«ربط نزاع» لبناني لتطويق المواجهات السياسية

الملفات الداخلية وعوائق إسقاط الحكومة والأولويات الدولية تدفع باتجاهه

الرئيس عون خلال اجتماعه مع الزعماء السياسيين لطرح الخطة الاقتصادية في القصر الرئاسي في بعبدا الاربعاء (رويترز)
الرئيس عون خلال اجتماعه مع الزعماء السياسيين لطرح الخطة الاقتصادية في القصر الرئاسي في بعبدا الاربعاء (رويترز)
TT

«ربط نزاع» لبناني لتطويق المواجهات السياسية

الرئيس عون خلال اجتماعه مع الزعماء السياسيين لطرح الخطة الاقتصادية في القصر الرئاسي في بعبدا الاربعاء (رويترز)
الرئيس عون خلال اجتماعه مع الزعماء السياسيين لطرح الخطة الاقتصادية في القصر الرئاسي في بعبدا الاربعاء (رويترز)

هدأ التصعيد المتبادل بين القوى السياسية في لبنان مطلع الأسبوع الحالي، واتجهت الأطراف إلى تنظيم خلافاتها، مدفوعة بتسوية غير معلنة بين الأقطاب، أجّلت ملفات خلافية أو طوتها، وتوصلت إلى قاسم مشترك على طلب مساعدة «صندوق النقد الدولي» لحل الأزمتين الاقتصادية والمالية، وسط دعوات لـ«تجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسية» وصب الجهود لمواجهة الأزمة الاقتصادية.
غير أن «ربط نزاع» بين القوى المتعارضة، تدفع إليه استحقاقات داخلية وعوائق تحول دون التغيير، إلى جانب حيادية دولية لا تضع لبنان وملفاته في أعلى قائمة أولوياتها في هذه الظروف؛ إذ يواجه العالم أزمة تفشي فيروس وباء «كوفيد19»، ومعالجة تداعياته الاقتصادية والسياسية، وبذل الجهود لمواجهة احتمالات وصول الموجة الثانية من الوباء. ولكن مثلت هذه الوقائع فرصة نادرة لتطويق الملفات الداخلية والحدّ من تناميها منعاً لانهيار دراماتيكي، أمني وسياسي، يتزامن مع تنامي الاحتقان الشعبي ضد الحكومة اللبنانية الذي انفجر في طرابلس وصيدا على شكل احتجاجات، لم تخلُ من أعمال عنف ومواجهات مع القوى العسكرية والأمنية، وتركت وراءها مشهدية بالغة الدلالات، تمثلت في صور فروع مصرفية تعرضت للحرق، وفروع مصرفية أخرى رفعت الصفائح المعدنية على واجهاتها تحوّطاً من مواجهات جديدة.

خطّ اللقاء الوطني المالي لعرض خطة التعافي الوطني التي أقرتها الحكومة في قصر بعبدا الجمهوري يوم الأربعاء الماضي، شكلاً جديداً للعلاقات السياسية المتأزمة، طمأن فيه الرئيس اللبناني ميشال عون إلى أن «أحوج ما نكون إليه في أيامنا هذه هو تجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسية، فنتحد للتغلب على أزمتنا المستفحلة وتغطية الخسائر المحققة في قطاعاتنا كافة، العامة والخاصة».
وسار رئيس الحكومة حسان دياب بالاستراتيجية نفسها، إذ عدّ في كلمته «أننا وصلنا إلى اللحظة التي صار لزاماً علينا فيها أن نبدأ بإصلاح الأضرار التي وقعت في البنية المالية والاقتصادية للبلد»، مشيراً أيضاً إلى أنه «لا مجال للمزايدات اليوم، ولا مكان لتصفية الحسابات، ولا يفترض فتح الدفاتر القديمة في السياسة».
العبارة الأخيرة، بنى عليها البعض كثيراً من الرمزيات السياسية، لتكون خطة عمل المرحلة المقبلة، بعد نحو 100 يوم على تشكيل الحكومة، وانفجرت العلاقات فيها في الأسبوعين الأخيرين على ضوء انتقاد دياب مرحلة السنوات الثلاثين الماضية وتحميلها مسؤولية الأزمة المالية الحالية، واندلاع الاشتباك السياسي على خلفية التلويح بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. كذلك احتدمت الاتهامات بين الكتل السياسية على ضوء تحميل بعضها بعضاً مسؤولية إسقاط صفة الاستعجال عن اقتراح القانون المعجل المكرر الرامي إلى رفع الحصانة عن الوزراء وإحالته إلى اللجان النيابية لدراسته خلال الجلسة البرلمانية التي عقدت في قصر الأونيسكو قبل أسبوعين، إلى جانب امتعاض دياب من فقدان الجلسة النيابية نصابها القانوني بعد الطلب بتخصيص مبلغ 1200 مليار ليرة (800 مليون دولار وفق السعر الرسمي) لإنفاق مساعدات اجتماعية وتمكين اقتصادي في الأزمة.
الحكومة وجدت نفسها بمواجهة مجلس النواب الذي لم يتح لها إنفاقاً مشابهاً يساهم في تمكينها ورفع رصيدها شعبياً، من غير إلى توافق سياسي يضمن مرور مشروع مشابه في مجلس النواب الذي تتمثل فيه الأطراف السياسية. وهذا ما ترى مصادر الرئيس اللبناني أنه هدف إليه عبر دعوة رؤساء الكتل النيابية والقيادات إلى اجتماع بعبدا، بما يفتح طريقاً للتهدئة، بمعزل عن نتائج الاجتماع الذي قاطعه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، فيما أرسل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ملاحظاته حوله، بعد يومين على لقاء مفاجئ عقده مع الرئيس عون في القصر الجمهوري.

تنظيم خلاف سياسي
جنبلاط لاقى عون عند منتصف الطريق في مبادرة للتهدئة، ولبّى الزعيم الاشتراكي دعوة عون لزيارته في القصر الجمهوري خارج إطار لقاء بعبدا يوم الأربعاء الماضي. وليس خافياً أن هناك علاقة متوترة منذ الصيف الماضي مع «التيار الوطني الحر»، لكن جنبلاط قال «إننا نسعى ونطالب بتحسينها أو بتنظيم الخلاف بيننا. حيث نختلف كان به، وحيث لا نختلف نتفق، ولكن فليكن الأسلوب من قبلهم وقبلنا، بالتعاطي الإعلامي وغير الإعلامي غير انفعالي». كذلك بعث جنبلاط برسالة إيجابية مقابلة، حين قال إنه فيما يتعلق بالحكومة، «لستُ ساعياً لتغيير الحكومة أو غير الحكومة»، لافتاً إلى أنه «في هذا الجو الهائل من المصائب الاجتماعية والاقتصادية، ومع الـ(كورونا)، لا أعتقد أن الوضع مناسب لتغيير الحكومة».

قراءة لموقف جنبلاط
بعيداً عن التوصيفات السياسية والأدبية، حيال ما حصل، يؤكد مستشار رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» رامي الريس أن «وليد جنبلاط كالعادة عنده هاجس العيش المشترك في الجبل وتحصين المناخات الإيجابية بين كل مكونات الجبل، وهي التي تعرضت لاهتزازات كبيرة في الشهرين الماضيين بفعل بعض المنشورات في مواقع التواصل التي كانت ترمي إلى نكء جراح الماضي والنبش في قبوره، وهو غير مفيد على الإطلاق».
ولفت الريس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى مبادرة من عون بدعوة جنبلاط إلى الالتقاء، «وكان من الطبيعي تلبية هذه الدعوة، فهو الذي يرفع دائماً شعار الحوار ولو كان على قاعدة الاختلاف». ويرى الريس أن «التعبير الأدق هو تنظيم الخلاف السياسي، وليس ربط النزاع، بمعنى أن للتيار وجهة نظره حيال القضايا الوطنية والسياسية، ونحن لنا وجهة أخرى، وهو مشروع في إطار الحياة الديمقراطية والوطنية على أن يبقى ضمن أصول أدبيات التخاطب السياسي كي لا تنزلق الأمور إلى حيث لا يريد أي من اللبنانيين». وشددً على «أننا حريصون على أن نعطي هذا المسار حقه الكامل حتى الوصول إلى النتيجة المرجوة ولتنظيم الخلاف السياسي».
معارضة من مواقع متباعدة
واقع الأمر؛ أنه لا تحمل الانقسامات والتباينات بين القوى السياسية أي مؤشر على إعادة تنظيم للقوى، ولا تنظيم لطريقة الحكم خارج السياق القائم منذ 10 سنوات على الأقل، باستثناء وجود قوى معارضة تجتمع على ملفات وتختلف على أخرى في مواجهة السلطة. والواضح هنا أن لكل من هذه القوى حساباتها، وهو ما لم يُخْفه رئيس «حزب القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع بعد مشاركته في لقاء بعبدا، موضحاً «أننا لسنا جبهة واحدة، فكل منا من موقعه في موقع معارض على طريقته، ولم نستطع التوصل إلى تشكيل جبهة واحدة». وأردف أن عدم قيام جبهة واحدة حتى الآن «يعود إلى عدم رغبتنا في البقاء على ما كنا عليه، أي أن نتفق على نقطة ونختلف على الكثير غيرها، وأن نتفق على أمر ما وندخل إلى الحكومة وتتغير الأمور، فإما الاتفاق على خطة شاملة، أو أن نبقى نعارض كل من موقعه. حتى الآن لم نستطع الاتفاق على خطة شاملة بعد».
يُستدلّ إلى هذا الواقع، من حضور «القوات» مثلاً، في مقابل غياب «تيار المردة» الممثَّل في الحكومة الحالية. أما تيار «المستقبل» فقاطع انطلاقاً من أن المكان الطبيعي لمناقشة «الخطة الاقتصادية» هو المجلس النيابي، خصوصاً ‏بعد إقرارها في مجلس الوزراء، متعهداً بإعلان موقف وتعليق لتيار «المستقبل» على كل نقطة من نقاط الخطة في ‏القريب العاجل. ‏ وأما على ضفة «الاشتراكي»، فيشير الريس إلى أن «عملية خلط الأوراق السياسية في مسألة التحالفات الداخلية متواصلة منذ التسوية الرئاسية في 2016، ولاحقاً بعد انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي». ورأى أن «المطلوب الآن، بدلاً من بذل الجهود لتركيب التحالفات والجبهات، السعي الجماعي المشترك لإنقاذ الوضع الاجتماعي والمعيشي الذي بلغ مراحل خطيرة وغير مسبوقة... مع تآكل القيمة الشرائية للعملة الوطنية وارتفاع نسب البطالة والتدهور الاقتصادي، وبالتالي فإن الأولوية الآن لهذا المجال»، لافتاً إلى أن الحزب الاشتراكي أعدّ ورقة اقتصادية تتضمن ملاحظاته ورؤيته لتحسين الوضع.
وحقاً، كان جنبلاط قد قال بعد زيارته بعبدا يوم الاثنين الماضي إن الزيارة «جاءت بمبادرة من قبل ساعي خير، ولا علاقة لي بأي أحلاف ثنائية أو ثلاثية». وتابع: «هذه حساباتي؛ مبنية على حساباتي الخاصة، وعلى ضرورة تحسين العلاقة وتنظيم الخلاف إذا وجد مع (التيار الوطني الحر). ومع كل احترامي للرئيس الحريري أو للدكتور سمير جعجع، لا علاقة لي».

ترتيبات داخلية
في أي حال، تتجاوز التهدئة بين المكوّنات، الخطة الاقتصادية المعرّضة للانتقادات في كثير من تفاصيلها، باستثناء طلب المساعدة من «صندوق النقد الدولي». ذلك أن اعتبارات كثيرة تدفع باتجاه ضرورة تنظيم الخلاف، بحكم مجموعة وقائع لا يمكن تخطيها؛ أهمها الحاجة إلى حكومة في هذه الظروف تدير الأزمة التي لا يبدو أن هناك منفذاً لتجاوزها في القريب العاجل، في ظل تبدل في الأولويات الدولية تجاه مواجهة أزمة «كورونا»، واختلاف المقاربات الدولية حيال لبنان والإصرار على تنفيذ الإصلاحات قبل أي مساعدة مطلوبة من المجتمع الدولي لإنقاذ الوضع في لبنان. ويتصدّر واقع أنه لا يمكن تشكيل حكومة قريباً بديلة عن الحكومة الحالية في حال سقوطها، قائمة الوقائع الداخلية، ما يعني ضرورة ربط النزاع مع الحكومة التي يفترض أن تنفذ التعيينات في المواقع الشاغرة، وهو ما يتطلب تهدئة وحواراً معها.
وينظر معارضو الحكومة والقوى المنخرطة في تسويات، إلى الترتيبات الداخلية المستجدة على أنها ناتجة عن ضرورة التسوية بين السلطة والمال في البلاد، بالنظر إلى أن القوى السياسية «باستثناء (حزب الله) لا تحمل مشروعاً خاصاً؛ سواء كانوا من معارضي الحزب وحلفائه»، حسبما يقول الباحث السياسي الدكتور توفيق الهندي. ويعدّ الهندي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنه «لا يوجد توجه لطرح قضية وطنية عند سائر الأقطاب، باستثناء الحزب الذي يمتلك مشروعاً، بينما كل طرف آخر له حساباته الخاصة التي لا تلتقي مع حسابات الآخرين».
ويرى الهندي أن جنبلاط واضح؛ «إذ لا همّ له، منذ عام 2008، إلا حماية الجبل، وهو يريد الحفاظ على هذا الواقع وعلى نفوذه فيه، بينما يحاول آخرون القضم منه» في إشارة إلى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. أما الحريري؛ «فيتحضر لمرحلة مقبلة، ولا يريد أن يغيب بشكل كامل، رغم اليقين أنه في الفترة الحالية لا يريد العودة إلى رئاسة الحكومة، وقد قفز من (التيتانيك) مع جعجع قبل وصول المرحلة إلى الانهيار». واستطرد أن «الصفقة مع عون لإحضاره إلى الرئاسة، ولو أنها في الباطن تبدو صفقة مع (حزب الله)، تعرضت لانتكاسة».
كذلك يرى الهندي أن «البلاد تعيش على المحاصصة، وهو ما يوجب التسويات»، ويعدّ أن من يخرج من السلطة «يبقى ساعياً للحفاظ على وجوه في الدولة العميقة». ويتابع قائلاً أن السلطة اليوم «تقبض عليها إيران عبر (حزب الله)، مما يعني أن أي هدنة معها، هي في المضمون هدنة مع إيران». ويعدّ أن الخطأ الجسيم الذي وقع بعد اغتيال الوزير الأسبق محمد شطح، «كان عقد تسوية بدلاً من الطلاق الحبي، وهي الاستراتيجية التي كنا نعمل عليها أنا وشطح».
معارضون في بعبدا... وممثلون بالحكومة غائبون

> مثّل لقاء بعبدا شكلاً من أشكال «ربط النزاع» بعد التوترات الأخيرة، والسجالات السياسية التي شهدت تصعيداً متبادلاً بين أطراف «التيار الوطني الحر» والحكومة من طرف، والقوى المعارضة من طرف آخر؛ إذ كان لافتاً حضور رئيسي مجلسي النواب نبيه بري والوزراء الدكتور حسان دياب، ورئيس «كتلة لبنان القوي» (والتيار العوني) النائب جبران باسيل، ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» (حزب الله) النائب محمد رعد، ورئيس «كتلة الجمهورية القوية» (القوات اللبنانية) الدكتور سمير جعجع، في اللقاء، مقابل تغيب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية بشكل أساسي، إضافة إلى تغيب جنبلاط الذي حضر بورقة ملاحظات على الخطة الاقتصادية بعد يومين على زيارته عون في قصر بعبدا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.