هدأ التصعيد المتبادل بين القوى السياسية في لبنان مطلع الأسبوع الحالي، واتجهت الأطراف إلى تنظيم خلافاتها، مدفوعة بتسوية غير معلنة بين الأقطاب، أجّلت ملفات خلافية أو طوتها، وتوصلت إلى قاسم مشترك على طلب مساعدة «صندوق النقد الدولي» لحل الأزمتين الاقتصادية والمالية، وسط دعوات لـ«تجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسية» وصب الجهود لمواجهة الأزمة الاقتصادية.
غير أن «ربط نزاع» بين القوى المتعارضة، تدفع إليه استحقاقات داخلية وعوائق تحول دون التغيير، إلى جانب حيادية دولية لا تضع لبنان وملفاته في أعلى قائمة أولوياتها في هذه الظروف؛ إذ يواجه العالم أزمة تفشي فيروس وباء «كوفيد19»، ومعالجة تداعياته الاقتصادية والسياسية، وبذل الجهود لمواجهة احتمالات وصول الموجة الثانية من الوباء. ولكن مثلت هذه الوقائع فرصة نادرة لتطويق الملفات الداخلية والحدّ من تناميها منعاً لانهيار دراماتيكي، أمني وسياسي، يتزامن مع تنامي الاحتقان الشعبي ضد الحكومة اللبنانية الذي انفجر في طرابلس وصيدا على شكل احتجاجات، لم تخلُ من أعمال عنف ومواجهات مع القوى العسكرية والأمنية، وتركت وراءها مشهدية بالغة الدلالات، تمثلت في صور فروع مصرفية تعرضت للحرق، وفروع مصرفية أخرى رفعت الصفائح المعدنية على واجهاتها تحوّطاً من مواجهات جديدة.
خطّ اللقاء الوطني المالي لعرض خطة التعافي الوطني التي أقرتها الحكومة في قصر بعبدا الجمهوري يوم الأربعاء الماضي، شكلاً جديداً للعلاقات السياسية المتأزمة، طمأن فيه الرئيس اللبناني ميشال عون إلى أن «أحوج ما نكون إليه في أيامنا هذه هو تجاوز تصفية الحسابات والرهانات السياسية، فنتحد للتغلب على أزمتنا المستفحلة وتغطية الخسائر المحققة في قطاعاتنا كافة، العامة والخاصة».
وسار رئيس الحكومة حسان دياب بالاستراتيجية نفسها، إذ عدّ في كلمته «أننا وصلنا إلى اللحظة التي صار لزاماً علينا فيها أن نبدأ بإصلاح الأضرار التي وقعت في البنية المالية والاقتصادية للبلد»، مشيراً أيضاً إلى أنه «لا مجال للمزايدات اليوم، ولا مكان لتصفية الحسابات، ولا يفترض فتح الدفاتر القديمة في السياسة».
العبارة الأخيرة، بنى عليها البعض كثيراً من الرمزيات السياسية، لتكون خطة عمل المرحلة المقبلة، بعد نحو 100 يوم على تشكيل الحكومة، وانفجرت العلاقات فيها في الأسبوعين الأخيرين على ضوء انتقاد دياب مرحلة السنوات الثلاثين الماضية وتحميلها مسؤولية الأزمة المالية الحالية، واندلاع الاشتباك السياسي على خلفية التلويح بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. كذلك احتدمت الاتهامات بين الكتل السياسية على ضوء تحميل بعضها بعضاً مسؤولية إسقاط صفة الاستعجال عن اقتراح القانون المعجل المكرر الرامي إلى رفع الحصانة عن الوزراء وإحالته إلى اللجان النيابية لدراسته خلال الجلسة البرلمانية التي عقدت في قصر الأونيسكو قبل أسبوعين، إلى جانب امتعاض دياب من فقدان الجلسة النيابية نصابها القانوني بعد الطلب بتخصيص مبلغ 1200 مليار ليرة (800 مليون دولار وفق السعر الرسمي) لإنفاق مساعدات اجتماعية وتمكين اقتصادي في الأزمة.
الحكومة وجدت نفسها بمواجهة مجلس النواب الذي لم يتح لها إنفاقاً مشابهاً يساهم في تمكينها ورفع رصيدها شعبياً، من غير إلى توافق سياسي يضمن مرور مشروع مشابه في مجلس النواب الذي تتمثل فيه الأطراف السياسية. وهذا ما ترى مصادر الرئيس اللبناني أنه هدف إليه عبر دعوة رؤساء الكتل النيابية والقيادات إلى اجتماع بعبدا، بما يفتح طريقاً للتهدئة، بمعزل عن نتائج الاجتماع الذي قاطعه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، فيما أرسل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ملاحظاته حوله، بعد يومين على لقاء مفاجئ عقده مع الرئيس عون في القصر الجمهوري.
تنظيم خلاف سياسي
جنبلاط لاقى عون عند منتصف الطريق في مبادرة للتهدئة، ولبّى الزعيم الاشتراكي دعوة عون لزيارته في القصر الجمهوري خارج إطار لقاء بعبدا يوم الأربعاء الماضي. وليس خافياً أن هناك علاقة متوترة منذ الصيف الماضي مع «التيار الوطني الحر»، لكن جنبلاط قال «إننا نسعى ونطالب بتحسينها أو بتنظيم الخلاف بيننا. حيث نختلف كان به، وحيث لا نختلف نتفق، ولكن فليكن الأسلوب من قبلهم وقبلنا، بالتعاطي الإعلامي وغير الإعلامي غير انفعالي». كذلك بعث جنبلاط برسالة إيجابية مقابلة، حين قال إنه فيما يتعلق بالحكومة، «لستُ ساعياً لتغيير الحكومة أو غير الحكومة»، لافتاً إلى أنه «في هذا الجو الهائل من المصائب الاجتماعية والاقتصادية، ومع الـ(كورونا)، لا أعتقد أن الوضع مناسب لتغيير الحكومة».
قراءة لموقف جنبلاط
بعيداً عن التوصيفات السياسية والأدبية، حيال ما حصل، يؤكد مستشار رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» رامي الريس أن «وليد جنبلاط كالعادة عنده هاجس العيش المشترك في الجبل وتحصين المناخات الإيجابية بين كل مكونات الجبل، وهي التي تعرضت لاهتزازات كبيرة في الشهرين الماضيين بفعل بعض المنشورات في مواقع التواصل التي كانت ترمي إلى نكء جراح الماضي والنبش في قبوره، وهو غير مفيد على الإطلاق».
ولفت الريس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى مبادرة من عون بدعوة جنبلاط إلى الالتقاء، «وكان من الطبيعي تلبية هذه الدعوة، فهو الذي يرفع دائماً شعار الحوار ولو كان على قاعدة الاختلاف». ويرى الريس أن «التعبير الأدق هو تنظيم الخلاف السياسي، وليس ربط النزاع، بمعنى أن للتيار وجهة نظره حيال القضايا الوطنية والسياسية، ونحن لنا وجهة أخرى، وهو مشروع في إطار الحياة الديمقراطية والوطنية على أن يبقى ضمن أصول أدبيات التخاطب السياسي كي لا تنزلق الأمور إلى حيث لا يريد أي من اللبنانيين». وشددً على «أننا حريصون على أن نعطي هذا المسار حقه الكامل حتى الوصول إلى النتيجة المرجوة ولتنظيم الخلاف السياسي».
معارضة من مواقع متباعدة
واقع الأمر؛ أنه لا تحمل الانقسامات والتباينات بين القوى السياسية أي مؤشر على إعادة تنظيم للقوى، ولا تنظيم لطريقة الحكم خارج السياق القائم منذ 10 سنوات على الأقل، باستثناء وجود قوى معارضة تجتمع على ملفات وتختلف على أخرى في مواجهة السلطة. والواضح هنا أن لكل من هذه القوى حساباتها، وهو ما لم يُخْفه رئيس «حزب القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع بعد مشاركته في لقاء بعبدا، موضحاً «أننا لسنا جبهة واحدة، فكل منا من موقعه في موقع معارض على طريقته، ولم نستطع التوصل إلى تشكيل جبهة واحدة». وأردف أن عدم قيام جبهة واحدة حتى الآن «يعود إلى عدم رغبتنا في البقاء على ما كنا عليه، أي أن نتفق على نقطة ونختلف على الكثير غيرها، وأن نتفق على أمر ما وندخل إلى الحكومة وتتغير الأمور، فإما الاتفاق على خطة شاملة، أو أن نبقى نعارض كل من موقعه. حتى الآن لم نستطع الاتفاق على خطة شاملة بعد».
يُستدلّ إلى هذا الواقع، من حضور «القوات» مثلاً، في مقابل غياب «تيار المردة» الممثَّل في الحكومة الحالية. أما تيار «المستقبل» فقاطع انطلاقاً من أن المكان الطبيعي لمناقشة «الخطة الاقتصادية» هو المجلس النيابي، خصوصاً بعد إقرارها في مجلس الوزراء، متعهداً بإعلان موقف وتعليق لتيار «المستقبل» على كل نقطة من نقاط الخطة في القريب العاجل. وأما على ضفة «الاشتراكي»، فيشير الريس إلى أن «عملية خلط الأوراق السياسية في مسألة التحالفات الداخلية متواصلة منذ التسوية الرئاسية في 2016، ولاحقاً بعد انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي». ورأى أن «المطلوب الآن، بدلاً من بذل الجهود لتركيب التحالفات والجبهات، السعي الجماعي المشترك لإنقاذ الوضع الاجتماعي والمعيشي الذي بلغ مراحل خطيرة وغير مسبوقة... مع تآكل القيمة الشرائية للعملة الوطنية وارتفاع نسب البطالة والتدهور الاقتصادي، وبالتالي فإن الأولوية الآن لهذا المجال»، لافتاً إلى أن الحزب الاشتراكي أعدّ ورقة اقتصادية تتضمن ملاحظاته ورؤيته لتحسين الوضع.
وحقاً، كان جنبلاط قد قال بعد زيارته بعبدا يوم الاثنين الماضي إن الزيارة «جاءت بمبادرة من قبل ساعي خير، ولا علاقة لي بأي أحلاف ثنائية أو ثلاثية». وتابع: «هذه حساباتي؛ مبنية على حساباتي الخاصة، وعلى ضرورة تحسين العلاقة وتنظيم الخلاف إذا وجد مع (التيار الوطني الحر). ومع كل احترامي للرئيس الحريري أو للدكتور سمير جعجع، لا علاقة لي».
ترتيبات داخلية
في أي حال، تتجاوز التهدئة بين المكوّنات، الخطة الاقتصادية المعرّضة للانتقادات في كثير من تفاصيلها، باستثناء طلب المساعدة من «صندوق النقد الدولي». ذلك أن اعتبارات كثيرة تدفع باتجاه ضرورة تنظيم الخلاف، بحكم مجموعة وقائع لا يمكن تخطيها؛ أهمها الحاجة إلى حكومة في هذه الظروف تدير الأزمة التي لا يبدو أن هناك منفذاً لتجاوزها في القريب العاجل، في ظل تبدل في الأولويات الدولية تجاه مواجهة أزمة «كورونا»، واختلاف المقاربات الدولية حيال لبنان والإصرار على تنفيذ الإصلاحات قبل أي مساعدة مطلوبة من المجتمع الدولي لإنقاذ الوضع في لبنان. ويتصدّر واقع أنه لا يمكن تشكيل حكومة قريباً بديلة عن الحكومة الحالية في حال سقوطها، قائمة الوقائع الداخلية، ما يعني ضرورة ربط النزاع مع الحكومة التي يفترض أن تنفذ التعيينات في المواقع الشاغرة، وهو ما يتطلب تهدئة وحواراً معها.
وينظر معارضو الحكومة والقوى المنخرطة في تسويات، إلى الترتيبات الداخلية المستجدة على أنها ناتجة عن ضرورة التسوية بين السلطة والمال في البلاد، بالنظر إلى أن القوى السياسية «باستثناء (حزب الله) لا تحمل مشروعاً خاصاً؛ سواء كانوا من معارضي الحزب وحلفائه»، حسبما يقول الباحث السياسي الدكتور توفيق الهندي. ويعدّ الهندي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنه «لا يوجد توجه لطرح قضية وطنية عند سائر الأقطاب، باستثناء الحزب الذي يمتلك مشروعاً، بينما كل طرف آخر له حساباته الخاصة التي لا تلتقي مع حسابات الآخرين».
ويرى الهندي أن جنبلاط واضح؛ «إذ لا همّ له، منذ عام 2008، إلا حماية الجبل، وهو يريد الحفاظ على هذا الواقع وعلى نفوذه فيه، بينما يحاول آخرون القضم منه» في إشارة إلى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. أما الحريري؛ «فيتحضر لمرحلة مقبلة، ولا يريد أن يغيب بشكل كامل، رغم اليقين أنه في الفترة الحالية لا يريد العودة إلى رئاسة الحكومة، وقد قفز من (التيتانيك) مع جعجع قبل وصول المرحلة إلى الانهيار». واستطرد أن «الصفقة مع عون لإحضاره إلى الرئاسة، ولو أنها في الباطن تبدو صفقة مع (حزب الله)، تعرضت لانتكاسة».
كذلك يرى الهندي أن «البلاد تعيش على المحاصصة، وهو ما يوجب التسويات»، ويعدّ أن من يخرج من السلطة «يبقى ساعياً للحفاظ على وجوه في الدولة العميقة». ويتابع قائلاً أن السلطة اليوم «تقبض عليها إيران عبر (حزب الله)، مما يعني أن أي هدنة معها، هي في المضمون هدنة مع إيران». ويعدّ أن الخطأ الجسيم الذي وقع بعد اغتيال الوزير الأسبق محمد شطح، «كان عقد تسوية بدلاً من الطلاق الحبي، وهي الاستراتيجية التي كنا نعمل عليها أنا وشطح».
معارضون في بعبدا... وممثلون بالحكومة غائبون
> مثّل لقاء بعبدا شكلاً من أشكال «ربط النزاع» بعد التوترات الأخيرة، والسجالات السياسية التي شهدت تصعيداً متبادلاً بين أطراف «التيار الوطني الحر» والحكومة من طرف، والقوى المعارضة من طرف آخر؛ إذ كان لافتاً حضور رئيسي مجلسي النواب نبيه بري والوزراء الدكتور حسان دياب، ورئيس «كتلة لبنان القوي» (والتيار العوني) النائب جبران باسيل، ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» (حزب الله) النائب محمد رعد، ورئيس «كتلة الجمهورية القوية» (القوات اللبنانية) الدكتور سمير جعجع، في اللقاء، مقابل تغيب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية بشكل أساسي، إضافة إلى تغيب جنبلاط الذي حضر بورقة ملاحظات على الخطة الاقتصادية بعد يومين على زيارته عون في قصر بعبدا.