الفنان إبراهيم نصر... أيقونة «الكاميرا الخفية» يرحل في شهر تألقه

برامجه الرمضانية حققت له شهرة واسعة مصرياً وعربياً

الفنان المصري الراحل إبراهيم نصر
الفنان المصري الراحل إبراهيم نصر
TT

الفنان إبراهيم نصر... أيقونة «الكاميرا الخفية» يرحل في شهر تألقه

الفنان المصري الراحل إبراهيم نصر
الفنان المصري الراحل إبراهيم نصر

في الشهر الذي ارتبط فيه بذاكرة أجيال من المصريين والعرب على مدار 17 سنة ببرنامجه الشهير «الكاميرا الخفية»، غيّب الموت أمس، الفنان المصري إبراهيم نصر عن عمر يناهز 74 عاماً، وشغل خبر وفاته المصريين بشكل لافت على مواقع التواصل الاجتماعي أمس، وتصدر كـ«ترند» موقع «تويتر» في مصر، أمس.
ونعاه نقيب الفنانين المصريين أشرف زكي، في بيان له، قال فيه إن «الفن المصري والعربي فقد فناناً كبيراً أثرى السينما والدراما التلفزيونية» وتم تشييع جنازة الفنان الراحل من الكنيسة المرقسية القديمة بالأزبكية، ليوارى جثمانه مقابر الأسرة بمقابر العباسية.
وأثار رحيل الفنان الكبير حزن الوسط الفني المصري ونعاه السيناريست مدحت العدل بتغريدة على «تويتر»: «إبراهيم نصر خفّة الظل المصرية الحقيقية دون صراخ أو سماجة أو إهانة أو استظراف»، كما كتب الفنان محمد محسن: «وداعاً الفنان إبراهيم نصر الذي نحتفظ بذكريات جميلة معه، حيث أمتعنا وأضحكنا كثيراً... وبالمناسبة أول مرة أعرف من صور الجنازة أنه كان مسيحي الديانة. الله يرحمك بعدد كل ضحكة كنت سبباً فيها». وتداول المغردون على مواقع التواصل الاجتماعي عدداً من أشهر «إفيهات» أدواره، ومنها: «انفخ البلالين يا نجاتي»، و«لما أقولك بخ تبخ»، من برنامج «الكاميرا الخفية»، و«يا مدام كوثر أنا متعكنن أنا متحسر» و«العمر عدّى ولا لمحته... ابقوا افتكروني لو سمحتوا... آه يا أندال... أديكوا دفنتوا وروحتوا» من فيلم «إكس لارج».
الفنان إبراهيم نصر، المولود بحي شبرا الشعبي بالقاهرة، قبيل نهاية النصف الأول من القرن الماضي، اسمه الحقيقي إبراهيم نصر النخيلي، نسبةً إلى مركز النخيلة من محافظة أسيوط مسقط رأس والده، (صعيد مصر)، والذي جاء إلى القاهرة للعمل في مجال المقاولات والبناء، حصل على ليسانس الآداب عام 1972 وكان أول ظهور فني له مع الإعلامية الراحلة أماني ناشد في برنامج بعنوان «عزيزي المشاهد» وكانت لحظة ميلاده الفني بتقديم شخصية فنية، وحسب موقع «السينما كوم» فإنه قدّم طوال مسيرته الفنية الطويلة أكثر من 103 أعمال فنية ما بين المسلسلات والأفلام والفوازير والبرامج.
شارك إبراهيم نصر في فوازير «المناسبات» مع الفنانة هالة فؤاد وصابرين ويحيي الفخراني عام 1988، كما أطل على جماهيره في رمضان في دور بمسلسل «ألف ليلة وليلة» مع النجم حسين فهمي والفنانة نجلاء فتحي، عام 1992، وفوزاير «عجائب صندوق الدنيا» مع الفنانة الكبيرة نيللي. كما شارك الكوميديان الكبير فؤاد المهندس بأدوار في حلقات «عمو فؤاد» للأطفال في عدة مواسم منه.
أدوار لا تُنسى قدمها الفنان الراحل والتي أظهر فيها براعته في الأداء ما بين الميلودراما والكوميديا، ومنها: مسلسل «العرضحالجي» مع الفنان الراحل فريد شوقي، كما شارك في فيلم «شمس الزناتي» مع الزعيم عادل إمام، كما قدم مع النجم الراحل أحمد زكي «مستر كاراتيه» و«امراة واحدة لا تكفي»، و«حسن اللول»، وقدم دور شيمون بيري في الرائعة الدرامية «رأفت الهجان» مع الفنان الراحل محمود عبد العزيز.
وكان قد انقطع لمدة 8 سنوات عن الظهور في التلفزيون والسينما وعاد في آخر أبرز أدواره ليشارك النجم أحمد حلمي في فيلم «إكس لارج» بدور خاله، وترك بصمة بمزجه ما بين الكوميديا والدراما في ذلك الدور. وقبل رحيله كان قد شارك الفنان آسر ياسين ويسرا وأمينة خليل في فيلم «صاحب المقام» والذي لم يُعرض بعد. وكان آخر أعماله الرمضانية «مسلسل فوق السحاب» أمام هاني سلامة رمضان 2018.
ويرى الناقد الفني سيد محمود سلام، أن الفنان الراحل كان إنساناً مبدعاً وأحد أهم الفنانين المصريين، وأعتقد أنه ظُلم بحصره في الأعمال الكوميدية فقط؛ لأنه قدم أدواراً متعددة بعيدة عن الكوميديا ولكن كل شخصية كان يؤديها كان لا بد أن تترك أثراً في نفوس الجمهور ويتذكرها ويتذكر كلماتها.
ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «التقيته أكثر من مرة وخلال حواراتي معه كانت أمنيته أن يقدم المزيد من الأعمال على خشبة المسرح فقد كانت فيه بداياته وكان يرغب أن تتاح له الفرصة ليقدم المزيد من الأعمال عليه، وقدم (الكاميرا الخفية) مع يحيى تادرس وعلي العسال في التلفزيون المصري بأقل الإمكانيات ولم يكن يتقاضى أجراً جيداً، وكان يبتكر كل عام ما يسعد به قلوب ملايين الجماهير».
«هو سيد الكاميرا الخفية أو عُمدة الكاميرا الخفية» حسب وصف سلام، الذي يشير إلى أن «نصر كان مبدعاً في اختراع الفكرة، وحتى أمام كبار النجوم كان رغم أدواره الصغيرة يلفت الانتباه له ويثير إعجاب الجمهور بسبب حضوره اللافت».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)