حين خرجت من البيت، صباح السبت، 25 نيسان 2025، بدوتُ على شيء من الخوف والتوتّر. اخترت أن أتجنّب المصعد كي لا تجمعني تلك الغرفة الضيّقة بأي واحد من جيراني الذين انقطعت عنهم تماماً منذ 5 سنوات. فماذا أقول للجار فيما نقف وجهاً لوجه؟ وهل فعلاً بات من المأمون أن نقف وجهاً لوجه؟ ثمّ، من أين يبدأ كلامنا؟
لقد بدا لي الأمر أشبه بإيقاظ شخص من نوم عميق ومطالبته أن يصعد الجبل فوراً وركضاً أو أن يسبح في بحيرة تجلّدت مياهها. هكذا أحسست أنّ نزول الدرج يعفيني من هذه الامتحانات التي لم أتعرّض لها منذ بدء الحجر الصحّيّ. وفي محاولة لتخفيف المشقّة عنّي قلت لنفسي؛ لا بدّ أن إحساسي هذا سوف يتراجع بالتدريج. لا بدّ من العودة إلى ما كنّا نفعله قبلاً، إلى ما كانت حياتنا. المسألة تستغرق بعض الوقت فحسب.
لكنّني سريعاً ما لاحظت أنّني أبسّط الأمور قليلاً، وربّما كثيراً. فأنا ما إن غادرت البناية التي أقيم فيها ونظرت إلى الشارع حتّى داهمتني طبيعة غير التي كنت أعرفها. فهل اختلفت ألوان السماء عمّا تكونه عادة في آخر أبريل، أم أنّني أنا مَن أضاع كلّ تصوّر وكلّ ذاكرة عن السماء التي لم أرها منذ 5 سنوات؟
الشارع كان أمره أبسط. ذاك أنّ الرثاثة بادية على كتل الزفت المتآكلة، ليس على جانبيه فحسب، بل أيضاً في متنه العريض، فكأنّه يطردني منه مكرّساً نفسه لأقدام كائنات أخرى.
حاولت أن أتأمّله، وأن أحاول استرجاع صورته كما كانت، أو كما ظننت أنّها كانت. حاولت ذلك، رغم ثقتي أنّ قدرتي على استعادة الماضي ومقارنته بالحاضر قد اهتزّت قليلاً. فلا التذكّر يطاوعني، ولا المقارنة.
ثمّ إنّ الشخص الذي يمرّ هناك، على الرصيف الآخر، لم يكن مشجّعاً. وجهه، بسبب الاحتجاب الطويل عن الشمس، شديد الصفرة، وحركته الجسمانيّة جعلها القعود الطويل في البيت بطيئة ومفتعلة. والحال أنّ هذا الرجل، الذي لم أرَ على الطريق كثيرين غيره، كاد يؤكّد لي انطباعي الأوّل، وهو أنّ الشارع بدأ يستبدل البشر الذين كنّاهم ببشر آخرين، أو أنّه يدعوننا أن نصير، نحن أنفسنا، بشراً آخرين.
على أنّ رقيب الشرطة الذي كان يقف على بُعد أمتار منّي أنقذني من هذه الأفكار المُنغّصة. تقدّم نحوي وفي يده هراوة، ما أشعرني بخوف من غير صنف الخوف الذي عرفته في السنوات الخمس الماضية، ثمّ قال بتهذيب مدروسٍ؛ أرجوك يا أستاذ ألا تطيل الوقوف في المكان نفسه. وحين سألته عن السبب، جاءني الجواب الذي يستحيل أن يتوقّعه أيٌ كان؛ إنّنا نخوض معركة شرسة لقتل الجرذان أو إرجاعها إلى حيث كانت قبل 5 سنوات تحت الأرض. لقد استفادت من غيابنا عن الشارع فزحفتْ واحتلّته.
وبدا لي أنّ هذا الرقيب على شيء من الإلمام بالثقافة، إذ نظر إلى الأفق وقال، كمن يردّد حكمة حملها معه من أيّام المدرسة، إنّ كلّ فراغ يستدعي ما يملأه. لكنْ حين طلبت منه أن يشرح لي بقدر من الإسهاب ما يقوله عن الجرذان، تكشّف عن صرامة لم أتوقّعها، وقال بحزم أبويّ؛ يا حبيبي، أنتم البشر تظنّون أنّ الأمور تسير بهذه البساطة وتستغربون حين تكتشفون أنّها ليست كذلك. هناك مرحلة انتقاليّة سنعبرها، ومعركة سوف نخوضها قبل العودة إلى الحياة الطبيعيّة.
إذاً الجرذان سوف تصبغ مرحلتنا الانتقاليّة تلك؟! وأنا كنت قد قرأت، في عزلة السنوات الخمس، رواية عن صلة الجرذان بالطاعون الذي يصعب أن نحتمي منه، وأن ننجو من موته، وتذكّرت ما سمعته مرّة من جدّي الذي كان يصف تلك الكائنات بالبشاعة والتكاثر، ما يُنذر بنهاية العالم. أمّا وجهه فكان، كلّما قال: «دم الجرذان»، ينكمش قرفاً وخوفاً في آنٍ.
وما جعل ريبتي تتصاعد استخدام الرقيب تعبير «أنتم البشر»، إذ لم أدرِ ما إذا كان يحسبنا فصيلاً في مواجهة الشرطة، أم فصيلاً في مواجهة الجرذان، ولا فهمت تماماً طبيعة هذه الفصائليّة التي سنرتدّ إليها في حرب أبديّة يتداخل فيها ما تحت الأرض بما فوقها. لكنّ الشرطي سريعاً ما أضاف بوجه داكن ومصفّح بالمسؤوليّة؛ يُستحسن بك أن تسير فوراً إلى حيث تبغي الوصول. وهذا، بدوره، ضاعف بلبلتي، إذ لم أكن أبغي الوصول إلى أي مكان. كلّ ما في أمري أنّ مغادرة البيت صارت متاحة للجميع، «لأنّنا هزمنا كورونا» كما قال وزير الداخليّة ضارباً يده على الطاولة بما لا يدع مجالاً للشكّ. هكذا قرّرت أن أنزل إلى الشارع وأسير فيه قليلاً.
على أي حال، هناك كثيرون من أصدقاء وأقارب لم أرَهم منذ 5 سنوات، كنّا خلالها نتحادث تليفونيّاً. فلماذا لا أتّصل بواحد من هؤلاء الذين أشتاق إليهم، وبهذا يصير لديّ مكان أبغي الوصول إليه، كما أستجيب لطلب الرقيب.
ومرّة أخرى تعثّرتْ محاولتي. فالصديق الذي تلفنتُ له أخبرني أنّه باقٍ في البيت، لأنّه لم يعد يرى سبباً لمغادرته؛ هنا أفعل كلّ شيء على طريقتي، قال.
لكنْ كيف نلتقي؟ قلت له، فأجاب، بعد شيء من التردّد الحذِر، بأنّ في وسعي زيارته في بيته إذا شئت. ولئن استغربتُ تردّده الذي أوحى لي بضعف رغبته في لقائنا، غضضت النظر عن ذلك مدفوعاً بشوقي إليه. فأنا منذ 5 سنوات أنتظر اللحظة التي أرى فيها جميع من أحبّهم، فنتصافح بحرارة ونتعانق بحرارة ونتبادل الكلام، فيما نحن نضحك، عن تلك الفترة السوداء المنقضية وكيف كنّا نتحايل عليها. كنت أتخيّل أصدقائي وأقاربي وجهاً وجهاً، وأحاول أن أرسم أشكالهم في رأسي كي لا تهرب كلّيّاً من ذاكرتي المصابة بالوهن. كنت أيضاً أحاول أن أتوقّع الأفكار التي خطرت لهم والنِكات التي سأسمعها منهم. فكّرتُ في أجسامهم التي، لا بدّ، تغيّرت، وفي علاقتهم بزوجاتهم وأبنائهم وما إذا كانت قد صمدت في مواجهة الأيّام الصعبة المديدة.
لكنّ هذا، للأمانة، لم يكن يختصر كلّ العلاقة بالأصدقاء الغائبين. ذاك أنّ صعوبات وحسابات راحت تتسلّل إليّ من أمكنة معتمة في الرأس، بحيث رحت أسأل نفسي أغرب الأسئلة؛ كيف سأصل إلى بيته الذي كنت أعرفه كما أعرف بيتي؟ لا شكّ أنّ الأمور تغيّرت عمّا كانت قبلاً، وأنّ سيّارات السرفيس غيّرت طرقها، أو تغيّرت هي نفسها، والمؤكّد أنّ عدداً كبيراً من سائقيها قد رحلوا.
لكنْ إذا وصلتُ إلى بيته، فماذا أقول له؟ ماذا لو اكتشفت أنّنا لن نجد ما يقوله واحدنا للآخر بعد هذا الانقطاع الطويل؟ ولأنّ صديقي قليل الثقة بأقوال وزير الداخليّة، فهو قد لا يصافحني باليد، وقد يجفل إذا اقتربتُ لعناقه، وربّما طلب منّي نزع حذائي في مدخل البيت والجلوس بعيداً. إنّ في وسع معاملة كهذه أن تجعلني أراه عدوّاً أكثر منه صديقاً.
فالسنوات الخمس الماضية، والحال هذه، تتولّى محو 50 سنة كنّا فيها أصدقاء؛ خصوصاً أنّ كلّ يوم من هذه السنوات الخمس يعادل سنة من الزمن القديم، فكيف وأعمارنا التي كانت تسير على مهل صارت اليوم تركض ركضاً؟
وإذ راحت تلك المشاعر والحسابات المتضاربة تتقاذفني، قرّرت أنّني لا أريد أن أراه. حتّى لو عاملني باللطف والكرم اللذين كان يعاملني بهما في الماضي البعيد، فقد أجدني أمام شخص اختلفت هيئته على نحوٍ لم أهيّئ نفسي لتَلقّيه؛ هل بات، مثلاً، أقصر مما كان؟ أكثر شيباً أو كهولة؟ هل باتت يداه تهتزّان؟ هل تراجعت ذاكرته؟
ورأيتني فجأة أنتقل، بيني وبين نفسي، إلى ما يشبه الوساوس والهلوسات التي تطلع من قاع غامض عميق. صحيح أنّنا كنّا، طوال السنوات الخمس، نتحدّث على التليفون، وأحياناً نتبادل ما تيسّر من أخبار مفرحة. مع ذلك، لم أكن أستطيع أن أطرد من رأسي؛ خصوصاً منذ السنة الثانية للحجر، صوراً غريبة راحت ترتسم فيه كلّما تحدّثتُ معه. أذكر، مثلاً، أنّني تخيّلته يمدّ يده لمصافحتي، لكنّني تخيّلت كميّة هائلة من الشعر الكثيف تنتشر في كفّه. وعندما أخبرني عن حفيدته التي وُلدتْ للتوّ كانت الفكرة الأولى التي حضرتني أنّ أصابع قدميها كتلة واحدة لم ينشقّ واحدها عن الثاني.
أمّا الآن، وبعدما استمعت إلى ذاك الشرطيّ، بِتّ على قناعة أنّ الجرذان التي استوطنت رأسي في تلك السنوات الفائتة هي التي هجمت على الشارع بعدما تكاثرت وصارت جيوشاً لا نعرف كيف نصدّها.
ولا أدري ما الذي جعلني أتخيّل الأشياء هكذا، وأفكّر على هذا النحو. لكنّني قرّرت، بعد تقليب الأمر على وجوهه، ألا أذهب لزيارة صديقي وأن أمضي في ممارسة الصداقة تليفونيّاً. هكذا أعود أنا أيضاً إلى البيت وأمكث فيه مثلما يمكث هو في بيته، وعلى طريقتي أفعل كلّ شيء مثلما يفعل هو!
قصة قصيرة: 25 نيسان 2025
قصة قصيرة: 25 نيسان 2025
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة