الأرجنتين... الدعوات لجعل اللغة «أقل ذكورية» تكتسب زخماً وتثير انقسامات

البعض يرى أن وراءها أهدافاً سياسية واجتماعية

الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
TT

الأرجنتين... الدعوات لجعل اللغة «أقل ذكورية» تكتسب زخماً وتثير انقسامات

الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»

بعد ثلاثة أيام من فرض الإغلاق الكلي في الأرجنتين لمواجهة فيروس «كورونا»، دعا رئيس البلاد الرجال والنساء على حد سواء إلى التعاون مع جهود الدولة للحد من انتشار الوباء.
وناشد الرئيس ألبرتو فرنانديز «الأرجنتينيين» مستخدماً صفة محايدة للنوعين غير موجودة في قواعد اللغة الإسبانية التقليدية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس الذي تولى منصبه في ديسمبر (كانون الأول) مثل تلك الصفة المحايدة.
لكن قراره باستخدام ذلك المصطلح اللغوي مجدداً جاء ليتحدى قواعد اللغة القديمة، بهدف العمل على جعل الأرجنتينين يتحدثون لغةً إسبانية أكثر شمولاً.
وفي هذا الصدد، قالت قاضية مدينة بوينس آيرس، إيلينا ليبراتوري: «نتحدث دائماً عن المساواة، والحقيقة هي أن اللغة تكشف عدم المساواة السائدة في المجتمع بشكل عام».
وفي العام الماضي، أثار القاضية ذاتها جدلاً بإصدارها حكماً يجري بمقتضاه تهجئة نهاية الكلمات عادة بحرف «e» بدلاً من «a» أو «o» التي تشير عموماً إلى المؤنث أو المذكر في الإسبانية.
لكن السعي لجعل الإسبانية أقل جنسانية لا يقتصر على الأرجنتين؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، استخدم بعض السياسيين والعلماء، وحتى قاموس «ميريام وبستر»، كلمة «لاتينيكس» وهي بديل لكلمة «لاتينية»، وهي الصيغة الذكورية للكلمة المستخدمة لتشمل الجميع في الإسبانية.
غير أن التغيير لم يلقَ ترحيباً من البعض، بل قُوبِل بمعارضة شديدة من مختلف دول العالم، بما في ذلك كبار خبراء اللغة الإسبانية، إذ ترى «الأكاديمية الملكية الإسبانية» التي تشرف على القاموس الأكثر موثوقية في اللغة أن الصيغ الجديدة انحراف.
ما يجعل الأرجنتين جديرة بالانتباه هو مدى تبني الأشكال الجديدة، على نطاق واسع، ليس فقط بين النشطاء ولكن أيضاً في المجالين الأكاديمي والحكومي. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الصيغ الجنسانية المحايدة شائعة بشكل متزايد في المنشورات الجامعية والوثائق الحكومية، وحتى بعض الأحكام القضائية، حتى مع استمرار كونها موضع نقاش حاد بين عامة الناس.
وذكرت القاضية ليبراتوري أنها كانت تدرك منذ فترة طويلة الطريقة التي يمكن بها للغة أن تدعم المعايير المجتمعية، وعندما أدّت اليمين قاضيةً عام 2000، كانت هناك لافتة على بابها مدون عليها كلمة «juez»، بدلاً من الصفة الأنثوية للقاضية: «jueza»، وقامت باستبدال الكلمة الأخيرة بها.
وعندما أصدرت حكماً في وقت لاحق باستخدام لغة محايدة بين الجنسين، تعرضت القاضية ليبراتوري لشكوى رفعها مجموعة من المحامين أمام مجلس القضاة في المدينة، الذي يتمتع بسلطة معاقبة القضاة على انتهاك القواعد. لكن المجلس انحاز للقاضية ليبراتوري وقرر أن القضاة يمكنهم تذييل أحكامهم بتوقيع ينتهى بالحرف «e»، مشيراً إلى أنه سينشر دليلاً لاستخدام لغة محايدة جنسانياً.
على سبيل المزاح، قالت كريستينا مونتسيرات هندريكس، المحامية التي مثلت القاضية ليبراتوري في القضية: «يجب تسمية دليل اللغة الجديد باسم المحامية التي أقامت الدعوى».
وترى السيدة هندريكس، المتحولة جنسياً، أن اعتماد لغة شاملة للجنسين يمكن أن يكون له تأثير عميق على المعايير المجتمعية والثقافية، لأنها ترى أن «العالم لا يقتصر على الرجال والنساء فقط».
ومع ذلك، فقد اعترفت بأنها لا تستخدم تلك الصفة المحايدة في تواصلها اليومي مع الآخرين. وقالت: «عمري تخطى الخمسين، ومن الصعب للغاية بالنسبة لي تغيير طريقتي في التحدث». وذكرت أن ابنتها البالغة من العمر 22 عاماً، إريكا صوفيا هندريكس، «تستخدم تلك الصفة باستمرار».
هذا النوع من القبول الواسع يجعل فنانة، مثل آرييل مزبوبا، التي تبلغ من العمر 22 عاماً وتميل إلى الاستخدام غير الثنائي للغة (ليشمل الجنس الثالث)، وتستخدم أيضاً الصفات المنتهية بالصفة الحيادية، التي تنتهي بالحرف «e»، تشعر بارتياح أكبر، مؤكدة أن «هذا (التغيير) يجعلني أشعر بأنني أكثر شمولاً، وأنني لم أعد غريبة».
وقالت كارينا غالبرين، أستاذة الأدب في جامعة «توركواتو دي تيلا في بوينس آيرس»، إنه لا يوجد إجماع بين الخبراء حول بداية استخدام الأشخاص للحرف «e» لتحييد الكلمات الجنسية باللغة الإسبانية. إن لهذا الاستخدام جذوراً تاريخية قديمة جداً، حتى لو جاء استخدامها على نطاق واسع مؤخراً، ليجعلها تبدو ظاهرة حديثة. فقبل أن يجد استخدام «e» قبولاً واسعاً، كان المتحدثون الإسبان الذين أرادوا أن يكونوا أكثر شمولاً يستخدمون صفة تشير إلى كلا الجنسين، أو استخدام الرمز @ أو «x»، وجاء استخدام الحرف «e» على نطاق أوسع لسهولة نطقه.
ورغم مزايا هذه الدعوة واضحة، فإن بعض الناس يجدونها بغيضة. كما أن وجود «إجماع كبير على رفض استخدام الشكل الذكوري باعتباره الأساس، فإن حل هذه المشكلة ليس بالإجماع».
وتجادل الأكاديمية الإسبانية بأن المؤيدين لحيادية الجنس في اللغة يحاولون حل مشكلة غير موجودة من الأساس. وتقول الأكاديمية إن اللغة الإسبانية لديها بالفعل طريقة لأخذ كلا الجنسين في الاعتبار، وأشاروا إلى أنه وفقاً لقواعد النحو، يمكن استخدام الصيغة الذكورية للكلمات بصيغة الجمع لتشمل الجميع، لذلك يمكن استخدام صفة «Argentinos» بحرف «o»، على سبيل المثال، للإشارة إلى مواطني الأرجنتين من كلا الجنسين.
لكن سانتياغو كالينوفسكي، مدير قسم البحوث اللغوية والفلسفية في الأكاديمية الأرجنتينية للآداب، يرى أنه برفض القواعد القديمة صراحة، فإن المؤيدين المحايدين للجنس يثيرون قضية كبرى (وجهة نظره لا تمثل آراء المؤسسة).
يقول عن ذلك: «هذا الطرح يضع نفسه صراحة خارج القواعد اللغوية ليكون أكثر لفتاً للأنظار. فهذا التدخل مثير للاهتمام لأن هدفه ليس نحوياً، بل سياسي واجتماعي بهدف خلق إجماع على تغيير الثقافة وتغيير القوانين في نهاية المطاف». وقد تزامنت هذه الدعوة للتحول في اللغة مع صعود حركة نسوية في الأرجنتين مناهضة لحملة قتل الإناث، أو قتل الفتيات والنساء بسبب جنسهن (إجهاض الأجنّة الإناث). وكانت تلك الحملة المسماة «Ni Una Menos»، وتعني «لا أحد أقل»، حاسمة في مواجهة التشريع الذي يسمح بالإجهاض، وكانت أولوية تشريعية للسيد فرنانديز.
ومن الجدير بالذكر أن بلداناً غير ناطقة بالإسبانية تخوض نفس الصراع لتحييد الجنس في لغتها. ففي السويد، على سبيل المثال، وصلت المساعي إلى رياض الأطفال، حيث يتجنب المعلمون استخدام الضمائر مثل «له» أو «لها»، ويفضلون استخدام أسماء إشارة وصفات محايدة.
وفي الولايات المتحدة، أصبح استخدام «هم» كضمير مفرداً شائعاً بشكل متزايد بين الأشخاص الذين يرفضون التعيينات التقليدية للجنس. وفي فرنسا، حدث تغيير مماثل لكن بوتيرة أبطأ. وعارضت الحكومة رسمياً الصيغ المحايدة جنسانياً، رغم أن الأكاديمية الفرنسية، الوصي الرسمي للغة الفرنسية، وافقت في النهاية على السماح للألقاب المهنية بمطابقة جنس الشخص بدلاً من أن تكون صفة مذكرة موحدة.
وفي الأرجنتين نفسها، جامل السيد فرنانديز، أستاذ القانون، الحركة، بالعمل على جعل اللغة أقل ذكورية عندما قام بحملته الانتخابية للرئاسة. ففي شعار حملته، قدم كلمة «todos»، وتعني «الجميع»، برمز للشمس بدلاً من الحرف الثاني «o».
وبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، بدأت بعض الدوائر الحكومية في تبني لغة لا جنسانية. فمثلا أصدرت مؤسسة التقاعد، دليلاً لجميع موظفيها بلغة شاملة، لكنها لم تصل إلى حد طلب استخدامها في الوثائق الرسمية. وساعدت مونيكا روكيه، السكرتير العام لـ«وكالة حقوق الإنسان والجنس»، في صياغة الدليل وعبرت عن تقديرها لحركات الشباب للدفع بالتغييرات اللغوية.
قالت مونيكا: «لقد دفعونا إلى التفكير في ذلك. إن هذا التعدي على استخدام حرف غير (a) أو (o) جعلنا نفكر في معنى ذلك». كما بدأ «المعهد الوطني لمناهضة التمييز وكراهية الأجانب والعنصرية» في الأرجنتين في استخدام لغة شاملة في بعض القرارات الرسمية، لكنه امتنع عن استخدام الصيغة «e»، خوفاً من أن تؤدي إلى اللبس، بدلاً من الحيادية.
تقول فيكتوريا دوندا، رئيسة المعهد: «بشكل عام، كانت هناك رغبة في استخدام لغة شاملة دائماً. لكن اللغة الشاملة يجب ألا تتجاهل بعض الناس، ففي الأحياء الفقيرة، الناس غير معتادين على سماع الحرف (e) بدلاً من حرف (a) أو (o)، وهذا يمكن أن يؤدي إلى لبس وارتباك في المعنى».
- خدمة {نيويورك تايمز}



محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب
TT

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر الرائد بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير، وكما يقال فالشاعر نسيج وحده. وهذه التجربة الفنية والعميقة تتيح للناقد والقارئ، على حدٍ سواء، الفرصة للولوج إلى عالمه السراني، وربما الإشراقي، وشبه الكابوسي، من مداخل عدة، تشجع على تقديم مقاربات نقدية وثقافية جديدة من زوايا يتفرد بها البريكان وقصيدته معاً.

فمثلما ظل الشاعر في حياته اليومية حبيس بيته، وربما رهين محبسه الأليف، مثل المعري، كما أشار الشاعر نفسه إلى ذلك في إحدى المرات، ظلت قصائده حبيسة أسراره وشعريته.

هذا التعاضل في الكتابة الشعرية، بقدر ما يشكل معضلة شائكة للناقد، فإنه يتيح له إمكانية الحفر عميقاً في الأُسس اللسانية والمعرفية والفلسفية لتجربة الشاعر. والناقد أمام معضلة القراءة وتفكيك شفرات النص الشعري لشعر البريكان يجد نفسه في امتحان عسير وتحدٍ غير مسبوق، ولذا فهو يجتهد في أن يرى ما لا يرى، ما دام يجد نفسه في حضرة شاعر رؤيوي visionary بكل معنى الكلمة.

الشاعر محمود البريكان شاعر إشكالي problematic، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتصالح بسهولة مع العالم الخارجي، ولذا فهو يصطنع له قوة ذاتية وروحية يحتمي بها من الآخر والمجتمع. فهو يعيش بصورة دائمة في حالة اغتراب روحي، حيث نلحظ تماهياً كبيراً بين شخصية الشاعر وشعره. إنه يعاني من «فوبيا» الآخر و«فوبيا» الخارج، معاً، وهذا ما يتجسد بشكل مثير في تجربته الشعرية.

حياة الشاعر وتجربته الشعرية، يعانيان معاً من حالة اغتراب alienation شامل، وهو اغتراب زماني ومكاني وسيكولوجي وفلسفي في آن واحد.

ولذلك لكي يحتمي الشاعر من ضغوط الخارج يصطنع له قوقعة خاصة يتمترس داخها، وهي قوقعة الذات، وقوقعة القصيدة الملغزة، التي تعاني مثل الشاعر حالة انكفاء وإحباط، وخوف يصل حد الرعب من كل شيء. ومثلما كان الشاعر على المستوى الحياتي واليومي يغلق أبوابه أمام الآخرين نراه أيضاً يغلق الأبواب أمام قراء قصائده الذين يضطرون إلى ولوج باب التأويل بحثاً عن الأسرار المخبأة.

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة، وهو ما يدعو الناقد إلى البحث عن مفاتيح جديدة نقدية وسيميائية قد يتمكن بها من فتح مغاليق قصائد الشاعر، التي تبدو أحياناً عصية على البوح والاستنطاق والاستسلام لمجسات النقد.

وتطفو في قصائد الشاعر ظاهرة الاغتراب كواحدة من ثيمات الشاعر المركزية. واستطاع البريكان بفضل هذه الآلية في الكتابة الشعرية، أن يخلق له عبر كتاباته الشعرية وحياته، أسطورته الخاصة، التي لا تشبه غيرها من الأساطير.

ويمكن أن نعد قصيدته «البدوي» مانيفستو اغترابه.

«ضائع في الزمان

ضائع في العوالم

فاقدٌ للبصيص من الذاكرة

سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن».

ويتوسل الشاعر بالرب أن يساعده في استعادة روحه الضائعة وفي استعادة وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة» أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لكي أعثر يوماً على روحي الضائعة

أعني لكي أعبر الفاجعة».

يتقمص البريكان قناع البدوي ومحنته في مواجهة الصحراء والمجهول والضياع، فقد كتب الله ألا يموت هذا البدوي وألا يرى وجهه أحد:

«وجهه الأول المستدير البهي

الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب

وحطت عليه المآسي علاماتها». (المجموعة الكاملة، ص150)

إنه يعيش غربة هذا البدوي الذي رفضته الصحارى والقصور

«أنا هو ذاك

أنا البدوي الذي لفظته الصحارى

الذي رفضته القصور

الذي أنكرته الشموس». (ص150)

في هذه القصيدة التي هي قصيدة قناع، يبحث الشاعر عن اسمه ومسقط رأسه، وقد ضاع منه كل شيء.

وفي قصيدة «حارس الفنار» يتقمص الشاعر شخصية حارس الفنار الذي ينتظر على الشاطئ، دون جدوى، سفينة الأشباح:

«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح». (ص51).

لكنه لا يلمح ظلاً لأي سفينة:

«الأفق الطويل خالٍ وليس هناك ظل سفينة». (ص51).

ويعلن أنه «الشاهد الوحيد» الذي رأى كل المآسي والحروب:

«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى

وقفت مع المساء». (ص53).

ويظل ربما مثل غودو في انتظار عبثي لا نهاية له:

«أنا في انتظار اللحظة العظمى

سينغلق المدار/ سينغلق المدار

الساعة السوداء سوف تُشلُّ تجمد في المدار». (ص54).

وفي قصيدة «تدمير رجل ما» (ص92) يشعر بأنه أمسى غريباً على ذاته، بعد أن ملَّ من الانتظار:

«هنا رجلٌ تم تدميرهُ/ والهب بالسم تفكيرهُ

هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً على ذاته

ففي كل ثانية ينشطر

وما من مدى لانقساماته». (ص92).

وفي إحدى قصائده يتحدث الشاعر عن موت الإنسان في داخله خلافاً لبقية المخلوقات، حيث يقترب هذا الموت بغيبوبة الذكرى:

«وحده يموت في داخله الإنسان

في العالم الباطن

في مركز السريرة الساكن

يموت في غيبوبته الذكرى

يموت في لحظة

يكابد القيامة الكبرى». (ص158).

ينظر البريكان إلى العالم عبر منظور فلسفي شخصي اجترحه لنفسه أداةً ومجساً لسبر غور العالم الخارجي. لذا يمكن أن نصفه بالشاعر المتفلسف أو الشاعر الفيلسوف. فكل المرئيات والوقائع والشخصيات تمر عبر عدسة الفيلسوف الشعرية.

وشعر محمود البريكان مغموس بفلسفة شخصية عميقة هي فلسفة الشاعر في الحياة على وفق قيمه وثقافته وخبرته اليومية، حتى ليمكن أن ندرج شعره ضمن الشعر الفلسفي أو الشعر المتفلسف، أو الشعر الذي يحلق بجناحي الخيال والفلسفة معاً.

لو قيض لشعرية محمود البريكان أن تكتشف وتنتشر في وقت مبكر، قبل السياب، أو بالتزامن معه، ربما لأعيدت كتابة تاريخ حداثة الشعر، وجرى التساؤل حول الريادة في الشعر الحداثي في العراق.

يخيل لي أن تجربة البريكان أعمق وأغزر وأخصب من تجارب الكثير من مجايليه وربما يقف، في هذا، منافساً خطيراً للسياب نفسه، وهو يختلف عن السياب الذي كان يفتقد هذا الانغماس في الهم الفلسفي والرؤيوي والكوني، المجرد أحياناً.

تجربة البريكان تبتعد إلى حدٍ كبير عن النزعة الغنائية، التي وجدناها حاضرة أيضاً في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، فالشاعر ينحو نحو لون من الموضوعية التي دعا إليها في وقت مبكر في مطلع القرن العشرين الشاعر ت. س. إليوت بوصفها أحد أبرز مقومات الحداثة في الشعر. لكن موضوعية البريكان تنحو منحى أسطورياً ورؤيوياً وفلسفياً أيضاً، ولكنها لا تتجاوز الأطر السردية لحكاية الخلق والتكوين، فهي معجونة بهذه الكينونة السرية التي تتلبس كل شيء.

كما نجد لدى الشاعر، من جهة أخرى، ميلاً إلى التجريد واختزال الكائنات والمرئيات إلى علامات مجردة تتلاشى في سيرورة التاريخ والزمن. واللغة التي هي تشكيل علامي تبدو له مخادعة:

«فزعت من خديعة اللغة

هنيهة؟ من ملمس العالم في القرار

وكتلة الموت الهلامية». (ص198،ج1).

في قصيدة «أسطورة حقيقية»، يشعر الشاعر بالغربة المطلقة، حيث تنكره الأشياء، وينكره الواقع، ويبدو طافياً فوق بحيرة ذاكرة آفلة:

«عدت إلى بيتي

فلم أجد بيتي في مكانه المعهود

وهزّ بي الجميع

رؤوسهم

بيت كهذا لم يكن موجوداً

قلت لهم بيتي أمام الشجرة

كان هنا

قالوا جميعاً ولم تكن هناك يوماً شجرة». (ص215).

ويزداد رعب الشاعر وهو يواجه هذا الإقصاء في المكان والزمان، فراح يتساءل بوجع فاجع:

«والآن ماذا ينبغي علي أن أفعل؟

وكيف لي أن أنسف الذاكرة» (ص 213).

ويتساءل الشاعر بخوف فيما إذا كان كل شيء مجرد عبث. فالأسود والأبيض على حدٍ سواء، عواطف الآباء والأمهات، وقوة اللغات، عبث ليس إلا:

«أكان الحزن والفرح

ذاكرة من التاريخ

وقوة اللغات

جميعها عبث؟» (ص223).

يحس الشاعر أحياناً، بأن العالم قد مزقه مزقاً، فقد جاء أناس واقتسموا جسده، وجاء الأصدقاء فسرقوا هويته، وارتدوا ثيابه:

«وجاء أصدقائي

فاختلسوا هويتي

ثم ارتدوا ثيابي». (ص228).

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة

وفي قصيدة «في إعدام الأبنية» يشعر الشاعر بأنه نسي كل شيء حتى وجهه:

«هل أتذكر بعض الوجوه

هل أتذكر وجهي؟» (ص26).

فالعالم بالنسبة للشاعر مجرد وهم:

«هل يتذكر أحدٌ أحداً

في هذا الأفق المتحرك؟

في هذا العالم

الممحو كوهم؟» (ص261).

وفي قصيدة «ظهور ناقص» يحدد البريكان وظيفة الشاعر السرية،

وحلمه الأبدي، في اقتناص الزمن وتجسيم رؤيته عبر مرايا الزمن:

«إنه حلم الشاعر الأبدي

اقتناص الزمن

أن يجسم رؤيته ودوي عوالمه دفعة واحدة». (ص281).

ومن الثيمات المركزية المهمة في شعر البريكان ثيمة الموت، فكل الأشعار آيلة إلى الموت: الملوك والعبيد والسماسرة كلهم آفلون. ولذا غالباً ما يقترن الاغتراب بالموت:

«الحب والعقاب

دبيب موت خافت ورعشة اغتراب». (ص235).

ويقترن الضياع والاغتراب لدى الشاعر بفقدان الذاكرة، حيث يفقد الشاعر ذاكرته:

«سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن

يتعثر في حدقات العيون

عسى أن يرى يوماً صديقاً

قديماً سيعرفه

ويعرّفه باسمه

ويساعده في الوصول إلى بيته

والى أهله الشاحبين». (ص339).

ويتمنى الشاعر أن تأتيه الشجاعة ليتأمل وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة». (ص340).

وأقسى شكل من أشكال الغربة، عند الشاعرعندما يكتشف أنه غريب حتى عن نفسه، ويتحرك بلا وعي أو إرادة:

«مسحوراً بنداء لا يفهمه

منتزعاً في مملكة الأفراح الأرضية

مغترباً حتى عن نفسه

يخطو نحو الباب». (ص348).

ويحتفي البريكان بالأشياء الآفلة، التي تسير نحو الفناء أو التلاشي أو الموت. ففي قصيدة «احتفاء بالأشياء الآفلة» نجد هذا الانشغال بما هو زائل:

«أجمل ما في العالم

مشهده العابر».

ويختتم ذلك بسيرورة الزوال:

«طوبي لك

إن كنت بسيط القلب

فستفهم مجد الأرض».

ثم تأتي الضربة الحاسمة، عندما يعانق الشاعر لحظة الأفول والزوال:

«وجمال أواصر لا تبقى

وسعادة ما هو زائل». (ص358).

يشعر الشاعر هنا أن وجهه لا يشبه أياً من الوجوه، الرجل الذي يحمل هداياه، المريض الداخل غرفة العمليات، الطفل المهزول من الجوع، فهو غريب ولا مكان له في هذا العالم:

«لا يشبهك أحد ولا أمل لك أن تشبه أحداً»

فهو مجرد كائن مُسَجّى، ورقي ليس إلا:

«ليس العالم مكانك،

بل المعجم، فحتى وجهك، ليس هو وجهك». (ص416).

محمود البريكان، مثل طلسم محاط بالأسرار والأقفال، وهو بحاجة إلى جهاز نقدي خاص لتحليل وتفكيك وتأويل شعريته ذات الطبيعة الإشراقية وربما الغنوصية.

محمود البريكان، العصي على الاستكناه، شاعر لم ولن يتكرر في تاريخ الشعرية العراقية، وحان الوقت لكي يستعيد مكانته التي يستحق.


قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا
TT

قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا

ضمن سلسلة «آفاق عالمية» التي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة»، صدرت «أنطولوجيا القصة القصيرة السواحيلية» التي تضم عدداً من النصوص الإبداعية لمجموعة متنوعة من الأدباء مكتوبة جميعاً باللغة السواحيلية التي تميز دول شرق أفريقيا، ترجمة وتقديم الدكتور محمد يسري محمد.

وتتعدد القضايا والهموم التي يطرحها مؤلفو المجموعة، من القتل المجَّاني، وعنف الحروب الأهلية، إلى التعبير الشاعري عن الطبيعة، والتدين الشكلي، ونفاق البعض للسلطة، وتوتر العلاقات الأسرية، وصراع الأجيال، وتبدُّل المفاهيم بين الماضي والحاضر.

وأشار المترجم في مقدمته إلى أن الترجمة هي الوسيلة الأكثر فاعلية التي من خلالها تمتد جسور التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، لافتاً إلى أن اللغة السواحيلية لغة أصيلة في الشرق الأفريقي تتحدث بها تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبروندي (دول منابع النيل)، كما أنها تعد اللغة الثانية في القارة الأفريقية بعد العربية؛ لافتاً إلى أن السواحيلية تعد كذلك اللغة الأولى لعدد من الأدباء الأفارقة المرموقين الواردة نصوصهم في الكتاب، مثل: كلارا موماني، وشافي آدم، وجون هابوي، وكيالو أميتيلا، وواريا تيمامي، وغيرهم ممن قدموا أعمالاً أدبية في جميع فروع الأدب المكتوب، من قصة قصيرة ومسرح ورواية وشعر.

وتعد تلك المختارات القصصية بمنزلة خطوة أولى على درب الترجمة عن السواحيلية، وما تتضمنه من أدب مجهول لدى القراء العرب، يتماس مع البيئات العربية بشكل أو بآخر، ولا سيما أن الأدب الأفريقي لا يزال خصباً، وفي حاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب؛ خصوصاً بعد أن حاز الأفريقي التنزاني عبد الرازق قرنح جائزة نوبل في الأدب عام 2021. ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ في قصة «اللاجئ» للكاتب الكيني جون هابوى:

«حين غادر قطاع الطرق المنزل بعد انتهائهم من جريمتهم الوحشية، غادرتُ الردهة، وتحركتُ في منزلنا الذي أصبح مكشوفاً؛ إذ دُمرت أبواب المنزل كلها، واستطعت أن أرى جثث إخوتي بالإضافة إلى جثة أمي الحبيبة التي توفيت بمرارة شديدة وهي تعض على شفتها السفلى بأسنانها، وعيناها جاحظتان كالتي كانت تحارب العالم الذي أعطاها ظهره.

أصابت جسدي البرودة الشديدة برؤية تلك الجثث، وقفت مصدوماً مدة، حتى سمعت صوتاً من الخارج، فتملَّكني الخوف فجأة، وهرولت خارج المبنى الذي كان منزلنا منذ مدة قصيرة قد مضت.

مررتُ بسرعة ودخلت غابة كانت موجودة أسفل المنزل، وأخفيت نفسي بداخلها. رأيت مجموعة من الخنازير البرية التي تجري هنا وهناك، وقد أدخلت في نفسي حالة من الخوف. تمنيت الهروب إلى مكان آخر بسبب الرعب الذي أدخلته عليَّ تلك الحيوانات ذات الأسنان الحادة البارزة إلى الخارج كالمقص، ولكن أين سأهرب؟ لم يعد هناك أي مكان آخر يُطلق عليه منزل. أصبحت بلا إخوة أو حتى أبوَيَّ، أصبحت وحيداً».


الشاعر البصري والروحية الحداثية

TT

الشاعر البصري والروحية الحداثية

جرى الإعلان منذ أيام عن عرض قريب لفيلم سينمائي جديد لتيرنس ماليك اسمه «طريق الرياح»، يدور حول حياة المسيح، ولذا سنكتب شيئاً عن هذا الذي أسمّيه «الشاعر البصري». هذا الفنان الفريد في تاريخ السينما المعاصرة، يعيد صياغة الوجود عبر الكاميرا والصورة والضوء والإيقاع، ويجعل من الشاشة مجالاً لتجربة تأملية تمسّ تخوم السؤال الفلسفي والروحي معاً. فسينماه لا تُبنى على منطق الحكاية بقدر ما تتأسس على منطق الكشف، ولا تسعى إلى سرد أحداث بقدر ما تفتح أفقاً إدراكياً يُعاد فيه تأمل الحياة بوصفها لغزاً محيّراً، لا حدثاً عابراً. هنا تصبح الصورة ضرباً من التفلسف الصامت، وتغدو اللقطة لحظة انكشاف تتجاور فيها الحساسية الشعرية مع القلق الوجودي.

ينتمي عالم ماليك إلى ذلك النمط من الرؤية، حيث نجد الإنسان كائناً مقذوفاً به في العالم، محمولاً بين حضور هشّ ومصير غامض، وهو ما يقرّبه بوضوح من التصور الهايدغري للدازين، الإنسان المهموم بوجوده، ذلك الكائن الذي لا يعيش العالم بوصفه موضوعاً محايداً، بل بوصفه زمناً منفتحاً على القلق والموت والمعنى المؤجَّل. غير أن ماليك لا يترجم هذه الرؤية بمفاهيم فلسفية مباشرة، رغم أنه أستاذ فلسفة ومترجم، بل يجعلها تتجسد في حركة كاميرا شبيهة بالتنفس، وفي أصوات داخلية هامسة لا تفسّر الواقع بل تلامسه، كمن يمرّ على الأشياء بإصغاء رحيم لا بسطوة تحليلية.

تتجلى السمة الأساسية في فنه في هيمنة الصوت الداخلي، الذي يشبه المناجاة الصامتة أو الصلاة المترددة، حيث لا تتكلم الشخصيات بلسان السرد، بل بلسان الضياع. إنه صوت كائن يبحث عن موضعه بين النعمة والسقوط، بين الطبيعة والروح، بين القسوة والرأفة. هذه الثنائية، التي تظهر بوضوح في «شجرة الحياة» تُحيل إلى تصور أخلاقي عميق يربط سلوك الإنسان بموقعه الوجودي، والصراع ليس بين خير وشرّ بسيطَين، بل بين نمطَين من الوجود: نمط يثقل الروح ويشدّها إلى الأرض، وآخر يفتحها على الضوء واللطف والشفافية.

إن علاقة ماليك بالطبيعة ليست تجميلية ولا توثيقية، بل وجودية في جوهرها، إذ تتحول الأشجار والمياه والغيوم إلى شهود صامتين على هشاشة الإنسان وانكساره الذي كان دائماً يعود، نراه في مرايا تعكس صراعه مع الزمن والفناء. الزمن ليس خطاً متسلسلاً، بل نسيج مشروخ من الذكريات، حيث تتقاطع الطفولة مع الشيخوخة، والحلم مع الواقع، والندم مع الرجاء. هذا التمزق الزمني ليس تقنية سردية فحسب، بل تعبير عن كينونة قلقة لم تعد تثق بتتابع الزمن، بل تعيشه بوصفه تياراً داخلياً متكسّراً.

سينما ماليك تستحضر مناخاً قريباً مما يسميه الصوفية «الليل المظلم للروح»، فهي كثيراً ما تتحرّك في تلك المنطقة الرمادية بين النور والانطفاء، بين الرجاء والتيه، حيث تُمحى السيطرة العقلية وتتفتت الأنا أمام إحساس بحضورٍ أعظم منها. غير أنّ هذا الحضور، بخلاف الخبرة الصوفية، لا يتجلّى في صورة رؤيا ولا يقود إلى يقين ختامي، بل يظهر في صمتٍ طويل وامتداد بصري يجعل المشاهد شريكاً في تجربة التوقف والإنصات والتساؤل، دون أن يَعِده بكشفٍ نهائي أو طمأنينة مكتملة.

من هنا يمكن القول إن تيرنس ماليك لا يصنع سينما بل يبني تجربة وجودية تُرى أكثر مما تُفهم، وتُحسّ أكثر مما تُفسَّر. إنه شاعر بصري يعيد للفن قدرته على التأمل، ويذكّرنا بأن السينما ليست فقط وسيلة للتحدث، بل إمكانية عيش للدهشة، ومدخل إلى مواجهة الذات أمام الزمن والمصير والجمال. إنها تقيم في السؤال، ونحن معه، على تخوم المعنى، حيث يتجاور الضوء مع الظل، والحنين مع الفقد، والإنسان مع هاوية وجوده، في لحظة شفيفة تذكّرنا بأننا لا نعيش لنفهم العالم فحسب، بل لننصت إلى سره الخفي أيضاً. أن ندعه يتكلم.

ومما يميّز تجربة ماليك كذلك ذلك الإصرار على تفكيك مركزية الإنسان وعقله، وإزاحته عن موقع السيادة لصالح رؤية أوسع ترى في الوجود شبكة مترابطة من العلاقات، وليس مسرحاً لهيمنة بشرية مغلقة على ذاتها. فالكاميرا كثيراً ما تنصرف عن الوجه الإنساني إلى تفاصيل مهملة: حشرة تزحف على ورقة، ذبذبة ضوء على سطح ماء، عشب ينحني تحت وطأة الريح. هذه اللقطات ليست زينة جمالية، بل إشارات فلسفية تذكّر بأن الإنسان ليس محور الكون، بل جزء هشّ من نسيج كوني أوسع وأعمق منه.

كما أن الحضور الدائم للموت في أفلامه لا يُقدَّم بوصفه نهاية مأساوية، بل بوصفه أفقاً وجودياً يضفي على الحياة معناها الهشّ والعابر. فالموت عند ماليك ليس قطيعة مفاجئة، بل ظلٌّ صامت يرافق كل لحظة من لحظات الجمال، ويجعلها أكثر شفافية وأشدّ إيلاماً في الوقت نفسه. وهذا الحضور يعمّق البعد الوجودي لفنه، ويضع المشاهد أمام وعي مؤلم بأن كل ما يُحَبّ معرّض للزوال، وأن الجمال ذاته محكومٌ بالتلاشي.

بهذا المعنى، تصبح سينما ماليك ممارسة روحية حداثية، لا تعظ ولا تُبشّر، لكنها تفتح نافذة على ما سمّاه هايدغر «انكشاف الكينونة»، وعلى ما عبّر عنه الصوفيون بوصفه «لحظة تماس مع المطلق»، وعلى ما عبّر عنه إنغمار برغمان بوصفه «صمت السماء أمام صراخ الإنسان». غير أن ماليك يختار طريقاً أكثر رهافة، يمرّ عبر الضوء والسكينة والحنين، لا عبر العنف أو المواجهة أو الانكسار الدرامي الفجّ.

ومن هنا يترسخ موقعه بوصفه شاعراً يجد للشعر وسيلة كاشفة جديدة. لا يكتفي بأن يصوّر العالم، بل يعيد مساءلته من الداخل، ويقترح على المتلقي أن يرى بعين أبطأ، وقلب أرهف، ووعي أكثر استعداداً للدهشة. فمشاهدة أفلامه ليست تجربة استهلاك، بل رحلة بطيئة في عمق الزمن، حيث تذوب الحدود بين الفن والفلسفة، بين الصورة والتأمل، بين الواقع والحلم، ليغدو السؤال نفسه هو الغاية، والدهشة هي المعنى، والإنصات هو الطريق.