هل يمكنُ لأيّ منّا توصيف عصرنا هذا بأنه عصر الرواية القصيرة (النوفيلّا)؟ وهل يستبطنُ هذا القول إشارة مضمرة إلى خفوت عصر الروايات الطويلة، بل وحتى موتها المزعوم؟ أظنّ أنّ النجاح التجاري الذي أصاب الرواية الثالثة المرآة والضوء The Mirror & The Light في سلسلة روايات (أوليفر كرومويل)، الثلاثية للروائية البريطانية هيلاري مانتل Hilary Mantel لكفيل بدحض هذا الرأي الذي قد يعبّرُ عن تفكير رغائبي يدفع صاحبه إلى الإيمان بفكرة موت الأنساق الفكرية - ومنها الأجناس الأدبية المعهودة - بدفعٍ من ترسيمة سيكولوجية تنساق لمثل هذه الأفكار. سيسارعُ البعض للقول بأنّ النجاح التجاري والمبيعات الكبرى ليست دليل صحة وعافية، وهذا أمرٌ صحيحٌ؛ لكن لا ينبغي نسيان أنّ مانتل ليست كاتبة دخيلة على الفن الروائي أو تعتمدُ مخاطبة أطياف عمرية خاصة تؤثر فيها الفذلكات البوليسية أو المبالغات الفنتازية؛ بل هي كاتبة مقتدرة، فازت بجائزة المان بوكر مرتين (سنة 2009 وكذلك سنة 2012) باستحقاق كامل. لا بدّ من الإشارة هنا أنّ روايات (مانتل) بدينة في العموم؛ بل إنّ بعضها مفرط البدانة، ويكفي أن أشير إلى أنّ روايتها الأخيرة (المرآة والضوء) تكاد تقارب الثمانمائة صفحة، وأنّ ثلاثية (أوليفر كرومويل) تبلغ قرابة الألف وسبعمائة صفحة.
كلّ من خبرَ الكتابة الروائية وتمرّس في متاهاتها اللانهائية يعرفُ منذ لحظة الشروع الأولى في الكتابة بأن ثمة أسئلة لا مناص من إجابتها قبل المضي في الكتابة، وثمة أسئلة أخرى يمكن استقصاؤها مع نمو العملية الكتابية وبلوغها إلى آفاق أوسع. أحسبُ من جانبي أن حجم العمل المطلوب كتابته هو أحد الأسئلة الجوهرية التي تنتمي للصنف الأوّل من الأسئلة؛ إذ لا يمكن الشروع في الكتابة قبل أن يحدّد الكاتب بدقّة هل يبتغي كتابة عمل روائي بدين أو نحيف، وهذه ليست مسألة تقنية أو كيفية محضة بقدر ما هي مسألة مفصلية؛ إذ إنّه من خلال تحديد حجم البدانة أو النحافة (بالمعنى الروائي) سيحدّدُ بالتالي طريقة الكتابة المطلوبة ومدى الحرية المتاحة للكاتب في تمرير أفكاره الروائية، فضلاً عن تحديد عدد الثيمات الرئيسية في العمل وجملة من الموضوعات التقنية الأخرى. ثمة سرعةٌ يمضي بها العمل الروائي ويتحسّسها كلّ كاتب بمقتضى خبرته الروائية، وحجمُ العمل الروائي هو وحده من يضع الشرط الأوّلي في تحديد هذه السرعة الروائية.
لطالما اقترنت الكلاسيكيات الأدبية بالمطوّلات الروائية التي تقتضي البدانة بالضرورة؛ ولمّا كنّا عشاقاً للكلاسيكيات فقد صار بمثابة القانون الروائي أن نميل لجانب المطوّلات الروائية البدينة، وتلك خصيصة نلمحها في معظم الأعمال الروائية التي سادت في عصر الحداثة وبعض أعمال ما بعد الحداثة الروائية، والتسويغ لهذا الفعل جاهز ومعلنٌ: الرواية الكلاسيكية مرآة تعكس الحياة التي نعيشها بعد إعمال مبضعنا السردي فيها وتطييبها ببعض المنكّهات التي تدفع المرء المتعجل للاستمرار في القراءة وكأنه يرى حلماً لذيذاً (سمّه حلم يقظة لو شئت)؛ ولما كانت الحياة ممتدّة امتداداً لا نهائياً فسيكون من الطبيعي أن يتضخّم جسم العمل الروائي. هذه هي المقايسة التي سادت حتى بواكير عصر الحداثة الروائية.
تسبّبت الثورات العلمية والتقنية في حدوث انعطافات كبرى في الفكر الروائي؛ فلم يعُد الفن الروائي مادة يلهو بها الأرستقراطيون المتبطّلون - كما كان الحال قبل حقبة الحرب العالمية الأولى - بل صار مادة شعبية يُرادُ منها إعادة تشكيل تضاريس الخارطة الفكرية وتوجيه العقول والقلوب نحو المتغيرات التي باتت تحفر عميقاً في صياغة الوجود البشري، ثمّ جاءت الحرب العالمية الثانية فعزّزت هذا المسار، ثمّ تتالت الثورات العلمية والتقنية التي ضغطت الزمن البشري وجعلته زمناً سائلاً (على حدّ تعبير السوسيولوجي الأشهر زيغمونت باومان)، وما عاد الزمن سائباً وذا نهايات مفتوحة؛ بل صار يُحسَبُ له حسابه الدقيق على مستوى الأفراد والأمم. هنا ينشأ السؤال الجوهري التالي: هل يمتلك الروائي المعاصر الحرية ذاتها التي امتلكها تولستوي أو دوستويفسكي أو بروست أو ديكنز أو ميلفل أو فلوبير... إلخ في كتابة المطوّلات الروائية؟ وحتى لو أتيحت له تلك الحرية؛ فمن ذا الذي سيمتلك الوقت لقراءتها في عصر صار فيه الزمن هاجساً أقرب للمعضلة الاكتئابية التي يشعر معها المرء دوماً بأنه مسبوقٌ حتى لو عمل عشرين ساعة متصلة في اليوم الواحد؟
عندما شرعتُ في كتابة روايتي الأخيرة (عشّاقٌ وفونوغراف وأزمنة) كنتُ أعرفُ منذ البدء أنني سأكتبُ رواية بدينة لكونها رواية جيلية تنتمي لجنس التخييل التأريخي، ولستُ أجانبُ الصدق لو قلتُ إنّ أفكاراً كثيرة متباينة تناهبتني آنذاك وجعلتني ميداناً مفتوحاً لعناصر صراعية قاسية؛ فأنا من جانب أعرفُ أنّ رواية قصيرة (في حدود أربعين ألف كلمة) هي الأكثر مقبولية بحسب الأعراف السائدة من حيث اعتبارات التسويق والقراءة؛ لكنّ هاجساً كان يلحُّ عليّ بضرورة الإصغاء لصوتي الداخلي فحسب وعدم الخضوع للاعتبارات السائدة.
ثمة عبارةٌ سادت في العقدين الأخيرين تقول: الصغير هو الجميل Small is Beautiful وهي عبارة تضمنتها أدبيات التنمية الاقتصادية للبلدان النامية، وتُعلي هذه الرؤية شأن المساهمات الاقتصادية التي تقوم بها وحدات صغيرة (فرد، عائلة، مجموعة بشرية تتكون من عدّة أفراد...) عوضاً عن المشاريع العملاقة التي شكّلت النظام الرأسمالي. أتساءل أحياناً: هل ستجد الرواية منقذاً لها في الفكر الاقتصادي الخاص بتنمية البلدان الفقيرة؟ هل الصغير هو الأجمل دوماً؟ ماذا عن الكلاسيكيات التي أحببناها وقضينا معها أسعد أوقاتنا؟
أرى أنّ الكلاسيكيات ستبقى في مكانتها الاعتبارية المهيمنة باعتبارها مسعى تأسيسياً ريادياً؛ لكن ما عاد الحديث اليوم يتناول شكل الرواية في الحاضر والمستقبل في خضمّ الثورة المعلوماتية وإسقاطاتها الضخمة على الكائن البشري، وليس الذكاء الصناعي العام AGI الذي سيكون الخصيصة المميزة لعصر الثورة الرابعة القادمة سوى وجه واحد من أوجه التغييرات الثورية التي ستشهدها حياتنا، والرواية ليست بمعزل عنها في كلّ الأحوال.
تناول الروائي البريطاني ذائع الشهرة إيان ماكيوان Ian McEwan موضوع الرواية القصيرة (النوفيلا) في مقالة رائعة له نشرها في مجلة «النيويوركر»، وأرى أنّ مقالته هذه هي نوعٌ من رسالة تبشيرية بسيادة هذا النوع الروائي في المستقبل القريب، ولعلّ مصداق هذا القول يتجسّدُ في نشر الكاتب (وهو المعروف بمطوّلاته الروائية) لنوفيلّا بعنوان الصرصار The Cockroach بعد بضعة أشهر من نشر رواية طويلة له بعنوان Machines Like Me آلات تحبني عام 2019.
يرى (ماكيوان) أنّ ممّا يثيرُ الغرابة هو كون القصة القصيرة، وعلى عكس الحال مع الرواية القصيرة (النوفيلّا)، لم تنشأ حولها التساؤلات التشكيكية بشأن هيكليتها القصيرة وما يترتّبُ عليها من مترتبات تابعة، وربما يعود السبب في هذا إلى كون القصة القصيرة مختلفة عن الرواية اختلافاً جوهرياً وليست فرعاً مشتقاً منه بشكلٍ ما. يضيف ماكيوان إلى ما سبق رؤيته بأنّ (النوفيلّا) هي الشكل الكامل للنثر الروائي، وهي بمثابة الابنة الجميلة لذلك العملاق الجوّال، السكران، المترهّل، سيئ الحلاقة (الإشارة إلى الرواية الكلاسيكية)؛ لكنّ هذا لا ينفي أنّ ذلك الكائن المتعملق عبقريٌّ يعيشُ أزهى أيامه، وأنّ هذه الابنة الجميلة هي الوسيلة التي بها - ومن خلالها - عرفنا العديد من أوائل عظماء الكتّاب الروائيين: عرف معظم القرّاء (توماس مان) عن طريق (موتٌ في البندقية)، وعرفوا (هنري جيمس) عن طريق (منعطف اللولب)، وعرفوا (كافكا) عن طريق (التحوّل)، وعرفوا (جوزيف كونراد) عن طريق (قلبُ الظلام)، وعرفوا (ألبير كامو) عن طريق (الغريب)، ويمكن للمرء المضيّ في تعداد أسماء روائية كبيرة أخرى كتبت النوفيلّا: فولتير، تولستوي، جويس، سولجنتسين، أورويل، شتاينبك، بينكون، ميلفل، لورنس، مونرو... يضيفُ ماكيوان أنّ هذا التقليد الكتابي في كتابة (لنوفيلا) لهوَ تقليد طويلٌ حافلٌ بضروب المجد، ولا تنفكُّ متطلبات الاقتصاد في الكتابة الروائية تدفعُ الكُتّاب إلى إعادة ترشيق كتابتهم ابتغاءً للمزيد من الدقة والوضوح، ولتمرير المؤثرات التي يبتغونها بقدرة غير متوقّعة، وللإبقاء على بؤرتهم الروائية مصوّبة على صنيعتهم الروائية المميزة ودفعها إلى الأمام بالطاقة الخلاقة التي تتأتّى من العقل الوظيفي العامل في اتجاهية واحدة، ومن ثمّ بلوغ النهايات المأمولة والقارئ قد حافظ على وحدة عقله ولم يبعثر طاقته في بؤرٍ سردية متشظية عديدة كما تفعل الرواية. الروايات القصيرة (النوفيلات) لا تهيم في الفضاء أو تعتمد اللغة التبشيرية؛ وهي إذ تفعل هذا فهي تجنّبُنا الحبكات الثانوية المتكاثرة والنصوص البينية المنتفخة.
النوفيلا - بشكل عام - مادة روائية تقعُ في حدود عشرين إلى أربعين ألفاً من الكلمات، وهي مادة طويلة بما يكفي للقارئ لكي يستوطن عالماً روائياً بتضاريسه الكاملة الخليقة بالبقاء في عقل القارئ لأجل ليس بالقصير، وفي الوقت ذاته فإنّ تلك المادة الروائية قصيرة بما يكفي لكي تُقرَأ في جلسة متصلة واحدة أو جلستيْن وبما يتيحُ لهيكليتها الكاملة أن تبقى مترسّخة في عقل القارئ منذ لحظة القراءة الأولى، وهذه خصائص تتفوّق بها النوفيلا على المطوّلات الروائية؛ لكن ليس من مقايسة معيارية في هذا الشأن: القارئ الشغوف بعمل ما سيتحمّل عبء قراءة آلاف الصفحات وهو مستمتع وكأنه في حلم يقظة فائق المتعة؛ أما القارئ غير الشغوف فلن يتحمّل عبء قراءة حتى عشرة آلاف من الكلمات تضمّها نوفيلا بالغة القصر.
هل ستسود النوفيلّا في العقود القادمة لتكون مصداقاً لرؤية ماكيوان في أنّ (الصغير هو الجميل) أم سنشهد تعايشاً بين النوفيلا والروايات الطويلة؟
ليس لنا إلّا أن ننتظر ونرى.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في عمّان