هكذا يستغل أوربان «كوفيد ـ 19» لإحكام قبضته على المجر

الزعيم اليميني المتشدد الذي أخفقت جهود أوروبا الهادئة في احتواء طموحه

هكذا يستغل أوربان «كوفيد ـ 19» لإحكام قبضته على المجر
TT

هكذا يستغل أوربان «كوفيد ـ 19» لإحكام قبضته على المجر

هكذا يستغل أوربان «كوفيد ـ 19» لإحكام قبضته على المجر

قبل خمس سنوات، في إحدى القمم الأوروبية في مدينة ريغا عاصمة لاتفيا، وقف جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية - حينذاك - منتظراً وصول القادة الأوروبيين لأخذ الصورة التذكارية معهم. وعندما اقترب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، التفت يونكر إلى شماله متحدثاً لمن بجانبه قائلاً «ها قد وصل الديكتاتور». ابتسم هو ومن سمعه، وما كانت إلا لحظات حتى وصل أوربان مادّا يده ليونكر... فبادله الأخير المصافحة ضاحكاً مكرّراً «أهلا بالديكتاتور». ولم يبد أوربان منزعجاً من هذا الترحيب. وفي الواقع يُقال إنه لا يمانع أن يحمل هذا اللقب. ومع أن الوصف ألصق به في حينه عن طريق المزاح، إلا أنه اليوم يعود ليوصف بأنه «ديكتاتور» عن جدارة بعدما مرّر قانون طوارئ في البرلمان نهاية الشهر الماضي، يسمح له بالحكم منفرداً عبر إصدار مراسيم من دون الاضطرار إلى العودة إلى البرلمان، ولأجل غير مسمى. الحجة، كانت بالطبع مواجهة وباء «كوفيد - 19» (كورونا)، إلا أنه واقعياً أعطى نفسه صلاحيات غير محدودة لأجل غير مسمى. هذا أشعل غضباً كبيراً في أوروبا، رغم أن دولها منشغلة كل واحدة بنفسها بسبب الوباء الذي وصف بأنه أكبر تحد يواجه القارة منذ الحرب العالمية الثانية.
لم تشغل أزمة القارة الأوروبية منذ زمن، كما يشغلها الآن «كوفيد - 19» (كورونا).
عندما وصل هذا الوباء إلى أوروبا، تقوقعت كل دولة على نفسها محاولة أن تجد سبيلاً للسيطرة على التمدد المخيف لفيروسه المتنقل بين القارات.
وفي حين اتخذت كل دولة أوروبية تدابير خاصة لتسريع إصدار قرارات تمكنها من سرعة السيطرة على انتشار الوباء، مثل قوانين مؤقتة تعطي السلطات المركزية قوة أكبر وصلاحيات أوسع، بدت المجر وكأنها تقوم بالمثل. إذ قدم رئيس حكومتها فيكتور أوربان قانون الطوارئ الجديد أمام البرلمان الذي يسيطر عليه حزب القومي اليميني المتشدد «فيديز»، يسمح له بالحكم منفرداً من خلال إصدار مراسيم من دون الاضطرار إلى العودة للبرلمان، ولأجل غير مسمى. وأكثر من هذا، فإن القانون يجرّم كل مَن ينشر «معلومات خاطئة عن الفيروس تعرقل رد الحكومة»، ويعاقب بالسجن لخمس سنوات.
كثيرون اعتبروا أن هذا البند موجه للإعلام تحديداً، مع أنه لم يتبقّ في المجر الكثير من الإعلام المستقل. فمعظم وسائل الإعلام المجرية هي إما تابعة للحكومة أو مملوكة لأشخاص من دائرة أوربان. وعليه، لم تعُد هناك إلا بضع صحف صغيرة تُوصف بأنها مستقلة.
تعليقاً على القانون الجديد، قال الصحافي زولتان باتكا، الذي يكتب في صحيفة «نبسزافا» اليومية الصغيرة المعارضة، بحسب ما نقلت عنه قناة «دويتشه فيله» الألمانية - «هذا القانون يثير الكثير من الشك لأننا لا نعرف كيفية اتخاذ القرارات». وأضاف باتكا، أن القانون يشير إلى عقوبات لمن «ينشر معلومات حتى لو كانت صحيحة، لكن بطريقة ملتوية، يمكن أن تؤثر على حملة الحكومة، وهذا يعني أنه يمكننا أن نتعرض للسجن. ولكن مَن يحدد المقصود بـ(طريقة ملتوية)...؟».
- الاستفادة من حجم الغالبية
وعلى الرغم من إصرار المعارضة على إدخال بند يحدد المهلة الزمنية لهذا القانون، فقد رفض أوربان، ونجح بتمرير القانون بسبب سيطرته على ثلثي مقاعد النواب. ثم إنه رغم اعتراف النقاد والمعارضين بالظروف الاستثنائية التي توجب تمرير قوانين طوارئ، فإن مخاوفهم من الامتناع عن تحديد مهلة زمنية لإنهاء الطوارئ يعني أن الحكومة قد تبقي على هذا القانون حتى تاريخ الانتخابات المقبلة المقررة عام 2022 بحجة مكافحة الوباء، الذي يعتقد بأنه لن يكون تحت السيطرة الفعلية إلا بعد الموافقة على اللقاح، وهو أمر قد يستغرق سنة إضافية.
وحتى بعد إعلان المعارضة استعدادها لدعم القانون في حال جرى إدخال بند يحدد مهلة زمنية لرفعه، رفض الحزب اليميني الحاكم بزعامة أوربان رفض، وفق النائبة المعارضة أنياس فاداي. بل استخدم حزب أوربان رفض المعارضة التصويت على قانون الطوارئ في البرلمان ليتهمها بأنها «ضد الحرب على الفيروس». ووفق النائبة فاداي «بالطبع نحن ندعم الوضع الطارئ، ونوافق الحكومة على أن هناك حالة طارئة تستوجب فعل كل شيء لمواجهتها، وما كان طلبنا الوحيد إلا إدخال بند يحدد مهلة زمنية لقانون الطوارئ».
- انتقادات أوروبية بالجملة
المعارضة المجرية لم تكن وحدها الجهة التي أقلقها قانون الطوارئ هذا، بل سارعت الدول الأوروبية لانتقاد هذه الخطوة كذلك. وأصدرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بياناً في اليوم التالي للتصويت، دعت فيه إلى أن تكون كل الإجراءات الطارئة التي تتخذها الدول الأوروبية «محددة بما هو ضروري ومتناسب» ولا تدوم لأجل غير محدد، من دون أن تذكر المجر بشكل محدد.
وجاء في بيان فون دير لاين – وهي طبيبة – قولها «من المهم جداً ألا تكون الإجراءات الطارئة على حساب المبادئ الأساسية المحددة في معاهداتنا». وأعلنت المفوضية أنها ستراقب الإجراءات الطارئة التي تبنتها دول الاتحاد، كي تتأكد من أن القيم والمبادئ الأساسية ما زالت محفوظة.
وفي اليوم التالي، صدر بيان آخر عن كل من فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا، والدنمارك، واليونان، وجمهورية آيرلندا، وإيطاليا، ولاتفيا، ولوكسمبورغ، وهولندا، والبرتغال، وإسبانيا، والسويد. وعبّر هذا البيان عن دعمه إعلان المفوضية مراقبة الإجراءات الطارئة في دول الاتحاد، وانتقد الخطوات المجرية من دون تسمية الدولة بالاسم. ومما جاء «في هذه الظروف غير المسبوقة، يحق للدول الأعضاء أن تتبنى إجراءات طارئة بهدف حماية موطنيها، ولكننا مع ذلك قلقون للغاية من خطر خرق القوانين والديمقراطية والحريات الأساسية عبر تبني بعض الإجراءات الطارئة». وأضاف، أن الإجراءات الطارئة «يجب آن تكون محددة بما هو ضروري ومتناسبة ومؤقتة، وتخضع للتدقيق المستمر وتحترم القوانين والواجبات الدولية من دون أن تحد من حرية التعبير والإعلام».
وذهب وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن أبعد من ذلك، عندما قال بأن على الاتحاد الأوروبي أن «يعاقب» المجر، وأنه «ليس علينا القبول بأن تكون هناك حكومة يرأسها ديكتاتور داخل الاتحاد الأوروبي». ونقلت عنه صحيفة «دي فيلت» الألمانية قوله، إنه «يجب عزل المجر سياسياً من دون إضاعة الكثير من الوقت»، مضيفاً «أكثر من ذلك، فإن حكومة ما عادت تخضع للتدقيق من قبل البرلمان لا يجوز احتفاظها بصوت في مجالس الوزراء الأوروبية التي تتخذ قرارات تتعلق بالأوروبيين».
- الكتلة الحامية حتى الآن
لكن حزب أوربان ينتمي إلى كتلة الشعب في البرلمان الأوروبي، وهي الكتلة نفسها التي تضم حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وباقي الأحزاب اليمينية المعتدلة الأوروبية. وعلى الرغم من الكثير من النقاشات التي دارت في الماضي داخل الكتلة الكبيرة داعية لطرد حزب أوربان على اعتبار أنه ينتمي إلى تيار أحزاب اليميني المتطرف، فهو ما زال حتى الآن ينتمي إلى كتلة الشعب الأوروبية، مع أن الكتلة بالفعل علقت مشاركة الحزب خلال مارس (آذار) من العام الماضي؛ ما يعني أنه لم يعد يسمح له بالتصويت مع أحزاب الكتلة منذ ذلك الحين.
كان سبب الخلاف في ذلك الوقت تراكمياً يتعلق بخلافات حول السياسات الأوروبية للجوء. وكانت «القشة التي قصمت ظهر البعير» صورة دعائية مُعادية للمهاجرين نشرها الحزب وعليها صورة للملياردير اليهودي المجري (الأصل) جورج سوروس، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. وللعلم، دائماً ما يهاجم حزب أوربان سوروس لمساعداته السخية للاجئين، علماً بأنه من اليهود الناجين من المحرقة النازية في المجر. وخلال العام الماضي، تسببت قوانين جديدة تحد من حرية التعبير أدخلها أوربان، بدفع سوروس إلى نقل جامعته «الجامعة الأوروبية الوسطى» من العاصمة المجرية بودابست إلى العاصمة النمساوية فيينا بعدما بات مناخ العمل في المجر صعباً للغاية.
كذلك، بعد إعلان أوربان حالة الطوارئ، كتب 13 حزباً من أصل 47 ينتمون إلى كتلة الشعب الأوروبية، رسالة إلى رئيسها دونالد توسك يطلبون فيها طرد حزب «فيديز» من الكتلة، وعدم الاكتفاء فقط بتعليق عضويته.
... وموقف أميركي أيضاً
ولم تقتصر المواقف السلبية على أوروبا، بل جاءت كذلك انتقادات من الولايات المتحدة كانت أكثر وضوحاً. إذ قال إليوت إنغل، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي، إن أوربان «ينتزع السلطة بشكل صارخ في ظل أسوأ أزمة صحية عالمية في التاريخ الحديث». وأضاف إنغل، أن قانون الطوارئ «يهمّش البرلمان، ويسمح لرئيس الحكومة أوربان بأن يحكم بالمراسيم كالديكتاتورين. هذا ازدراء بالديمقراطية في أي مكان، وهو أمر شنيع، وخاصة إذا كان في دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي».
أيضاً، أثار القانون قلقاً شديداً في مجال حرية الإعلام؛ إذ دفع بالمجموعة التنفيذية لتحالف حرية الإعلام، التي تضم ألمانيا، وكندا، ولاتفيا، وهولندا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، إلى إصدار بيان منفصل من دون تسمية المجر. وعبّرت المجموعة عن قلقها «من جهود بعض الدول في الأزمة لفرض قيود تحد من حرية واستقلال الإعلام... هكذا أعمال تمنع المجتمعات من الحصول على معلومات مهمة فيما يتعلق بانتشار الوباء ويقلل من الثقة بالحكومات المسؤولة».
غير أنه رغم كل الجو العام، رد أوربان على كل الاتهامات بنفيها. وقال المتحدث باسمه زولتان كوفاكس، إن قانون الطوارئ «يتماشى مع المعاهدات الدولية والدستور المجري، وهدفه فقط مواجهة فيروس كورونا». وبرر كذلك وزير الدولة في حكومته سابا دوموتر الامتناع عن تحديد فترة زمنية لقانون الطوارئ بالقول، إن «لا أحد من الاختصاصيين والأطباء يمكنه القول إلى كم شهر علينا أن نستمر بالكفاح» ضد الوباء.
- التسلط المتزايد صار عادة
الواقع أنه منذ تسلّم أوربان رئاسة حكومة المجر عام 2010 وهو يدخل تعديلات تعزّز صلاحيات رئيس الحكومة. وخلال السنوات الماضية، قلص من صلاحيات المحكمة الدستورية، بل، لقد أصدر تعيينات لقضاة فيها يعتبرون مؤيدين له؛ ما يمنع حتى هذه السلطة الوحيدة القادرة على نزع قانون الطوارئ، عاجزة من مواجهته. كذلك لا يتوقع من البرلمان الذي يحكم السيطرة أوربان وحزبه قبضتهما عليه، أن يكون قادراً على نزع قانون الطوارئ. ما يعني بأن القرار برفعه عائد بشكل أساسي لأوربان نفسه.
في أي حال، تتردد أوروبا بمواجهة أوربان منذ سنوات. ولم يكن تعليق عضوية حزبه من كتل الشعب الأوروبية إلا خطوة أخرى ناقصة، تتأنى أوروبا في اتخاذها قبل الدخول في مواجهة مفتوحة مع الرجل الذي يحكم المجر منذ عقد من الزمن، ويدفع بالبلاد منذ الحين نحو سلطة مركزة أكثر فأكثر بيد رجل واحد.
من جهته، أوربان يسمي مقاربته مع الاتحاد الأوروبي بـ«رقصة الطاووس»، وهي المقاربة التي يعتمدها عبر تقديم تنازلات صغيرة كافية لإخراجه من مأزق كبير بينما يستمر بالعمل على إحداث التغييرات الكبيرة التي يسعى إليها لتحويل المجر إلى دولة أقل ديمقراطية، كما يراها كثيرون اليوم. وحقاً، اعتمد هذه المقاربة في معظم القوانين التي أثارت جدلاً داخل الاتحاد الأوروبي، وتسببت له بمشاكل معه.
ولعل مقاربته للجدل الذي أحاط إقالته لما يزيد على الـ400 قاض عام 2018 عبر تخفيض سن التقاعد من 70 إلى 62 سنة هي المثال الأفضل لشرح أسلوبه في التعاطي مع الاتحاد الأوروبي. فعندما خفّض سن تقاعد القضاة وعلت صرخة المعارضة، التي اتهمته بمحاولة تشديد قبضته على السلك القضائي من خلال إقالة هؤلاء القضاة لاستبدالهم بآخرين هو يختارهم. ومن ثم دخل في صراع قانوني طويل مع الاتحاد الأوروبي، في نهايته كان معظم القضاة قد اضطروا إلى قبول العرض الذي قدمته له الحكومة وقرّروا الاستقالة باكراً.
- ثمن التراخي الأوروبي
لذا؛ يوجه البعض اللوم للاتحاد الأوروبي بالتراخي مع أوربان، والسماح له منذ سنوات بتشديد قبضته على الحكم. وهذا، مع أن الرجل غالباً ما ينتقد الاتحاد الأوروبي، ويرفض حتى قرارات لا تتماشى مع أجندته الشعبوية، ولا سيما، تلك المتعلقة بـ«الكوتا» التي فرضها على دول الاتحاد لتوزيع اللاجئين. وراهناً، يروج الإعلام اليميني التابع لأوربان منذ بداية انتشار الوباء لقصص عن مدى «نجاعة» تعاطي الصين وروسيا مع الأزمة مقابل الفوضى التي تلف دول أوروبا الغربية في التعاطي مع الأزمة نفسها.
كل هذا رغم تلقي المجر مساعدات مالية كبيرة من الاتحاد الأوروبي بلغت 6 مليارات يورو في عام 2018، أي ما يعادل 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل مساهمة المجر بمليار يورو فقط لصندوق الاتحاد الأوروبي. أضف إلى ذلك، أن الكثير من المشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي، يستفيد منها أقرباء ومقرّبون من أوربان الذين يكافئهم بمنحهم معظم العقود التي تقدمها الدولة.
ويجمع عدد من السياسيين اليوم، من بينهم النائبة السابقة لرئيس المفوضية الأوروبية فيفيان ريدينغ، وهي من لوكسمبورغ، على أن الحل الوحيد المتبقي أمام أوروبا لمواجهة أوربان هو بقطع التمويل عنه، بعد طرد حزبه من كتلة الشعب الأوروبية.
وذكرت ريدينغ في حديث لموقع «بلومبيرغ» بأن الوقت قد لا يكون ملائماً الآن للاتحاد الأوروبي المثقل بأزمة الوباء، بأن يفتح باب أزمات جديداً، لكن على المدى الأبعد تقول فإن «إساءة استخدام حكم القانون يمكنه أن يسمم الاتحاد من الداخل»، وعلى أوروبا أن تواجه أوربان.
- المجر... لمحة تاريخية جغرافية
> المجر دولة من دول أوروبا الوسطى، و«حلف وارسو» سابقاً إبان حقبة الحرب الباردة. وهي بحدودها الحالية دولة لا تطل على البحر تبلغ مساحتها أكثر بقليل من 93 ألف كلم مربع، معظمها في سهل المجر الخصب، أما أهم أجسامها المائية فنهر الدانوب وبحيرة بالاتون.
يبلغ عدد سكان المجر نحو عشرة ملايين نسمة، غالبيتهم من المسيحيين الكاثوليك، ولغتها الرسمية اللغة المجرية كبرى مجموعة اللغات الفينو - أوغرية الأورالية التي تضم أيضاً الفنلندية، والإستونية، والكاريلية. وتحدها من الشمال سلوفاكيا، ومن الشمال الشرقي أوكرانيا، ومن الشرق والجنوب الشرقي رومانيا، ومن الجنوب صربيا، ومن الجنوب الغربي كرواتيا وسلوفينيا، ومن الغرب النمسا.
عاصمة البلاد وكبرى مدنها مدينة بودابست، التي هي أصلاً عبارة عن مدينتين بست وبودا اللتين يفصلهما الواحدة عن الأخرى نهر الدانوب. أما أبرز المدن الأخرى فهي ديبريسن وسيغيد وميشكولتس وبيش وديور وبيكشوبو.
عبر التاريخ تعاقبت على سكن أرض المجر الحالية شعوب عديدة، بينها الكلت، والرومان، والقبائل الجرمانية، والهون، والسلاف، والآفار. أما بدايات الكيان السياسي المجري فتعود إلى أواخر القرن الميلادي التاسع بفضل الأمير آرباد. وعام 1000م دخلت المسيحية مملكة المجر مع تولي الملك إسطفان الأول أحد أحفاد آرباد العرش.
خلال الفترة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر صارت المجر قوة إقليمية مرموقة. إلا أن هزيمتها في معركة موهاتش عام 1526 أمام العثمانيين بقيادة السلطان سليمان القانوني مكّن العثمانيين من احتلال إجزاء من أراضيها. وبعدها رضخت لحكم سلالة الهابسبورغ في مطلع القرن الثامن، ثم صارت جزءاً من الإمبراطورية النمساوية – المجرية، وذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وعبر معاهدة التريانون رسمت حدود المجر الحالية بخسارة 71 في المائة من أراضيها وأكثر من 58 في المائة من سكانها.
في الحرب العالمية الثانية كانت المجر ضمن قوى «المحور»، وبالتالي، مُنيت بخسائر فادحة، وانتهت في الفلك السوفياتي، جزءاً من أوروبا الشرقية الشيوعية، حتى سقوطها وانفراط «حلف وارسو» عام 1989. وهي منذ 2004 عضو في الاتحاد الأوروبي و«ناتو».


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.