«برغم الأزمة»... معرض افتراضي مصري يتحدى الوباء

عمل لحسين نوح على السجاد
عمل لحسين نوح على السجاد
TT

«برغم الأزمة»... معرض افتراضي مصري يتحدى الوباء

عمل لحسين نوح على السجاد
عمل لحسين نوح على السجاد

لتخفيف أجواء العزلة التي فرضها وباء «كورونا» في معظم دول العالم ومن بينها مصر، أطلق الفنان التشكيلي المصري حسين نوح معرضه «برغم الأزمة» افتراضياً عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، الذي حقق تفاعلاً من محبي الفنون التشكيلية لم يتوقعه نوح.
معرض «برغم الأزمة» يضم 31 لوحة يعكس بعضها رؤية الفنان وإحساسه بأزمة «كورونا» التي سيطرت على العالم أجمع حيث جسد فيها حالة الانكسار في وجوه أبطالها، إلى جانب تحري فكرة انتظار انتهاء الجائحة العالمية التي تهيمن على عقول سكان العالم الذين يشتاقون إلى عودة الحياة إلى طبيعتها.
وعبر مقطع فيديو قصير، افتتحت السفيرة مشيرة خطاب، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة «كيميت بطرس غالي للسلام والمعرفة»، ووزيرة الأسرة والسكان سابقاً المعرض الافتراضي، وعبّرت عن سعادتها بافتتاح أول معرض فن تشكيلي عبر منصات التواصل الاجتماعي، ودعت الجمهور لمشاهدة لوحاته، قبل أن يقدّم نوح أعماله للجمهور أيضاً بمقطع مصور، مؤكداً أنّه كان مقرراً تنظيم هذا المعرض في قاعة الفنان صلاح طاهر بدار الأوبرا المصرية، لكن تسببت جائحة «كورونا»، في تأجيله إلى أجل غير مسمى، بالتزامن مع تعليق الأنشطة الثقافية كافة.
وعن ذلك يقول نوح لـ«الشرق الأوسط»: «وضعت لوحاتي في مكتبي وكنت أطالعها بحسرة لأنّ الفنان لا يرسم لنفسه بل تتضاعف سعادته برد فعل الجمهور والنقاد، وحينما وجدت أنّ تداعيات (كورونا) تتوالى ولا أحد يعرف متى تنتهي قرّرت أن أقيم معرضاً افتراضياً على مواقع التواصل التي اجتذبت جمهورا جديداً من محبي الفن التشكيلي من الشباب». مشيراً إلى أنّ معرضه حقق «نحو ألفي مشاهدة قبل افتتاحه رسمياً بيوم واحد بما يفوق أي معرض في قاعات الفن، بل إنني أثق بأنّه بعد انتهاء الجائحة لن نتزاحم على قاعات الفن التشكيلي، بل ستكون المعارض الافتراضية بمثابة أحد الحلول التي تفرض نفسها».
يميل الفنان حسين نوح في لوحاته إلى المدرسة التجريدية، لكنّه يقدمها بمفهومه الخاص: «خلال دراستي في كلية الفنون الجميلة تعاملت مع المدارس الفنية كافة لكنّني لم أحدّد لنفسي اتجاهاً بعينه واخترت أن تكون لوحاتي قريبة من الناس، وحتى حينما أرسم لوحات تنتمي إلى المذهب التجريدي -الأقرب إلى قلبي- أراعي دائماً أن تعبر لوحاتي عن الناس، لإيماني بأن الفنون لا بد أن تصل إلى الجمهور وتعكس جماليات الفن، لذا أتمنى أن يكون بكل البيوت لوحات فنية، والفن التشكيلي يسمح بأن يطالعه الجميع كلٌّ حسب ثقافته ورؤيته».
ورغم أن باليتة الألوان في لوحات نوح، تنحاز كثيراً إلى الألوان الساخنة بتدرجاتها المختلفة، فإنه استخدم اللون الأزرق والرمادي، ويقول: «أهوى اللعب بالألوان، وأرى أنّ عبقرية الفنان يجب أن تكمن في عدم اعتماده على الألوان الجاهزة، بل بتكوين الألوان بنفسه عبر المزج بين أكثر من لون، فأنا أميل إلى استخدام الألوان الزيتية ومعالجتها بمادة كيماوية قبل استخدامها خصوصاً في لوحاتي على السجاد، حتى لا تتسبب في تآكل السجاد كما أستخدم أحياناً الألوان الأكريليك».
يتعامل نوح في لوحاته مع معظم الخامات المألوفة مثل التوال والخشب، لكنّه يتميز بشكل خاص بالرسم على السّجاد وقد تضمن معرضه الافتراضي بعض لوحاته على السجاد، ويروي حكايته مع هذا الفن قائلاً: «الصدفة وحدها قادتني للرسم على السّجاد. فأنا أهوى الأنتيكات وكل التحف القديمة بصفتي مهندس ديكور، وذات مرة، أعجبتني سجادة قديمة فاشتريتها لأكتشف أنّها تنطوي على إبداع رائع في ألوانها وتكويناتها وقرّرت الدّخول في تحدٍّ معها لتغيير بعض معالمها وتحويلها إلى لوحة فنية وهو فن لم يسبقني إليه أحد، وصار أحد الاتجاهات المهمة في كل معارضي».
نوح يؤكد أنّ مهمة صنع لوحات على السجاد صعبة جداً، لأنّها تعتمد على إزالة أجزاء من السجادة أشبه بالحلاقة، ووضع معادل موضوعي لها من عنده وتوظيف الزخارف والخطوط واختيار الألوان التي تتلاءم معها وتحويلها إلى تحفة فنية، ويستغرق ذلك وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)