«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

بلبلة في البحريتين الأميركية والفرنسية... ومهام جديدة لأسطول روسيا

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى
TT

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

علّقت جائحة «كوفيد - 19» إلى حد كبير النشاط العسكري المعتاد للقوات المسلحة في عدد من القوى العالمية الكبرى، كون الأولوية الآن تتمثل في تكثيف الجهود لمحاربة انتشار فيروس الجائحة، الذي لم تكن الجيوش بمنأى عن إصابة أفرادها به، وهو ما تمثل في وصوله إلى حاملات طائرات فرنسية وأميركية، اضطرت على إثرها باريس وواشنطن على اتخاذ خطوات لاحتوائه. كذلك أدى انتشار الفيروس في هذه القطع البحرية بجانب القواعد العسكرية في مختلف مناطق العالم، مخاوف كبيرة من أن يترك ذلك تداعيات على حماية الممرات المائية وسيطرة تلك الدول على البحار وخطوط التجارة العالمية.
من جانب آخر، كلفت القوات المسلحة، أمام تهديد الجائحة بمهام غير تقليدية، منها الإسهام في الإغاثة الصحية، أو مهام الأمن الداخلي، أو ضبط خطوط الإمداد والتموين، في ظل قرارات الإغلاق والبقاء في المنازل.
يوم 13 أبريل (نيسان) المنصرم عادت حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول»، ذات الدفع النووي والوحيدة التي تملكها فرنسا، إلى قاعدتها في مدينة طولون قبل عشرة أيام من الموعد المحدد، واضعة بذلك حدا لمشاركتها في مناورات بحرية أوروبية في شمال المحيط الأطلسي، وذلك بسبب تفشي فيروس جائحة «كوفيد - 19» على نطاق واسع بين عسكرييها البلغ عددهم 1786 فرداً، ومنذ ذلك التاريخ والحاملة رابضة في مرفأ طولون، من دون أن تفصح البحرية الفرنسية عن تاريخ محدد لمعاودة أنشطتها مع المجموعة البحرية التي تواكبها. وبذلك، تكون فرنسا قد فقدت، مؤقتاً، القدرة على الاعتماد على هذه الحاملة التي تشكل العمود الفقري لبحريتها.
وفي هذه الأثناء، كان على الولايات المتحدة، التي باتت أكثر دول العالم تعرضاً للإصابة بـ«كوفيد - 19» أن توازن بين كيفية دعم جهودها المدنية لاحتواء الوباء وتوفيرها للإمدادات الطبية ودعم الأسر والاقتصاد، والدفاع عن الأمة من الأخطار الخارجية. ورغم حرص وزارة الدفاع «البنتاغون» على إظهار «شفافيتها» عبر بياناتها والمؤتمرات الصحافية للمتحدثين باسمها، للحديث عن انتشار فيروس الجائحة وسط وحدات الجيش الأميركي البرية والبحرية والجوية، فإن الإحراج كان واضحاً في بيانات البنتاغون، بعد تداعيات انتشاره على واحدة من أقوى حاملات الطائرات الأميركية. أما في العاصمة الروسية موسكو، فلم تكن مفاجأة، العبارة اللافتة التي أطلقها أخيراً عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، حول احتمال اللجوء إلى نشر قوات الجيش في المدن، في حال لم يلتزم المواطنون بتدابير العزل المفروضة. فقد مهد لذلك تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستعانة بالجيش لمواجهة تفاقم الوضع مع المنحى التصاعدي لتفشي الوباء في روسيا.

حكاية الحاملة «شارل ديغول»
تتميز «شارل ديغول» بأنها حاملة الطائرات الوحيدة في أوروبا التي تعمل بالدفع النووي. وتخطط باريس لبناء حاملة طائرات ثانية. إلا أن تحقيق هذا الهدف سوف يستغرق سنوات إن لم يكن عقوداً. فالخطة أطلقها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي ثم تبناها خلفه فرنسوا هولاند، إلا أنه جرى التخلي عنها لاحقاً. ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية، أعيد إحياؤها وأعلنت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي خلال عام 2018 رصد مبلغ 200 مليون يورو للدراسات الفنية والهندسية.
تمثل هذه الحاملة الكثير بالنسبة لقدرات فرنسا العسكرية. وخلال السنوات العشرين الماضية، كانت مركز الثقل في المشاركة الفرنسية في العمليات العسكرية الخارجية بدءاً من الحرب في أفغانستان على مرحلتين - ما بين عامي 2001 و2002 ثم في عام 2010 - وصولاً إلى الحرب في ليبيا، أو ما يسمى فرنسا «عملية هارمتان» وحتى الحرب على «داعش»، في إطار مشاركة باريس في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب بدءاً من عام 2014.
وتواصلت مشاركة «شارل ديغول» الجوية بفضل طائرات الـ«رافال» المحمولة، إلى جانب طلعات الطائرات الفرنسية من مطارين في منطقة الشرق الأوسط والخليج لعام 2019. في إطار العملية المسماة «كليمنصو» بعد أشهر الصيانة الطويلة (18 شهراً) التي أخضعت لها الحاملة في الأحواض العسكرية في طولون. وخلال العام الجاري، أبحرت الحاملة في مياه المتوسط وشاركت في مناورات وانتقلت إلى المحيط الهندي لتعود إلى قاعدتها وتنطلق بعدها إلى المحيط الأطلسي عبر مياه مضيق جبل طارق. وعندما ظهرت أولى حالات الجائحة على أفراد من طاقمها، كانت قبالة الشواطئ الدنماركية.

... وأهميتها للعمليات الفرنسية
الواضح أنه عندما تكون باريس في حاجة لإبراز عضلاتها في الخارج، فإن وسيلتها الأولى هي «شارل ديغول». فهذه الحاملة التي انطلقت في أولى مهماتها في 7 مايو (أيار) 1994. هي الوسيلة الرئيسية لقدرات الانتشار الفرنسية في أي مكان من العالم بفضل قوة الدفع النووية التي تتمتع بها. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الحاملة التي يبلغ طولها 261 وارتفاعها 75 متراً، بحمولة تصل إلى 45 ألف طن، تتمتع بقدرات جوية استثنائية بفضل ما يزيد على 30 طائرة قاذفة - مقاتلة من طراز «رافال» البحري وطوافات وطائرات استطلاع كما أنها مزودة بأحدث المعدات الدفاعية والرادارات. وفي أي حال، لا تبحر «شارل ديغول» أبداً وحيدة، بل مع مجموعتها البحرية المؤلفة من ثلاث فرقاطات وغواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية ومن سفينة قيادة وتموين. وأهم من ذلك كله، فإن «شارل ديغول» مكوّن رئيسي من قدرات الردع النووية الفرنسية بفضل طائرات الـ«رافال» القادرة على حمل الصواريخ النووية. وليس سراً أن قوة الردع الفرنسية تعتمد على مكوّنين: بحري وجوي. فالبحري يتمثل بأربع غواصات نووية قاذفة مزودة بـ48 صاروخاً نووياً. أما المكوّن الجوي فيتمثل بالطائرات الاستراتيجية، إن المنطلقة من القواعد الجوية أو من على متن «شارل ديغول».
وبالنظر إلى هذه الإمكانيات المتوقفة اليوم، فإن باريس تحرم نفسها من قطعة أساسية في استراتيجيتها العسكرية، وهو ما لم يتردد القادة العسكريون الفرنسيون في الإشارة إليه أكثر من مرة منذ أن رست الحاملة في مرفأها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فرنسا ليست فقط أوروبية القارة بل إنها منتشرة في المحيطين الهندي (في جزيرتي مايوت وريونيون) والمحيط الهادي (كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية إضافة إلى أرخبيل واليس وفتونا) وفي المحيط الأطلسي (جزيرتا الغوادلوب والمارتينيك) وخصوصاً غويانا الفرنسية بشمال شرقي البرازيل. وفي الوقت عينه، فإنها تملك أراضي محاذية لكندا (جزيرتي سان بيار وميكييون). ويبني هذا الانتشار الحاجة لما يسميه العسكريون الفرنسيون «القاعدة الجوية المتنقلة» القادرة بفضل دفعها النووي الوصول إلى أي منطقة بحرية في العالم دون أدنى عائق. وما بين عام 2001 و2016. قطعت «شارل ديغول» ما يساوي 30 دورة حول الأرض وأمضت 2071 يوماً في إطار مهماتها المتنوعة وشهدت 70 عملية إقلاع وهبوط على مدرجها.

التحديات أمام «البنتاغون»
في أميركا، كان الجيش الأميركي، الذي يعد أكبر قوة عسكرية في العالم وأقواها، الدخول في تحدٍ صعب وموازنة دقيقة بين توفير الحماية لأفراده، والحفاظ على جهوزيته العسكرية في المناطق التي ينتشر فيها، من الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا، في ظل قرارات «البنتاغون» الأخيرة وتداعياتها المتوقعة. وتحديداً، لجهة تحويل بعض الموارد لتلبية الحاجات الطبية جراء تفشي فيروس الجائحة بين أفراده، وإلغاء التدريبات والتنقلات العسكرية لقواته البرية والبحرية وجزئياً على قواته الجوية.
أولى تلك التداعيات كانت تراجع نشاط القوات الأميركية في سوريا، وإعادة نشرها في قواعد في العراق، عبر تخليها عن بعضها، إثر تصاعد الأخطار الناجمة عن استغلال إيران وميليشياتها تفشي الجائحة وتنفيذ هجمات متكررة على بعض القواعد. كذلك عمد الجيش إلى تقييد تحركاته في أفغانستان وأخّر تنفيذ خطط انسحاب القوات الأميركية تنفيذاً للاتفاق الذي وقع مع حركة طالبان في 29 مارس (آذار) الماضي. وأوقف أيضاً التدريبات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي «ناتو» في أوروبا، وكذلك مع بعض الدول العربية وأيضاً مع إسرائيل. ولعل انتشار الفيروس بين أفراد القوة العسكرية الأميركية البحرية، شكل أكبر المعضلات التي واجهت «البنتاغون»، وأدت إلى إحداث بلبلة غير مسبوقة وأزمة قيادية عندما ضرب الفيروس أفراد طاقم حاملة الطائرات النووية «تيودور روزفلت» فأخرجها عملياً من الخدمة بعد رسوها في قاعدة في جزيرة غوام المحيط الهادي. وتسبب الأمر بإقالة قائد الحاملة بريت كرويزر إثر نشره رسالة إلى قيادته يطلب فيها السماح للحاملة بالرسو لمعالجة المصابين، الذين بلغ عددهم أكثر من 800 من أفراد طاقمها البالغ نحو 5 آلاف، بينهم هو شخصياً. كما استقال توماس مودلي وزير البحرية بالوكالة على خلفية تعامله مع الأزمة نفسها.
ورغم تراجع وتيرة البيانات «العملانية»، توقع قادة «البنتاغون» أن يصيب فيروس الجائحة مزيداً من سفن البحرية، مشددين على ضرورة تكيف الجيش مع هذه الأوضاع. وقال الجنرال جون هيتين، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، إنه «ليس من الجيد الاعتقاد بأن (روزفلت) قضية فريدة من نوعها... لدينا الكثير من السفن في البحر..... الاعتقاد بأن ذلك لن يحدث مرة أخرى ليس وسيلة جيدة للتخطيط». وأشار إلى أن حاملة الطائرات «نيميتز»، التي ترسو في ميناء بريميرتون بولاية واشنطن، تعد للإبحار في المحيط الهادي، وعلى متنها عدد غير محدد من البحارة المصابين بالفيروس.

اختبار في مياه الخليج
وفي سياق متصل، شكلت الجائحة أول اختبار لجهوزية القوات الأميركية، مثلما كانت حافزاً لأعداء الولايات المتحدة ومنافسيها على محاولة اختبار ردة فعلها على «التحرشات». هذا ما حصل في العراق وكذلك مع إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية، في الأسابيع الأخيرة. إذ نفذ 11 زورقاً حربياً إيرانياً عمليات اقتراب وصفتها واشنطن بالخطرة في مياه الخليج من سفن حربية أميركية في الأسبوعين الماضيين. وبعد إعطاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوامره بإغراق أي مركب إيراني، أكدت قيادة المنطقة الوسطى «سانتكوم» على جهوزية عالية لمواجهة أي احتمالات «تحرش» من قبل بحرية «الحرس الثوري الإيراني» في مياه الخليج الدولية، وأن أي تعرض للمصالح الأميركية في المنطقة سيرتب نتائج سلبية وخطيرة.
أيضاً، تصدّت طائرات مقاتلة أميركية لطائرات استطلاع روسية اقتربت من المجال الجوي لولاية ألاسكا الأميركية، فيما تصدت طائرات روسية لطائرة استطلاع أميركية فوق البحر المتوسط. ونفذت الصين بعض المناورات في بحر الصين، وخصوصاً بالقرب من الجزر المتنازع عليها مع دول أخرى، وأغرقت زورق صيد فيتنامي، في تعبير عن «انزعاجها» من الوجود العسكري الأميركي في آسيا، فيما عادت كوريا الشمالية لتجربة العديد من الصواريخ قصيرة المدى والمتوسطة، وأطلقت مقذوفات نحو بحر اليابان.

روسيا: مهام مختلفة
عودة إلى روسيا، فإن الأمر لا يقتصر على المهام التي يمكن أن ينفذها الجيش الروسي لمساعدة السلطات في تنفيذ قرارات العزل، إذ بدا واضحاً تعاظم دور المؤسسة العسكرية في البلاد كواحد من تداعيات انتشار جائحة «كوفيد - 19»، مما أثار سجالات كثيرة على المستوى الداخلي. ويذكر أن بوتين كان قد قال في اجتماع حكومي إن «العسكريين الروس أثبتوا كفاءة عالية واكتسبوا خبرات مهمة في مواجهة الوضع في عدد من البلدان الأجنبية، وهذه الخبرة يجب أن تستخدم على الصعيد الداخلي». ووفقاً لبوتين فإن المؤسسة العسكرية قادرة على تسريع عمليات بناء المراكز الطبية ومستشفيات مسبقة التجهيز في وقت قياسي، وهو أمر تحتاج إليه البلاد كثيراً، خصوصاً مع الإعلان عن نقص حاد في هذا المجال.
ولم يطل انتظار تطبيقات ذلك، إذ سرعان ما أعلن عن إطلاق الجيش نشاطاً واسعاً لبناء عشرات المستشفيات في مناطق روسية مختلفة. وتبع ذلك التركيز على أن المؤسسة العسكرية تحديداً ستسهم في توفير لقاح ضد الفيروس. وكتبت وسائل إعلام روسية أن الأقسام العلمية التابعة لوزارة الدفاع بدأت بالفعل نشاطاً واسعاً في هذا الاتجاه. وهنا أيضاً برزت ضرورة الاستعانة بالخبرات العسكرية الروسية التي تراكمت خارجياً، وقالت مصادر إن تجربة علماء الأوبئة العسكرية الروسية الذين عملوا في أفريقيا وآسيا مع إصابات خطيرة بشكل خاص ينخرطون حالياً في تجربة لقاحات تم تجريبها في إيطاليا وصربيا وأرمينيا.

اهتمامات بحثية طبية
ووفقاً للجنرال إيغور كيريلوف، رئيس قوات الحماية من الإشعاع والكيمياء والبيولوجية التابعة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، فإن المتخصصين في المعهد المركزي الثامن والأربعين للبحث العلمي وهو مركز يحاط نشاطه بسرية مطلقة في العادة، يعكفون على تطوير لقاحات حالياً. وكان هذا المركز نظم نشاط مكافحة وباء الجمرة الخبيثة في يامال في صيف عام 2016. ووفقاً للمصادر العسكرية، فقد شارك معهد الأبحاث الثامن والأربعون أيضاً بنشاط في تطوير لقاح ضد إنفلونزا الطيور. لكن تعاظم دور المؤسسة العسكرية برز أيضاً على المستوى الخارجي، وأثارت المساعدات الطبية الروسية المرسلة لبلدان مختلفة موجة سجالات وتساؤلات كثيرة على خلفية اتهامات للكرملين باستخدام الكارثة العالمية في مواجهة الـ«كوفيد - 19» سياسياً، من خلال تعميق السجالات في أوروبا والعالم والتركيز على نقطة ولادة عالم جديد بخريطة قوى مختلفة في المرحلة التي تلي انحسار الجائحة.

مساعدات خارجية
وأرسلت وزارة الدفاع عشرات الطائرات العسكرية محملة بمواد مختلفة وطواقم طبية إلى إيطاليا التي «أغلقت حولها الحدود»، وبدت كما يقول مسؤولون روس: «وحيدة في مواجهة الكارثة التي حلت بها».
وظهرت أدوار جديدة للعسكريين الروس في بلدان مثل فنزويلا وإيران وسوريا، في إطار ما وصف بأنه «مساعدات وتدريبات لرفع كفاءة المؤسسات المحلية في مواجهة الفيروس». ولم تلبث موسكو أن أعلنت عن إرسال طائرة عسكرية من طراز «أنتونوف» إلى الولايات المتحدة تحمل مساعدات إنسانية وكمامات ومستلزمات طبية أخرى أساسية لمكافحة الفيروس. وشكلت هذه خطوة غير مسبوقة، فهذه أول طائرة تابعة للقوات الجوية الروسية تحط على الأراضي الأميركية. وبدا المشهد استعراضاً سياسياً قوياً، وفي مقابل تأكيد وسائل إعلام غربية أن «المساعدات العسكرية الروسية» لا جدوى منها وأن هدفها استخدام الكارثة لتحقيق أغراض سياسية، دافعت موسكو بقوة عن موقفها وتحدثت عن ضرورة «التضامن العالمي في مواجهة الجائحة». وبدا من كل تلك التطورات أن الجيش تحديداً بات يلعب الدور الأساسي في تعزيز النشاط الدبلوماسي وتمدد الوجود الروسي في مناطق جديدة، ولكن كان غريباً في هذا المسار أن تعلن موسكو أخيراً أن نحو عشرة بلدان في منطقة الشرق الأوسط «طلبت مساعدة روسية لمواجهة الجائحة». وهذه مهمة إذا اتفق عليها ستناط بالجيش الروسي.
ومع امتداد نشاط الجيش داخلياً وخارجياً، أثار التركيز على دور العسكريين ردود فعل متباينة، وفي مقابل تأكيد الوكالات الرسمية على أهمية هذا الدور في هذه المرحلة بالتحديد، خصوصاً لأن لدى المؤسسة العسكرية قدرات كبيرة يمكن الإفادة منها، فإن معلقين انتقدوا هذا التركيز ورأوا فيه واحداً من التجليات المحتملة للمرحلة المقبلة، من خلال أن بوتين يعزز القطاعات الأمنية والعسكرية مستغلاً الأزمة الحالية، وأن ما يجري يمهد للمرحلة المقبلة ليس في روسيا وحدها، بل وفي بلدان عديدة أخرى ستغير أولوياتها وفقاً لمحللين بعد انتهاء المعركة مع الوباء وتتجه لتعزيز الأنظمة الداخلية الوطنية بقدر أكبر من الانعزال والابتعاد عن سياسات الليبرالية والعولمة. وكتب ديمتري غودكوف وهو معارض ونائب سابق في مجلس الدوما، أن «الوباء سوف ينحسر عاجلاً أو آجلاً، لكن القوانين التي تسن حالياً والإجراءات التي تتخذها السلطات سوف تبقى لفترة طويلة مقبلة».

القوى الكبرى حوّلت جهودها لمكافحة الجائحة... والأولويات العسكرية العالمية تتراجع
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال العميد الركن المتقاعد خالد حمادة، مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات في العاصمة اللبنانية بيروت، إنه بعد حملة التعقيم والتطهير التي قامت بها البحرية الفرنسية لحاملة الطائرات «شارل ديغول» والقطع المرافقة في مرفأ طولون العسكري بجنوب فرنسا «يمكن لها أن تعود إلى المياه الدولية»، لكنه يشير إلى أن هذه القضية الآن ليست بالأهمية القصوى.
ويتابع أن «التجارة الدولية في هذا الوقت تقلصت إلى مستويات كبيرة، كما أن المشروع الأميركي لبسط سيطرة الولايات المتحدة على طريق التجارة الصينية من المحيط الهادي إلى بحر الصين والمحيط الهندي، لم يعد في هذه الظروف مجالاً للتنافس لأن الاقتصاد العالمي تجمّد، وبالتالي، تبدلت الأولويات وفقد التنافس على السيطرة أهميته».
حمادة، وهو باحث عسكري واستراتيجي، لا يرى - في المقابل - أن ثمة تأثيراً عسكرياً لتلك التطورات، بالنظر إلى أن الجيوش «تستطيع تبديل طواقم العمل في حال كانت هناك إصابات، وتستأنف نشاطها العسكري إذا دعت الحاجة»، علماً بأن الحروب الآن معلقة «بسبب تبدل الأولويات نحو مكافحة الفيروس». ويعزز تقييمه بأنه «لا إصابات بالغواصات التي تشكل قوى بحرية هائلة، حتى أنه لم تُرصد إصابات داخل التجمعات العسكرية البحرية مثل قوى (المارينز) الأميركية، وبالتالي فإن الجيوش لا تزال قادرة للحفاظ على قدراتها».
من ناحية ثانية، لم يرصد حمادة نقاطاً ساخنة في ظل تبدل الأولويات إلا محاولة التحرش الإيرانية بالسفينة العسكرية الأميركية خلال الشهر المنصرم، مشيراً إلى أن إيران «تحاول الخروج من أزمة كورونا وتدني مستويات الاقتصاد، محاولة إظهار (حيوية عسكرية بالحفاظ على النمط الهجومي داخل الخليج) رغم الإصابات بالـ(كوفيد - 19) التي سجلت في إيران وتعطل الحركة التجارية وتوقف الحياة في البلاد». ويقول إن «إطلاق القمر الصناعي يصب بالموضوع نفسه، إذ تسعى إيران للقول إنها تطلقه لتعبر عن خطوة متقدمة على طريق توجيه الصواريخ الباليستية، وهذا ما يدخل المنطقة في مرحلة الخطر المتزايد لأن توجيهها بدقة وإيصالها لآلاف الكيلومترات يمثل خطراً على الأمن والسلام الإقليميين».
ويعود حمادة إلى ملف تأثير الجائحة على العمليات العسكرية من زاوية تأثيره على كل الناس، «إذ ساهم بشل قدرات أو على الأقل خفض قدرات التمويل العسكرية»، وعليه «لم تعد العمليات العسكرية تحتل قائمة القرارات الكبرى، ولم يعد لديها أولوية»، لكنه يؤكد أنه «إذا ارتفع مستوى التهديد لأي دولة كبرى، ستقفز العملية الدفاعية إلى الصف الأول»، لافتاً إلى أنه «رغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل على عاتقه مسؤولية مواجهة انتشار الجائحة ويقف وراء الجهود لمكافحته، فإنه إذا حصلت تحديات عسكرية سيعطيها أولوية، ويعيد بالتالي الأولويات الأمنية إلى المربع الأول، ويكون مرتاحاً من ضغوط الديمقراطيين ليعود ويلعب الدور للحفاظ على الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى بالعالم».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.