عندما شكل البيت الأبيض، في 27 من يناير (كانون الثاني) الماضي، فريق العمل الخاص لمواجهة الفيروس التاجي (كورونا) المستجد المسبب لمرض «كوفيد-19»، فإنه عين على رأسه طبيبين موثوقين يتمتعان بخبرات دبلوماسية عالية، هما: الدكتورة ديبوراه بيركس منسقة الاستجابة للفيروسات التاجية (كورونا)، والدكتور أنتوني فاوتشي مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية.
ولكن على الفور بدت الفوارق واضحة بينهما، على الأقل في طريقة تعاملهما مع رئيس أميركي كدونالد ترمب، يمكن أن تتحوّل العلاقة معه في لحظة إلى مباراة في اللعب على حبل مشدود، قد تطيح «الثقة» و«الولاء» اللذين يعدهما أولوية مع مسؤولي إدارته، إذ بينما لوحظ على فاوتشي التكلم بصراحة، كانت بيركس أكثر مداراة، بل مسايرة، للرئيس في جل ما يقوله.
ينظر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكثير من المسؤولين في البيت الأبيض، إلى الدكتور أنتوني فاوتشي بدرجة من الشك، معتقدين أنه يميل أكثر من اللازم إلى شخصيته العامة، وأنه «مارق» في الرسائل التي يمرّرها. وفي المقابل، يعدون أن الدكتورة ديبوراه بيركس أكثر استعداداً للتحلي بالصبر مع ثقافة الرئيس ونظرياته الطبية. ولقد برز هذا الاختلاف بشكل واضح خلال الأسبوعين الماضيين، حين أثارت تعليقات بيركس عن أنه لا صحة للمعلومات حول نقص أجهزة التنفس وأسرة المستشفيات، وإشادتها بدور الرئيس واهتمامه بالتفاصيل، عدداً من التساؤلات عن مدى استقلاليتها، وسط أعداد الإصابات التي ترتفع متجاوزة دول العالم كلها تقريباً.
نشير هنا إلى أن نائب الرئيس مايك بنس، الذي يتولى رئاسة فريق العمل، كان قد بادر بشكل مبكر إلى تسميتها «ذراعه اليمنى»، في حين أن فاوتشي، ووفق كل الاستطلاعات، تحوّل إلى مصدر الثقة الأول لمعرفة الأخبار حول الوباء على المستوى الشعبي. وفي حين أشاد الجمهوريون ببيركس، ووصفوها بأنها «مقاتلة حقيقية أوقفت الهستيريا السائدة»، اتهمها منتقدو ترمب ومعارضوه بتبديد المصداقية التي طوّرتها بصفتها مسؤولة عن الصحة في الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة.
وحقاً، أثارت تعليقات بيركس حفيظة كثير من خبراء الصحة العامة، الذين شكّكوا بإمكانية مواجهة الوباء مستقبلاً، في ظل توقع موجة جديدة لانتشاره مع قدوم الخريف المقبل، ما لم يجر بناء مخزون كافٍ حقيقي من المعدات والأجهزة اللازمة لمعالجة المرضى، وهذا بالتزامن مع شكوك تحيط بإمكانية إنتاج الأجهزة في الوقت المناسب لمساعدة المستشفيات المنهكة، إذ حذر الدكتور هوارد بوشنر، رئيس تحرير مجلة الجمعية الطبية الأميركية، من حدوث «تسونامي محتمل». وقال الدكتور رايان ستانتون، عضو مجلس إدارة الكلية الأميركية لأطباء الطوارئ، إن الدكتورة بيركس بدت مثل «بناة السفينة تايتانيك الذين قالوا إن السفينة لا يمكن أن تغرق».
-- لعبة الحبل المشدود
بالطبع، هذا لا يقلل من أهمية دور الدكتورة بيركس وشخصيتها وتجربتها. وهي في سيرها على هذا الحبل المشدود، كانت مُجبرة على التأرجح بين الأطراف المتنافسة أحياناً في مجموعة العمل، التي تضم مجموعة من الأطباء والعلماء الذين شكّكوا في كثير من الأحيان بسياسة البيت الأبيض تجاه التعامل مع الوباء. ثم إنها أيدت في مناقشاتها الخاصة موقف أعضاء المجموعة الذين عملت معهم لعقود، في دفع وزارة الخارجية لإصدار توجيهات تمنع الرحلات البحرية. كذلك شاركت في إبداء تحفظاتها على تبني إدارة ترمب عقاقير الملاريا علاجاً محتملاً للوباء.
لكنها، في المقابل، علناً حافظت على هدوئها على منصة المؤتمر الصحافي اليومي الذي يعقده الرئيس، رغم نفيها وجود أزمة على صعيد التجهيزات الطبية للمستشفيات، أو وجود توجيهات للمستشفيات بعدم تقديم العناية الطبية لبعض المصابين بالوباء ممن يعانون من أمراض خطيرة، وهو الأمر الذي أكدته الوقائع في الأيام الأخيرة، ودافع عنه ترمب في بداية الأسبوع، قائلاً: «لم يحتج أحد لسرير في مستشفى وحُرم منه، ولا أحد احتاج إلى جهاز تنفس ولم يجر توفيره له». ولكن وفقاً لجمعية طب الرعاية الحرجة، يوجد حالياً 160 ألفاً إلى 200 ألف جهاز للتنفس في الولايات المتحدة، بينما يحتاج ما يصل إلى مليون مريض لاستخدام الأجهزة في أثناء تفشي المرض.
وفي هذه الأثناء، جدد ترمب هجومه على وسائل الإعلام وساسة الحزب الديمقراطي، قائلاً إنهم يستهدفونه بشكل خاص، ويروّجون أنه عنصري معاد للأجانب، واصفاً ذلك بـ«الأخبار الزائفة». وقال: «أنا أسجل كل ذلك لأن الأخبار الزائفة كثيرة، قيل عني أنني أكره الأجانب مثلما قالت (نانسي) بيلوسي (رئيسة مجلس النواب) وجو بايدن (المرشح الديمقراطي)».
-- توتر ترمب - فاوتشي
كانت شبكة «سي إن إن» قد أعلنت، الأسبوع الماضي، أن مكتب نائب الرئيس مايك بنس منع كلاً من ديبوراه بيركس وأنتوني فاوتشي من الظهور على شاشتها، ما لم توافق الشبكة على بث الإحاطات الإعلامية اليومية كاملة عن فيروس «كوفيد-19» في البيت الأبيض. وللعلم، في وقت سابق أوقفت الشبكة نقل وقائع الشق الذي يتحدث فيه ترمب، ويجيب عن أسئلة الصحافيين. والسبب، حسب كثير من المعلقين، تحول النقل اليومي إلى منصة لحملة ترمب السياسية والانتخابية، يتحدث فيه عن كل شيء، خصوصاً لمخاطبة قاعدته الحزبية، فيما خصمه الديمقراطي جو بايدن قابع في منزله يجاهد لمخاطبة جمهوره.
ورغم عدم صدور نفي أو تأكيد من البيت الأبيض عن هذه الواقعة، فإن ظهور فاوتشي، يوم الأحد الماضي، على شاشة الشبكة، أسقط هذا الاتهام. لكن مقابلته هذه كلفته تغريدات وتعليقات طالبت بطرده، وأعاد ترمب نشرها، بعد قوله إن التصدي المبكر للوباء كان يمكن أن يحفظ أرواحاً كثيرة. ورغم التوضيحات المتبادلة من البيت الأبيض وفاوتشي حول «سوء فهم تعابيره»، بدا واضحاً أن مستقبله مع الرئيس بات موضع شك.
-- الحفاظ على سمعتها وإرضاء ترمب
وفي أي حال، بنت الدكتورة بيركس سمعتها طيلة سنوات بصفتها مسؤولة صحية كبيرة مقبولة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. واستوعبت الرياح السياسية الأخيرة عبر توجيه الإطراء لترمب الذي يطلبه من مساعديه. وقالت في مقابلة تلفزيونية: «لقد كان منتبهاً للغاية للتفاصيل والبيانات، وأظهر قدرة على تحليل البيانات ودمجها بشكل مفيد خلال مناقشاتنا حول القضايا الطبية».
كثير من المتخصصين والمسؤولين الطبيين أعربوا على الأثر عن تعاطفهم معها، إذ قال الدكتور توماس فريدن، الذي عمل معها عندما كانت تدير مراكز التصدي لفيروس الإيدز «إن تسخير الإرادة السياسية لتنفيذ توصيات كبار خبراء الصحة العامة في أمراض الجهاز التنفسي في البلاد، وتنظيم الحكومة لإدارة الاستجابة بشكل فعّال أمر صعب، فكثير من الأرواح تعتمد على تحقيق هذا التوازن الصحيح».
-- بطاقة شخصية
ولكن من هي بيركس؟
ديبوراه ليا بيركس طبيبة دبلوماسية عقيد في الجيش الأميركي، متخصصة في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (الإيدز) وأبحاث اللقاحات والصحة العالمية. في الفترة من 2014 إلى 2020، عملت بيركس سفيرة متجولة ومنسقة عالمية لـ«الإيدز»، داخل الولايات المتحدة وخارجها، حيث كانت مسؤولة عن خطة الرئيس الطارئة لبرنامج الإغاثة من «الإيدز» في 65 دولة تدعم علاج فيروس نقص المناعة المكتسب، وبرامج الوقاية منه.
ولدت بيركس عام 1956، في مقاطعة لانكستر بولاية بنسلفانيا. والدها دونالد بيركس، عالم رياضيات مهندس كهربائي، ووالدتها أديل سباركس بيركس، مدربة التمريض. وتعيش الآن مع والديها وزوجها وأحد أفراد عائلة ابنتها في منزل العائلة.
تلقت علومها الأولى في مدرسة وثانوية لامبيتر في ستراسبورغ. وقدّمت عام 1971 مشروعها العلمي الأول في معرض لانكستر سيتي كاونتي للعلوم، عن علم النبات القديم.
وفي العام التالي، احتلت بيركس -التي كانت آنذاك طالبة في المدرسة الثانوية- المركز الثالث في المعرض نفسه، مع مشروع أكثر عمقاً حول علم النبات والصخور. وفي مقابلة معها عام 1972، أوضحت بيركس اهتمامها بموضوع مشروعها، قائلة «أوافق على أن التاريخ قد لا يساعدك في التنبؤ بالمستقبل، لذلك أحب الصخور؛ إنها أكثر ثباتاً من الناس».
ثم انتقلت عائلة بيركس إلى مدينة كارلايل في بنسلفانيا، حيث تخرجت من مدرستها الثانوية. وعام 1976، حصلت على درجة البكالوريوس في الكيمياء من كلية هوتون. وفي عام 1980، حصلت على الدكتوراه في الطب من مركز هيرشي الطبي في جامعة ولاية بنسلفانيا.
وبين عامي 1980 و1994، عملت بيركس ضابط احتياط نشط في الجيش الأميركي. ومن عام 1994 إلى عام 2008، عملت في الجيش النظامي، وحصلت على رتبة عقيد.
ثم من عام 1980 إلى عام 1989، عملت بيركس طبيباً في مركز «والتر ريد» الطبي العسكري، مع الإشارة إلى أنها في عام 1981، أكملت فترة تدريب لمدة عام واحد، وعملت لمدة عامين في الطب الباطني. وبين عامي 1983 و1986، أكملت زمالتين في علم المناعة السريري في مجالات الحساسية والتشخيص، حيث عملت في مختبر الدكتور أنتوني فاوتشي.
-- تخصصها نقص المناعة
من عام 1985 إلى عام 1989، كانت ديبوراه بيركس مساعد رئيس خدمة مركز والتر ريد للحساسية والمناعة. وبعدما بدأت حياتها المهنية طبيبة في علم المناعة، فإنها ركزت في نهاية المطاف على أبحاث لقاح فيروس نقص المناعة. ومن عام 1986 إلى عام 1989، عملت في المعاهد الوطنية للصحة (NIH) محققاً متخصصاً في علم المناعة الخلوي.
وعادت بيركس إلى والتر ريد، حيث عملت في الفترة من 1989 إلى 1995 في قسم أبحاث الفيروسات القهقرية، رئيساً مساعداً ثم رئيسة القسم. وكانت مديرة مختبر في تطوير لقاح نقص المناعة المكتسب (HIV-1) لمدة سنة. وأصبحت مديرة برنامج أبحاث فيروس نقص المناعة البشرية العسكري للولايات المتحدة في معهد والتر ريد للأبحاث التابع للجيش، وهو المنصب الذي شغلته لمدة 9 سنوات، من عام 1996 إلى 2005. وقادت من منصبها هذا التجربة السريرية للقاح (RV-144) لفيروس نقص المناعة البشرية، أول دليل داعم على فعالية أي لقاح في الحد من خطر الإصابة بهذا الفيروس.
وخلال الفترة من 2005 إلى 2014، عملت بيركس مديرة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في قسم فيروس نقص المناعة البشرية - الإيدز العالمي (DGHA)، وهو جزء من مركز الصحة العالمية التابع للوكالة. وفي يناير (كانون الثاني) 2014، رشح الرئيس السابق باراك أوباما بيركس لتكون سفيرة عامة ومنسقة عالمية لـ«الإيدز» في الولايات المتحدة، كجزء من خطته الطارئة للإغاثة من «الإيدز» (PEPFAR).
ويوم 4 أبريل (نيسان) 2014، ثبت مجلس الشيوخ تعيينها، ووصفت دورها سفيرة للمساعدة في تحقيق أهداف الوقاية والعلاج من فيروس نقص المناعة البشرية التي حددها أوباما في عام 2015 لإنهاء وباء الإيدز بحلول عام 2030. وكجزء من عملها للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية، أنشأت بيركس برنامجاً سمي «دريمز» (DREAMS) في اختصار لكلمات «عازم ومرن وممكّن وخالي من الإيدز وموجه ومأمون» بالإنجليزية، وهو شراكة بين القطاعين العام والخاص يركز على تقليل معدلات الإصابة بين المراهقين والشبان.
-- موقعها الحالي
في عهد الرئيس دونالد ترمب، في 27 فبراير (شباط) 2020، عينها نائب الرئيس مايك بنس في منصب منسقة الاستجابة للفيروسات التاجية (الكورونا) في فريق العمل الذي أسسه البيت الأبيض. وفي مارس (آذار) 2020، أصبحت عضوة في مجلس إدارة الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا.
وأخيراً، على صعيد التقديرات والأوسمة، حصلت بيركس عام 1989 على وسام الاستحقاق، وعام 1991 على وسام الجدارة من وزارة الدفاع الأميركية. وعام 2008، حصلت على وسام المدير المتميز من المجلس التنفيذي الاتحادي. وفي عام 2011، على جائزة الإنجاز مدى الحياة من الجمعية الأفريقية للطب المخبري، وعام 2014 على وسام الامتياز من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.
ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين
منسّقة الاستجابة لفيروسات «كورونا» في فريق عمل البيت الأبيض
ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة