ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين

منسّقة الاستجابة لفيروسات «كورونا» في فريق عمل البيت الأبيض

ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين
TT

ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين

ديبوراه بيركس... طبيبة تسير على حبل مشدود بين الولاء لترمب وصحة الأميركيين

عندما شكل البيت الأبيض، في 27 من يناير (كانون الثاني) الماضي، فريق العمل الخاص لمواجهة الفيروس التاجي (كورونا) المستجد المسبب لمرض «كوفيد-19»، فإنه عين على رأسه طبيبين موثوقين يتمتعان بخبرات دبلوماسية عالية، هما: الدكتورة ديبوراه بيركس منسقة الاستجابة للفيروسات التاجية (كورونا)، والدكتور أنتوني فاوتشي مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية.
ولكن على الفور بدت الفوارق واضحة بينهما، على الأقل في طريقة تعاملهما مع رئيس أميركي كدونالد ترمب، يمكن أن تتحوّل العلاقة معه في لحظة إلى مباراة في اللعب على حبل مشدود، قد تطيح «الثقة» و«الولاء» اللذين يعدهما أولوية مع مسؤولي إدارته، إذ بينما لوحظ على فاوتشي التكلم بصراحة، كانت بيركس أكثر مداراة، بل مسايرة، للرئيس في جل ما يقوله.
ينظر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكثير من المسؤولين في البيت الأبيض، إلى الدكتور أنتوني فاوتشي بدرجة من الشك، معتقدين أنه يميل أكثر من اللازم إلى شخصيته العامة، وأنه «مارق» في الرسائل التي يمرّرها. وفي المقابل، يعدون أن الدكتورة ديبوراه بيركس أكثر استعداداً للتحلي بالصبر مع ثقافة الرئيس ونظرياته الطبية. ولقد برز هذا الاختلاف بشكل واضح خلال الأسبوعين الماضيين، حين أثارت تعليقات بيركس عن أنه لا صحة للمعلومات حول نقص أجهزة التنفس وأسرة المستشفيات، وإشادتها بدور الرئيس واهتمامه بالتفاصيل، عدداً من التساؤلات عن مدى استقلاليتها، وسط أعداد الإصابات التي ترتفع متجاوزة دول العالم كلها تقريباً.
نشير هنا إلى أن نائب الرئيس مايك بنس، الذي يتولى رئاسة فريق العمل، كان قد بادر بشكل مبكر إلى تسميتها «ذراعه اليمنى»، في حين أن فاوتشي، ووفق كل الاستطلاعات، تحوّل إلى مصدر الثقة الأول لمعرفة الأخبار حول الوباء على المستوى الشعبي. وفي حين أشاد الجمهوريون ببيركس، ووصفوها بأنها «مقاتلة حقيقية أوقفت الهستيريا السائدة»، اتهمها منتقدو ترمب ومعارضوه بتبديد المصداقية التي طوّرتها بصفتها مسؤولة عن الصحة في الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة.
وحقاً، أثارت تعليقات بيركس حفيظة كثير من خبراء الصحة العامة، الذين شكّكوا بإمكانية مواجهة الوباء مستقبلاً، في ظل توقع موجة جديدة لانتشاره مع قدوم الخريف المقبل، ما لم يجر بناء مخزون كافٍ حقيقي من المعدات والأجهزة اللازمة لمعالجة المرضى، وهذا بالتزامن مع شكوك تحيط بإمكانية إنتاج الأجهزة في الوقت المناسب لمساعدة المستشفيات المنهكة، إذ حذر الدكتور هوارد بوشنر، رئيس تحرير مجلة الجمعية الطبية الأميركية، من حدوث «تسونامي محتمل». وقال الدكتور رايان ستانتون، عضو مجلس إدارة الكلية الأميركية لأطباء الطوارئ، إن الدكتورة بيركس بدت مثل «بناة السفينة تايتانيك الذين قالوا إن السفينة لا يمكن أن تغرق».
-- لعبة الحبل المشدود
بالطبع، هذا لا يقلل من أهمية دور الدكتورة بيركس وشخصيتها وتجربتها. وهي في سيرها على هذا الحبل المشدود، كانت مُجبرة على التأرجح بين الأطراف المتنافسة أحياناً في مجموعة العمل، التي تضم مجموعة من الأطباء والعلماء الذين شكّكوا في كثير من الأحيان بسياسة البيت الأبيض تجاه التعامل مع الوباء. ثم إنها أيدت في مناقشاتها الخاصة موقف أعضاء المجموعة الذين عملت معهم لعقود، في دفع وزارة الخارجية لإصدار توجيهات تمنع الرحلات البحرية. كذلك شاركت في إبداء تحفظاتها على تبني إدارة ترمب عقاقير الملاريا علاجاً محتملاً للوباء.
لكنها، في المقابل، علناً حافظت على هدوئها على منصة المؤتمر الصحافي اليومي الذي يعقده الرئيس، رغم نفيها وجود أزمة على صعيد التجهيزات الطبية للمستشفيات، أو وجود توجيهات للمستشفيات بعدم تقديم العناية الطبية لبعض المصابين بالوباء ممن يعانون من أمراض خطيرة، وهو الأمر الذي أكدته الوقائع في الأيام الأخيرة، ودافع عنه ترمب في بداية الأسبوع، قائلاً: «لم يحتج أحد لسرير في مستشفى وحُرم منه، ولا أحد احتاج إلى جهاز تنفس ولم يجر توفيره له». ولكن وفقاً لجمعية طب الرعاية الحرجة، يوجد حالياً 160 ألفاً إلى 200 ألف جهاز للتنفس في الولايات المتحدة، بينما يحتاج ما يصل إلى مليون مريض لاستخدام الأجهزة في أثناء تفشي المرض.
وفي هذه الأثناء، جدد ترمب هجومه على وسائل الإعلام وساسة الحزب الديمقراطي، قائلاً إنهم يستهدفونه بشكل خاص، ويروّجون أنه عنصري معاد للأجانب، واصفاً ذلك بـ«الأخبار الزائفة». وقال: «أنا أسجل كل ذلك لأن الأخبار الزائفة كثيرة، قيل عني أنني أكره الأجانب مثلما قالت (نانسي) بيلوسي (رئيسة مجلس النواب) وجو بايدن (المرشح الديمقراطي)».
-- توتر ترمب - فاوتشي
كانت شبكة «سي إن إن» قد أعلنت، الأسبوع الماضي، أن مكتب نائب الرئيس مايك بنس منع كلاً من ديبوراه بيركس وأنتوني فاوتشي من الظهور على شاشتها، ما لم توافق الشبكة على بث الإحاطات الإعلامية اليومية كاملة عن فيروس «كوفيد-19» في البيت الأبيض. وللعلم، في وقت سابق أوقفت الشبكة نقل وقائع الشق الذي يتحدث فيه ترمب، ويجيب عن أسئلة الصحافيين. والسبب، حسب كثير من المعلقين، تحول النقل اليومي إلى منصة لحملة ترمب السياسية والانتخابية، يتحدث فيه عن كل شيء، خصوصاً لمخاطبة قاعدته الحزبية، فيما خصمه الديمقراطي جو بايدن قابع في منزله يجاهد لمخاطبة جمهوره.
ورغم عدم صدور نفي أو تأكيد من البيت الأبيض عن هذه الواقعة، فإن ظهور فاوتشي، يوم الأحد الماضي، على شاشة الشبكة، أسقط هذا الاتهام. لكن مقابلته هذه كلفته تغريدات وتعليقات طالبت بطرده، وأعاد ترمب نشرها، بعد قوله إن التصدي المبكر للوباء كان يمكن أن يحفظ أرواحاً كثيرة. ورغم التوضيحات المتبادلة من البيت الأبيض وفاوتشي حول «سوء فهم تعابيره»، بدا واضحاً أن مستقبله مع الرئيس بات موضع شك.
-- الحفاظ على سمعتها وإرضاء ترمب
وفي أي حال، بنت الدكتورة بيركس سمعتها طيلة سنوات بصفتها مسؤولة صحية كبيرة مقبولة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. واستوعبت الرياح السياسية الأخيرة عبر توجيه الإطراء لترمب الذي يطلبه من مساعديه. وقالت في مقابلة تلفزيونية: «لقد كان منتبهاً للغاية للتفاصيل والبيانات، وأظهر قدرة على تحليل البيانات ودمجها بشكل مفيد خلال مناقشاتنا حول القضايا الطبية».
كثير من المتخصصين والمسؤولين الطبيين أعربوا على الأثر عن تعاطفهم معها، إذ قال الدكتور توماس فريدن، الذي عمل معها عندما كانت تدير مراكز التصدي لفيروس الإيدز «إن تسخير الإرادة السياسية لتنفيذ توصيات كبار خبراء الصحة العامة في أمراض الجهاز التنفسي في البلاد، وتنظيم الحكومة لإدارة الاستجابة بشكل فعّال أمر صعب، فكثير من الأرواح تعتمد على تحقيق هذا التوازن الصحيح».
-- بطاقة شخصية
ولكن من هي بيركس؟
ديبوراه ليا بيركس طبيبة دبلوماسية عقيد في الجيش الأميركي، متخصصة في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (الإيدز) وأبحاث اللقاحات والصحة العالمية. في الفترة من 2014 إلى 2020، عملت بيركس سفيرة متجولة ومنسقة عالمية لـ«الإيدز»، داخل الولايات المتحدة وخارجها، حيث كانت مسؤولة عن خطة الرئيس الطارئة لبرنامج الإغاثة من «الإيدز» في 65 دولة تدعم علاج فيروس نقص المناعة المكتسب، وبرامج الوقاية منه.
ولدت بيركس عام 1956، في مقاطعة لانكستر بولاية بنسلفانيا. والدها دونالد بيركس، عالم رياضيات مهندس كهربائي، ووالدتها أديل سباركس بيركس، مدربة التمريض. وتعيش الآن مع والديها وزوجها وأحد أفراد عائلة ابنتها في منزل العائلة.
تلقت علومها الأولى في مدرسة وثانوية لامبيتر في ستراسبورغ. وقدّمت عام 1971 مشروعها العلمي الأول في معرض لانكستر سيتي كاونتي للعلوم، عن علم النبات القديم.
وفي العام التالي، احتلت بيركس -التي كانت آنذاك طالبة في المدرسة الثانوية- المركز الثالث في المعرض نفسه، مع مشروع أكثر عمقاً حول علم النبات والصخور. وفي مقابلة معها عام 1972، أوضحت بيركس اهتمامها بموضوع مشروعها، قائلة «أوافق على أن التاريخ قد لا يساعدك في التنبؤ بالمستقبل، لذلك أحب الصخور؛ إنها أكثر ثباتاً من الناس».
ثم انتقلت عائلة بيركس إلى مدينة كارلايل في بنسلفانيا، حيث تخرجت من مدرستها الثانوية. وعام 1976، حصلت على درجة البكالوريوس في الكيمياء من كلية هوتون. وفي عام 1980، حصلت على الدكتوراه في الطب من مركز هيرشي الطبي في جامعة ولاية بنسلفانيا.
وبين عامي 1980 و1994، عملت بيركس ضابط احتياط نشط في الجيش الأميركي. ومن عام 1994 إلى عام 2008، عملت في الجيش النظامي، وحصلت على رتبة عقيد.
ثم من عام 1980 إلى عام 1989، عملت بيركس طبيباً في مركز «والتر ريد» الطبي العسكري، مع الإشارة إلى أنها في عام 1981، أكملت فترة تدريب لمدة عام واحد، وعملت لمدة عامين في الطب الباطني. وبين عامي 1983 و1986، أكملت زمالتين في علم المناعة السريري في مجالات الحساسية والتشخيص، حيث عملت في مختبر الدكتور أنتوني فاوتشي.
-- تخصصها نقص المناعة
من عام 1985 إلى عام 1989، كانت ديبوراه بيركس مساعد رئيس خدمة مركز والتر ريد للحساسية والمناعة. وبعدما بدأت حياتها المهنية طبيبة في علم المناعة، فإنها ركزت في نهاية المطاف على أبحاث لقاح فيروس نقص المناعة. ومن عام 1986 إلى عام 1989، عملت في المعاهد الوطنية للصحة (NIH) محققاً متخصصاً في علم المناعة الخلوي.
وعادت بيركس إلى والتر ريد، حيث عملت في الفترة من 1989 إلى 1995 في قسم أبحاث الفيروسات القهقرية، رئيساً مساعداً ثم رئيسة القسم. وكانت مديرة مختبر في تطوير لقاح نقص المناعة المكتسب (HIV-1) لمدة سنة. وأصبحت مديرة برنامج أبحاث فيروس نقص المناعة البشرية العسكري للولايات المتحدة في معهد والتر ريد للأبحاث التابع للجيش، وهو المنصب الذي شغلته لمدة 9 سنوات، من عام 1996 إلى 2005. وقادت من منصبها هذا التجربة السريرية للقاح (RV-144) لفيروس نقص المناعة البشرية، أول دليل داعم على فعالية أي لقاح في الحد من خطر الإصابة بهذا الفيروس.
وخلال الفترة من 2005 إلى 2014، عملت بيركس مديرة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في قسم فيروس نقص المناعة البشرية - الإيدز العالمي (DGHA)، وهو جزء من مركز الصحة العالمية التابع للوكالة. وفي يناير (كانون الثاني) 2014، رشح الرئيس السابق باراك أوباما بيركس لتكون سفيرة عامة ومنسقة عالمية لـ«الإيدز» في الولايات المتحدة، كجزء من خطته الطارئة للإغاثة من «الإيدز» (PEPFAR).
ويوم 4 أبريل (نيسان) 2014، ثبت مجلس الشيوخ تعيينها، ووصفت دورها سفيرة للمساعدة في تحقيق أهداف الوقاية والعلاج من فيروس نقص المناعة البشرية التي حددها أوباما في عام 2015 لإنهاء وباء الإيدز بحلول عام 2030. وكجزء من عملها للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية، أنشأت بيركس برنامجاً سمي «دريمز» (DREAMS) في اختصار لكلمات «عازم ومرن وممكّن وخالي من الإيدز وموجه ومأمون» بالإنجليزية، وهو شراكة بين القطاعين العام والخاص يركز على تقليل معدلات الإصابة بين المراهقين والشبان.
-- موقعها الحالي
في عهد الرئيس دونالد ترمب، في 27 فبراير (شباط) 2020، عينها نائب الرئيس مايك بنس في منصب منسقة الاستجابة للفيروسات التاجية (الكورونا) في فريق العمل الذي أسسه البيت الأبيض. وفي مارس (آذار) 2020، أصبحت عضوة في مجلس إدارة الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا.
وأخيراً، على صعيد التقديرات والأوسمة، حصلت بيركس عام 1989 على وسام الاستحقاق، وعام 1991 على وسام الجدارة من وزارة الدفاع الأميركية. وعام 2008، حصلت على وسام المدير المتميز من المجلس التنفيذي الاتحادي. وفي عام 2011، على جائزة الإنجاز مدى الحياة من الجمعية الأفريقية للطب المخبري، وعام 2014 على وسام الامتياز من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.