في حين تتقدّم الدول الأوروبية ببطء وحذر شديد نحو تخفيف تدابير الحظر والوقاية من «كوفيد-19»، تنشط الاتصالات بين العواصم على الجبهتين السياسية والاقتصادية، استعداداً للقمّة المقبلة المقررة يوم الخميس المقبل، التي يجمع كثيرون على اعتبارها مفصلية أمام تحدّي النهوض من أخطر أزمة اقتصادية واجتماعية تواجه الاتحاد منذ تأسيسه، ومصيرية بالنسبة لمستقبل المشروع الأوروبي المحاصر منذ سنوات على عدة جبهات.
وبعد أن أعلن صندوق النقد الدولي توقعاته القاتمة بالنسبة لتراجع إجمالي الناتج المحلي لهذا العام، الذي يقدَّر أن يبلغ متوسطه 7.5 في المائة في بلدان الاتحاد، وقبل أيام من كشف الدول الأعضاء عن بياناتها الفصليّة، تواصل المؤسسات الأوروبية تفكيك ترسانة شروطها المالية الصارمة، بما يتيح لحكومات البلدان الأكثر تضرّراً من الأزمة رفع مستويات الدين العام فوق الحدود المقررة، واللجوء إلى قروض ميسّرة طويلة الأمد لمعالجة ذيول الكارثة التي بدأت تدّق على الأبواب.
وفي حين كان المصرف المركزي الأوروبي يعلن عن حزمة جديدة من الشروط المخففة للإقراض، دعا المجلس الأوروبي لوزراء المال قطاع المصارف إلى عدم توزيع أرباح طوال فترة الأزمة، وتركيز نشاطه على القروض للمؤسسات والعائلات. وتستعدّ المفوضيّة، من جهتها، لرفع بعض الشروط المفروضة على تقديم المساعدات الرسمية، بما يتيح للقطاع العام الدخول في رؤوس أموال الشركات الكبرى المتعثرّة جراء الأزمة. وأفادت مصادر بأن المقترح الذي يعدّه خبراء المفوضية لرفعه إلى القمة يشترط أن تكون هذه المساعدات بمثابة السلاح الأخير؛ أي أن تكون المؤسسات محكومة بالإفلاس، من غير تدخّل القطاع العام لإنقاذها.
وفيما ترصّ جبهة بلدان الجنوب الأوروبي صفوفها استعداداً للقمة، ويزداد عدد الأصوات المتعاطفة معها بين دول الشمال الرافضة لحلول الإنقاذ المشتركة، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقفاً متقدّماً، بتصريح جاء فيه: «لا بديل عن إصدار سندات مشتركة لتمويل عملية الإنقاذ والنهوض من الأزمة، قطعاً للطريق على الشعبويين للوصول إلى الحكم». وقال ماكرون إنه يعتزم تقديم هذا الاقتراح في القمة المقبلة، معتبراً أن عدم التضامن المالي في هذه الأزمة سيهدد ديمومة المشروع الأوروبي بكامله، وليس فقط منطقة اليورو.
وقال الرئيس الفرنسي: «إن ساعة الحقيقة قد أزفت. وإذا لم نتحرّك اليوم، سيفوز الشعبويّون غداً أو بعد غد، في إيطاليا وإسبانيا، وربما في فرنسا». وحذّر ماكرون من الوقوع في الخطأ الفادح نفسه الذي ارتكبته فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما فرضت تعويضات ضخمة على ألمانيا المهزومة، مما أدّى إلى تأجيج المشاعر القومية والحركات الشعبوية التي كانت من الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد تجديد الاعتذار من إيطاليا أمام البرلمان الأوروبي، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين إن الاتحاد أمام امتحان عسير لا يحتمل التأجيل أو المماطلة، وإن القرارات التي تتخّذ في هذه الأزمة ستحدد مصير المشروع الأوروبي ومعالمه في المستقبل.
وبعد الاستياء الذي أثارته أوساط إعلامية ألمانية، بدعوتها إلى عدم تقديم مساعدات مالية غير مقيّدة بشروط قاسية إلى إيطاليا لأن «المافيا ستكون في انتظارها»، نشر الكاتب الناشط الإيطالي روبرتو سافيانو، الخبير في شؤون المافيا، الذي يعيش تحت حراسة دائمة منذ سنوات، مقالاً في الصحف الألمانية جاء فيه: «من الخطأ الفادح أن يعتبر الألمان المساعدات الاقتصادية التي تقدّم إلى الدول الأكثر تضرراً من أزمة (كوفيد-19) هي انتقاص من ثروتهم الوطنية، واقتطاع يضعف اقتصادهم؛ إنها تحصين للاقتصاد الأوروبي برمّته، وليست هدية على طبق للمافيا، لكن ترك هذه الدول ترزح وحدها تحت وطأة الكارثة هو الذي سيجعل اقتصادها، ومتعه الاقتصاد الأوروبي، فريسة للمافيا».
ومع تراجع نسبة الإصابات الجديدة في إيطاليا إلى أدنى مستوى منذ بداية الأزمة، ما زالت مأساة الجسم الطبي تثير تساؤلات حول أسباب فداحتها، إذ ارتفع عدد الوفيّات بين الأطباء إلى 127، وزادت نسبة الإصابات عن 14 في المائة في صفوف الطواقم الصحيّة. وما زال الجدل على أشده حول الوفيّات الضخمة في بعض دور العجزة في ميلانو، حيث إن المدير العام المساعد لمنظمة الصحة العالمية مستشار وزير الصحة الإيطالي رانييري غويرّا وصف ما حصل فيها بأنه «مجزرة قضت على آلاف المسنّين».
وفي إسبانيا أيضاً، تثير مسألة الوفيّات جدلاً واسعاً حول طريقة احتسابها، وعدم دقّة الأرقام التي تعلنها كل يوم وزارة الصحة. وكانت الحكومة قد أعلنت، أمس (الجمعة)، عن توحيد معايير احتساب الوفّيات بين الأقاليم، ورجّحت الناطقة بلسان الحكومة أن تكون الأعداد الحقيقة أكثر من التي أعلن عنها حتى الآن، ووعدت بمراجعتها في ضوء المعايير الجديدة.
يذكر أن إسبانيا ما زالت تحتل المرتبة الأولى عالمياً، من حيث عدد الوفيات مقارنة بعدد السكان، بعد أن بلغت الإصابات المؤكدة 188 ألفاً، واقترب عدد الوفيّات من 20 ألفاً. وتجدر الإشارة إلى أن اليونان، التي تسجّل أدنى نسبة من الوفيّات في الاتحاد الأوروبي، كانت قد فرضت تدابير الحظر التام بعد 4 أيام من أول وفاة بسبب (كوفيد-19)، بينما انتظرت إيطاليا 18 يوماً، وإسبانيا شهراً كاملاً، قبل فرض تدابير العزل.
ومن ألمانيا جاءت التطمينات الرسمية الأولى في هذه المعركة الضارية ضد «كوفيد-19»، على لسان الناطق باسم الحكومة الذي قال إن الأرقام الأخيرة تؤكد أنه يمكن السيطرة على الوباء، بعد أن وصلت نسبة العدوى إلى 0.7 في المائة، وزاد عدد المتعافين عن عدد المصابين الذين يتلقّون العلاج.
مصير الاتحاد الأوروبي رهن تضامن أعضائه في وجه الوباء
فون در لاين جددت اعتذارها لإيطاليا... وماكرون: ساعة الحقيقة أزفت
مصير الاتحاد الأوروبي رهن تضامن أعضائه في وجه الوباء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة