في تمام السابعة مساء ينطلق الهتاف والتصفيق لأهل الإسعاف ويبدأ عازف بيانو على سطح المبنى المجاور في لعب أغنية نيويورك... نيويورك.
المدينة التي لا تنام تبدو خالية الطرقات.
العابر النادر يحاذر المرور على «بعد اجتماعي» من العابر الآخر. عاصمة الأعمال، والإعلام، والفنون تحولت إلى عاصمة انتشار الوباء. أبنية مانهاتن معظمها من الزجاج.
أطل من شقتي على الأبنية التي تستضيف معظم بعثات الدول إلى الأمم المتحدة. كلها شاغرة تماماً.
مبنى الأمم المتحدة على مدى الشارع مطفأ في الليل ومحدود الحضور في النهار.
الأمين العام أنطونيو غوتيريش يحاول، وكان يطل. اقترح وقف إطلاق النار في كل النزاعات. طالب بصندوق خاص بينما المنظمة تواجه العجز المالي بأكثر من بليوني دولار ونصف.
في الأثناء يشتاق إلى طهي زوجته في لشبونة حيث كان يعطل عادة في الطريق الدوري إلى أي عاصمة أخرى. السفر هذه الأيام عبر المطار، والطائرة محظور.
الوباء العالمي يحتاج إلى وجود دولي فاعل. أي انتكاسة قد تنعكس على رمز العلاقات الدولية.
يحاول التنسيق مع بقية برامج المنظمة الدولية، خصوصاً مدير الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس الذي يحاول التركيز على توفير المعلومات وتقديم الخدمات وتجنب المهاترات السياسية.
جارتي الممرضة الدولية الناشطة ذكرتني أن هذا هو العام الدولي للممرضات والممرضين، دون أن ينتبه أحد إلى ذلك وأن الوباء قد أدى إلى إلغاء قمة المرأة في الجمعية العامة. ثم إن الانفراد في المنزل قد ينذر بالتفرد في العنف تجاه النساء والأطفال. وجاري الطبيب الهندي ينصح بالرياضة واستنشاق الهواء النقي.
حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو يشدد على البقاء في البيت. الحل الوسط أن أتمشى على مهل مع القناع من المبنى عبر جادة حمرشولد إلى مقر الأمم المتحدة «ه» بين الجادة الثانية والأولى.
عدد محدود من السيارات يمر بين الحين والآخر. حافلات النقل العام تبدو خالية.
النوافذ والشرفات تحولت إلى محاور الاتصال المتعدد: من التحية العابرة إلى عبارات الغزل التي قد تنعش القلب. النيويوركي الذي لا يتطلع عادة في عيون الآخرين تفادياً للسلام في الوقت الضائع أصبح يتطلع إلى تحية عابرة... يتساءل ماذا يحدث وما المطلوب منه بالضبط. عودة عدد من الصبايا والشباب إلى منزل العائلة ساهم في تدريب كبار الأهل على تكنولوجيا الاتصال: إدخال «سكايب» و«تويتر» و«واتساب» وتحديث الكومبيوتر القديم.
كان جان بول سارتر قد لاحظ أن مدينة نيويورك عكس باريس مثلاً مكشوفة ومسطحة تراها من الشارع الأول إلى الأخير من النهر إلى النهر. من الشرفة أرى على بعد الأميال جسر بروكلين، الجسر الأعرض، بلا مرور عام.
يبدو خلفه أعرض جسر في العالم، جسر فيرازانو - ناروز كأنه ينتظر أي سيارة عابرة. مبنى «إمباير ستايت» ربما أعلى أبنية العالم، يطلق كل مساء الضوء الأحمر. مستشفيات الطوارئ انتقلت إلى كل الأحياء. مركز جافيتس موقع المعارض الأكبر تحول إلى مستشفى. وسط «سنترال بارك»، قلب المدينة الأخضر. خيام طبية يحيط بها أغلى وأعلى المنازل. علق أحد الأطباء ساخراً أن مدير عام شركة كبرى شرح بأنه يشعر بضيق الحال العام لأن مرتبه السنوي تراجع 24 مليون دولار فقط.
استعدت رواية «ديكاميرون» للكاتب الإيطالي بوكاشيو عن وباء فلورنسا في القرن الرابع عشر.
يومها، مثل اليوم، انتقلت العدوى من أنفاس المرضى هناك كان أمراء عائلة «ماديشي»، ومرشدهم نيكولو ماكيافيلي، يحذرون من نظرات المؤامرة لأنها فعلاً حقيقية. لكل نظرياته المختلفة لانتشار الوباء العالمي في هذا الزمان. مثلاً في حي بروكلين المهاجرون من أميركا اللاتينية وشرق آسيا يعتقدون أنها لتصفيتهم مع الأفارقة الأميركيين الفقراء للإبقاء على نوع معين من المواطنين.
الرئيس ترمب توهم مبدئياً أنها مؤامرة سياسية للإحراج والإخراج قبيل الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل. جماعة «الليبرالية» تعتقد أن المقصود هو تعطيل النظام السياسي والإبقاء على عهد الرئيس الحالي. بعض الكتاب علق أنها لتبرير المتابعة الأمنية وإلغاء دور الإعلام. دبلوماسي آسيوي مرموق شرح لي أن الحرب العالمية الثالثة بدأت والصين ربحت. وتقترح نظرية أخرى أن الفيروس العالمي تم نشره عن طريق شركة إلكترونية في مسعى الاستحواذ على العالم الرقمي الجديد.
أحداث اليوم الكبرى هي من تطورات الأمس. المؤسسات لا تتبدل بسرعة البشر.
هناك معاهدة دولية منذ عقود تقتضي العمل المستمر لوقف انتقال الأوبئة الجرثومية. ماذا حدث لها؟
في مدينة نيويورك الآن نرتدي الأقنعة ولا نمشي في الشوارع إلا للرياضة عند المساء.
تذكرت أنني طالعت رواية ألبير كامو عن الطاعون في وهران الجزائر حيث ولد. إنه يوضح ضعف الإنسان الوجودي ويكرر أن الرد الأفضل هو احترام كرامة الإنسان. كنت في مطلع عملي الصحافي دفعت مرتب ثلاثة أشهر لشراء سيارته «فاسيل فيغا» المستعملة جداً.
اكتشفت عجزها عن السير، واضطررت إلى دفعها باليد بعد إيقافها أمام مسبح «السبورتنغ» في رأس بيروت.
خلال فترة الانفراد الحذر التي لم تحدد نهايته بعد، أشعر بالانتعاش عندما أستعيد نصيحة جبران خليل جبران الذي كان يعيش في الشارع العاشر من نيويورك.
أقترح الرد على الذين يتهمون المنطقة العربية بالعنف والقسوة والتدمير: «قفوا أمام أبراج نيويورك وواشنطن… قائلين من عمق قلوبكم: أنا من أبناء الذين بنوا دمشق وجبيل وصور وصيدا وأنطاكية. أنا هنا لكي أسهم في بناء عالم جديد». يبقى السؤال الحائر: هل مضى زمان جبران؟ وزمان كرامة الإنسان؟
هل هذه مرحلة الأقنعة… والكمائن؟
* مسؤول سابق
في الأمم المتحدة
عالم الأقنعة
عالم الأقنعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة