الأرجنتين... الدعوات لجعل اللغة «أقل ذكورية» تكتسب زخماً وتثير انقسامات

البعض يرى أن وراءها أهدافاً سياسية واجتماعية

الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
TT

الأرجنتين... الدعوات لجعل اللغة «أقل ذكورية» تكتسب زخماً وتثير انقسامات

الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»
الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز.... الحركة النسوية الأرجنتينية: {لا أحد أقل»

بعد ثلاثة أيام من فرض الإغلاق الكلي في الأرجنتين لمواجهة فيروس «كورونا»، دعا رئيس البلاد الرجال والنساء على حد سواء إلى التعاون مع جهود الدولة للحد من انتشار الوباء.
وناشد الرئيس ألبرتو فرنانديز «الأرجنتينيين» مستخدماً صفة محايدة للنوعين غير موجودة في قواعد اللغة الإسبانية التقليدية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس الذي تولى منصبه في ديسمبر (كانون الأول) مثل تلك الصفة المحايدة.
لكن قراره باستخدام ذلك المصطلح اللغوي مجدداً جاء ليتحدى قواعد اللغة القديمة، بهدف العمل على جعل الأرجنتينين يتحدثون لغةً إسبانية أكثر شمولاً.
وفي هذا الصدد، قالت قاضية مدينة بوينس آيرس، إيلينا ليبراتوري: «نتحدث دائماً عن المساواة، والحقيقة هي أن اللغة تكشف عدم المساواة السائدة في المجتمع بشكل عام».
وفي العام الماضي، أثار القاضية ذاتها جدلاً بإصدارها حكماً يجري بمقتضاه تهجئة نهاية الكلمات عادة بحرف «e» بدلاً من «a» أو «o» التي تشير عموماً إلى المؤنث أو المذكر في الإسبانية.
لكن السعي لجعل الإسبانية أقل جنسانية لا يقتصر على الأرجنتين؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، استخدم بعض السياسيين والعلماء، وحتى قاموس «ميريام وبستر»، كلمة «لاتينيكس» وهي بديل لكلمة «لاتينية»، وهي الصيغة الذكورية للكلمة المستخدمة لتشمل الجميع في الإسبانية.
غير أن التغيير لم يلقَ ترحيباً من البعض، بل قُوبِل بمعارضة شديدة من مختلف دول العالم، بما في ذلك كبار خبراء اللغة الإسبانية، إذ ترى «الأكاديمية الملكية الإسبانية» التي تشرف على القاموس الأكثر موثوقية في اللغة أن الصيغ الجديدة انحراف.
ما يجعل الأرجنتين جديرة بالانتباه هو مدى تبني الأشكال الجديدة، على نطاق واسع، ليس فقط بين النشطاء ولكن أيضاً في المجالين الأكاديمي والحكومي. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الصيغ الجنسانية المحايدة شائعة بشكل متزايد في المنشورات الجامعية والوثائق الحكومية، وحتى بعض الأحكام القضائية، حتى مع استمرار كونها موضع نقاش حاد بين عامة الناس.
وذكرت القاضية ليبراتوري أنها كانت تدرك منذ فترة طويلة الطريقة التي يمكن بها للغة أن تدعم المعايير المجتمعية، وعندما أدّت اليمين قاضيةً عام 2000، كانت هناك لافتة على بابها مدون عليها كلمة «juez»، بدلاً من الصفة الأنثوية للقاضية: «jueza»، وقامت باستبدال الكلمة الأخيرة بها.
وعندما أصدرت حكماً في وقت لاحق باستخدام لغة محايدة بين الجنسين، تعرضت القاضية ليبراتوري لشكوى رفعها مجموعة من المحامين أمام مجلس القضاة في المدينة، الذي يتمتع بسلطة معاقبة القضاة على انتهاك القواعد. لكن المجلس انحاز للقاضية ليبراتوري وقرر أن القضاة يمكنهم تذييل أحكامهم بتوقيع ينتهى بالحرف «e»، مشيراً إلى أنه سينشر دليلاً لاستخدام لغة محايدة جنسانياً.
على سبيل المزاح، قالت كريستينا مونتسيرات هندريكس، المحامية التي مثلت القاضية ليبراتوري في القضية: «يجب تسمية دليل اللغة الجديد باسم المحامية التي أقامت الدعوى».
وترى السيدة هندريكس، المتحولة جنسياً، أن اعتماد لغة شاملة للجنسين يمكن أن يكون له تأثير عميق على المعايير المجتمعية والثقافية، لأنها ترى أن «العالم لا يقتصر على الرجال والنساء فقط».
ومع ذلك، فقد اعترفت بأنها لا تستخدم تلك الصفة المحايدة في تواصلها اليومي مع الآخرين. وقالت: «عمري تخطى الخمسين، ومن الصعب للغاية بالنسبة لي تغيير طريقتي في التحدث». وذكرت أن ابنتها البالغة من العمر 22 عاماً، إريكا صوفيا هندريكس، «تستخدم تلك الصفة باستمرار».
هذا النوع من القبول الواسع يجعل فنانة، مثل آرييل مزبوبا، التي تبلغ من العمر 22 عاماً وتميل إلى الاستخدام غير الثنائي للغة (ليشمل الجنس الثالث)، وتستخدم أيضاً الصفات المنتهية بالصفة الحيادية، التي تنتهي بالحرف «e»، تشعر بارتياح أكبر، مؤكدة أن «هذا (التغيير) يجعلني أشعر بأنني أكثر شمولاً، وأنني لم أعد غريبة».
وقالت كارينا غالبرين، أستاذة الأدب في جامعة «توركواتو دي تيلا في بوينس آيرس»، إنه لا يوجد إجماع بين الخبراء حول بداية استخدام الأشخاص للحرف «e» لتحييد الكلمات الجنسية باللغة الإسبانية. إن لهذا الاستخدام جذوراً تاريخية قديمة جداً، حتى لو جاء استخدامها على نطاق واسع مؤخراً، ليجعلها تبدو ظاهرة حديثة. فقبل أن يجد استخدام «e» قبولاً واسعاً، كان المتحدثون الإسبان الذين أرادوا أن يكونوا أكثر شمولاً يستخدمون صفة تشير إلى كلا الجنسين، أو استخدام الرمز @ أو «x»، وجاء استخدام الحرف «e» على نطاق أوسع لسهولة نطقه.
ورغم مزايا هذه الدعوة واضحة، فإن بعض الناس يجدونها بغيضة. كما أن وجود «إجماع كبير على رفض استخدام الشكل الذكوري باعتباره الأساس، فإن حل هذه المشكلة ليس بالإجماع».
وتجادل الأكاديمية الإسبانية بأن المؤيدين لحيادية الجنس في اللغة يحاولون حل مشكلة غير موجودة من الأساس. وتقول الأكاديمية إن اللغة الإسبانية لديها بالفعل طريقة لأخذ كلا الجنسين في الاعتبار، وأشاروا إلى أنه وفقاً لقواعد النحو، يمكن استخدام الصيغة الذكورية للكلمات بصيغة الجمع لتشمل الجميع، لذلك يمكن استخدام صفة «Argentinos» بحرف «o»، على سبيل المثال، للإشارة إلى مواطني الأرجنتين من كلا الجنسين.
لكن سانتياغو كالينوفسكي، مدير قسم البحوث اللغوية والفلسفية في الأكاديمية الأرجنتينية للآداب، يرى أنه برفض القواعد القديمة صراحة، فإن المؤيدين المحايدين للجنس يثيرون قضية كبرى (وجهة نظره لا تمثل آراء المؤسسة).
يقول عن ذلك: «هذا الطرح يضع نفسه صراحة خارج القواعد اللغوية ليكون أكثر لفتاً للأنظار. فهذا التدخل مثير للاهتمام لأن هدفه ليس نحوياً، بل سياسي واجتماعي بهدف خلق إجماع على تغيير الثقافة وتغيير القوانين في نهاية المطاف». وقد تزامنت هذه الدعوة للتحول في اللغة مع صعود حركة نسوية في الأرجنتين مناهضة لحملة قتل الإناث، أو قتل الفتيات والنساء بسبب جنسهن (إجهاض الأجنّة الإناث). وكانت تلك الحملة المسماة «Ni Una Menos»، وتعني «لا أحد أقل»، حاسمة في مواجهة التشريع الذي يسمح بالإجهاض، وكانت أولوية تشريعية للسيد فرنانديز.
ومن الجدير بالذكر أن بلداناً غير ناطقة بالإسبانية تخوض نفس الصراع لتحييد الجنس في لغتها. ففي السويد، على سبيل المثال، وصلت المساعي إلى رياض الأطفال، حيث يتجنب المعلمون استخدام الضمائر مثل «له» أو «لها»، ويفضلون استخدام أسماء إشارة وصفات محايدة.
وفي الولايات المتحدة، أصبح استخدام «هم» كضمير مفرداً شائعاً بشكل متزايد بين الأشخاص الذين يرفضون التعيينات التقليدية للجنس. وفي فرنسا، حدث تغيير مماثل لكن بوتيرة أبطأ. وعارضت الحكومة رسمياً الصيغ المحايدة جنسانياً، رغم أن الأكاديمية الفرنسية، الوصي الرسمي للغة الفرنسية، وافقت في النهاية على السماح للألقاب المهنية بمطابقة جنس الشخص بدلاً من أن تكون صفة مذكرة موحدة.
وفي الأرجنتين نفسها، جامل السيد فرنانديز، أستاذ القانون، الحركة، بالعمل على جعل اللغة أقل ذكورية عندما قام بحملته الانتخابية للرئاسة. ففي شعار حملته، قدم كلمة «todos»، وتعني «الجميع»، برمز للشمس بدلاً من الحرف الثاني «o».
وبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، بدأت بعض الدوائر الحكومية في تبني لغة لا جنسانية. فمثلا أصدرت مؤسسة التقاعد، دليلاً لجميع موظفيها بلغة شاملة، لكنها لم تصل إلى حد طلب استخدامها في الوثائق الرسمية. وساعدت مونيكا روكيه، السكرتير العام لـ«وكالة حقوق الإنسان والجنس»، في صياغة الدليل وعبرت عن تقديرها لحركات الشباب للدفع بالتغييرات اللغوية.
قالت مونيكا: «لقد دفعونا إلى التفكير في ذلك. إن هذا التعدي على استخدام حرف غير (a) أو (o) جعلنا نفكر في معنى ذلك». كما بدأ «المعهد الوطني لمناهضة التمييز وكراهية الأجانب والعنصرية» في الأرجنتين في استخدام لغة شاملة في بعض القرارات الرسمية، لكنه امتنع عن استخدام الصيغة «e»، خوفاً من أن تؤدي إلى اللبس، بدلاً من الحيادية.
تقول فيكتوريا دوندا، رئيسة المعهد: «بشكل عام، كانت هناك رغبة في استخدام لغة شاملة دائماً. لكن اللغة الشاملة يجب ألا تتجاهل بعض الناس، ففي الأحياء الفقيرة، الناس غير معتادين على سماع الحرف (e) بدلاً من حرف (a) أو (o)، وهذا يمكن أن يؤدي إلى لبس وارتباك في المعنى».
- خدمة {نيويورك تايمز}



العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.