائد العسكري لجماعة بلمختار، وعم زوجته. والذي أجرى معه المؤلف مقابلة مطولة.
ويؤكد أحد كبار المسؤولين في منطقة الساحل هذه المعلومات. لكنه يضيف أن بلمختار عمل طويلا في تهريب المحروقات من الجزائر، حيث اللتر الواحد يباع بـ10 سنتيمات من اليورو داخل الجزائر، ويباع بضعف هذا المبلغ 10 مرات في دول المنطقة.
الصحافي مؤلف الكتاب، والذي عمل لسنوات مع مؤسسات إعلامية عريقة من بينها صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، يؤكد أنه في نهاية 2010 زار موريتانيا وشمال مالي لإنجاز تقرير استقصائي لقناة «فرانس 2» بعنوان «على خطى القاعدة في الساحل» ضمن برنامج «مبعوث خاص»؛ حينها لم يفكر في تأليف كتاب، بل في سلسلة مقالات.
لكن في أبريل (نيسان) 2012 بعد دخول الحركة الوطنية والجماعات الإسلامية المتشددة إلى تمبكتو وغاو. ذهب إلى غاو، لإنجاز عمل تلفزيوني عن الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وقضية الطوارق. «وبعد وصولنا اكتشفت أن المدينة تسيطر عليها جماعة التوحيد والجهاد وجماعة بلمختار، ومن هذه النقطة بدأ الاهتمام، حيث كان الكل يتحدث حول بلمختار»، يقول ولد محمد سالم. وترسخت فكرة الكتاب عندما عاد الصحافي - المؤلف في أغسطس (آب) من العام نفسه عن طريق تمبكتو، حيث «أنصار الدين» و«القاعدة». واستمر في البحث والتنقل بين المدن التي تسيطر عليها الجماعات المتشددة، وبعد طرد القوات الفرنسية لها عاد إلى المنطقة، وسافر إلى النيجر وبوركينا فاسو، ثم إلى موريتانيا عبر الجزائر والسنغال.
وبدأ العمل على الكتاب يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، وعاد إلى المنطقة في فبراير (شباط) الموالي. ليبدأ فعليا الكتابة في مايو (أيار) الماضي، «وفرضت على نفسي نمطا صعبا من العمل. فكنت أمضي 15 ساعة يوميا متواصلة في الكتابة، حتى نهاية يوليو (تموز)»، يقول المؤلف.

* صحافي أم جاسوس؟

* يقول مؤلف «بن لادن الصحراء»، إنه لم يواجه «مخاطر» مباشرة، وإنما عاش «هواجس ومخاوف». ففي سفره الأول إلى شمال مالي في 2010، رتب كل شيء مع الطوارق (الحركة الوطنية)، ولكن صادف يوم خروجهم من كيدال إلى غاو اختطاف شابين فرنسيين في نيامي عاصمة النيجر، قتلا لاحقا في اشتباك بين قوات فرنسية خاصة، وجماعة بلمختار.
وفي المرة الثانية ربيع 2012، كان برفقته مصور فرنسي، وكان يخشى عليه من الاختطاف رغم أن الطوارق وفروا لهما الحراسة بـ40 مسلحا.
وفي صيف 2012 خلال زيارته الثالثة، كان يواجه نظرات الاتهام بـ«التجسس» التي تلاحقه، بما أنه صحافي موريتاني يعمل في فرنسا، وهما بلدان في حرب مع هذه التنظيمات. وقد قبل الأمين ولد محمد سالم الالتزام بـ15 شرطا مكتوبا قدمتها «أنصار الدين» في تمبكتو. وأكد لهم أنه لا يريد أن يرى الأشياء «الحساسة»، وإنما يسعى لمتابعة الحياة اليومية في ظل سيطرتهم. ويقول: «في الأيام الأولى كانت نظرات الريبة تلاحقني، وكنت تحت المراقبة. وكان بعضهم (خصوصا من الموريتانيين) ينظر إلى على أنني جاسوس. ولكن تبين لهم أنني مجرد صحافي يقوم بعمله».
يقول ولد محمد سالم، إن كتابه ليس فقط حول بلمختار وسيرته الشخصية، وإنما أخذه ليكون مفتاحا للمنطقة والأحداث التي وقعت خلال 20 سنة الأخيرة. من عمليات الاختطاف والعنف والتمرد.
ويعرب عن أمله الكبير في أن يترجم بأسرع وقت إلى اللغة العربية، وقد تواصل معه أشخاص من مختلف الدول العربية يتساءلون عن الترجمة العربية، حتى قبل صدور الكتاب. ويقول إنه يبحث الآن عن آلية لذلك. وقد أبلغ الناشر بأن الطلب كبير على الترجمة العربية. ويشير إلى أنه تواصل قبل أيام مع دار نشر عربية بهذا الخصوص، لكن لا نتائج حتى الآن.
ويضيف: «إنها خسارة إن لم يترجم إلى العربية. أنا لا أكتب للفرنسيين فقط، وإنما لضرورات تتعلق بالعمل. فأنا عندما أكتب أفكر بكل من قد يقرأ. وهذا الكتاب موجه للجميع».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.